دوس الذات!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
هناك مَنْ يراجع ذاته، يحاسبها وينقدها بشدة حد الجلد. هذا أمر يمكن تفهمه، فمراجعة الذات ونقدها سلوك حميد بجميع الأحوال. لكنك لا تستطيع أن تفهم حال من يدوس ذاته، يهينها ويزدريها، بل يحتقرها، مع إحساس بالنشوة والزهو والفخر أيضاً، كما لو كان غائبا عن الوعي بفعل مخدر ما، أو مغيب الوعي، مغررا به، أو كليهما معا!
تشعر بالحسرة والشفقة في آن معا، حيال تباهي بعضنا اليمني، بدوس علم دولته، وازدراء هويته وذاته، ونعت وحدة بلاده بـ”الوحلة”، نكاية بتداعيات صراع سياسي تلى إعادة توحيد شطري اليمن في 22 مايو 1990م، بعدما شطرهما الاحتلالان التركي للشمال والبريطاني للجنوب، بمعاهدة ترسيم حدود لما تحت سيطرة كلٍ منهما، عام 1905م.
حدث هذا من جديد، انتشرت صور وفيديوهات عدة، لمسلحين يتبعون “المجلس الانتقالي الجنوبي”، وهم يحتفلون بدوس علم الجمهورية اليمنية، تغمرهم نشوة الانتصار، إنما على أنفسهم، لأنهم لا يعلمون أن هذا العلم، كان علم استقلال جنوب اليمن بعدما أجبرت ثورة 14 أكتوبر الخالدة، بريطانيا على سحب قواتها صاغرة، في 30 نوفمبر 1967م.
تلك حقيقة، مشهودة للعيان، يومها، خزنتها الأذهان واستقرت في الوجدان، مثلما وثقتها الكاميرات بالصور الفوتوغرافية والمشاهد الفيلمية لرفع هذا العلم، يوم 30 نوفمبر 1967، على المباني الحكومية والميادين والمنازل، والسيارات والحافلات ومسيرات المواطنين الاحتفالية بانتزاع الاستقلال، واستقبال رئيس وفد مفاوضاته، قحطان الشعبي، بمطار عدن.
لكن هذا مجهول لمعظم أتباع “المجلس الانتقالي الجنوبي” ومطالباته بالانفصال عن الجمهورية اليمنية، أو ما يسميه “استعادة دولة الجنوب العربي”، في إشارة إلى ما عُرف باسم “جمهورية اليمن الجنوبي” لثلاثة وعشرين عاما تلت استقلال جنوب اليمن وصراعات الحرب الباردة، وحتى إعادة توحيد شطري اليمن ورفع العلم نفسه على صارية قصر الرئاسة بمدينة عدن.
يهتف هؤلاء وجُلهم لم يعاصروا نضال انتزاع الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، وكفاح ثورة 14 أكتوبر 1963م وثوارها المناضلين من جميع أنحاء اليمن؛ بهوية مزورة أطلقتها سلطات الاحتلال على كيان سارعت لإنشائه إثر ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن، ودمجت فيه 23 سلطنة ومشيخة وإمارة، ظلت تفرخها بمعاهدات حماية واستشارة (وصاية).
يرددون ما يلقنهم طامحو السلطة، اسم هذا الكيان “الجنوب العربي” بوصفه دولتهم المراد استعادتها، وهويتهم التي يزعمون ألاَّ علاقة لها باليمن وأنهم “جنوبيون”! مع أنها جهة مكان لا هوية إنسان، ومع أن العلم الشطري الذي يرفعونه لكيان سياسي عُرف باسم “جمهورية اليمن الديمقراطية”، ولم يستطع التنصل من هويته اليمنية، الثابتة والشاخصة للعيان!
يحدث هذا، على الرغم من أن المسخ البريطاني “الجنوب العربي” وكما كان مولده، مات غريبا في عامه “الاسمي” الخامس، بانتزاع الاستقلال وقيام “جمهورية اليمن الجنوبي الشعبية” عام 1967م، تتويجا لثورة 14 أكتوبر 1963م، التي تصدرت أهدافها إعادة توحيد شطري اليمن، وبذلت لأجله دماء وأرواح عشرات الآلاف من الثوار من جميع أنحاء اليمن.
ويستمر هذا، رغم أن “القضية الجنوبية” حقوقية في المقام الأول، لا قضية “هوية شعب وعرقية” وغير ذلك مما يراد صبغها. قضية لا يكون حلها بالانفصال بدولة مستقلة، ولو كان هذا حلا لكل مشكلة صراعات سياسية امتدت إلى حروب مسلحة وخلفت ضحايا ومظالم، لكان تعداد دول العالم تجاوز اليوم المائة ألف دولة على أقل تقدير، لا نحو 192 دولة.
يظل العزاء، أن سياسيي “الانتقالي” ومسلحيه، قلة بشهادة أعدادهم ومؤيديهم في تظاهراتهم ومسيراتهم، ولا يمثلون فعليا الملايين من أهلنا في جنوب البلاد، الفخورين بانحدارهم من همدان وحمير وقحطان. لكن هذه القلة تحظى بدعم مالي وعسكري وسياسي وإعلامي إماراتي وسعودي، مقابل أجندة أطماع لم تعد خافية على أحد، في موقع اليمن الاستراتيجي وجزره وثرواته.

أترك تعليقاً

التعليقات