كفاية هدرا!
- ابراهيم الحكيم الجمعة , 5 أغـسـطـس , 2022 الساعة 6:58:35 PM
- 0 تعليقات
إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
يشعر المرء بغصة وتنتابه حسرة، وهو يرى في كل موسم ومطرة، سيولا عظيمة. عشرات الملايين من المترات المكعبة في جميع أنحاء البلاد، تذهب هدرا، وتنتهي هباء في البحر أو في الفيافي. دون أن يحصدها، الرواد الأوائل لهندسة حصاد مياه الأمطار والري، في تاريخ البشرية المعروف، وفقا لدراسات علمية غربية صادرة عن معاهد وبعثات التنقيب عن الآثار في عموم اليمن، وبصورة أكثر تخصصا، البعثة الألمانية منها!
تخيلوا. يحدث هذا الهدر في بلد رواد هندسة حصاد مياه الأمطار، كل قطرة غيث، وعباقرة منشآت هذا الحصاد النهم لمصدر المياه الأهم لبلد وشعب لا أنهار جارية لديه ولا بحيرات مياه عذبة، ولا أي مصدر مائي، عدا ترقب غيث السماء والاستعداد له بكل عزم وهمة، استعدادا رسميا وشعبيا، لحصاد وخزن كل قطرة منه، بمنشآت مائية عدة، حصر الباحثون أبرزها وأعمها رواجا وانتشارا في عموم اليمن القديم، بست عشرة منشأة مائية رئيسة، رائدة وعبقرية وفقا لدراسات البعثة العلمية الألمانية للتنقيب عن الآثار في اليمن، فإن هذه المنشآت المائية الرئيسة لحصاد مياه الأمطار والري في اليمن، من أهم مفردات الحضارة اليمنية القديمة التي صدرتها للبشرية، وتبدأ من “العرم” أكبر وأقدم السدود في العالم، مرورا بالسدود المتوسطة، والحواجز، والكرفانات (الكروف)، والبحيرات الاصطناعية، والصهاريج، والبُغد (كنفق بينون)، والمواجل، والسايلات، والقنوات تحت الأرض (كغيل باوزير)، والبرك، والسواقي، إلخ.
لقد حار علماء الآثار الألمان، طويلا، في كيفية حفر اليمنيين الكروف (خزانات داخل الجبال) والبُغد (الأنفاق عبر الجبال). بأي وسيلة حفرت ونحتت، وخلال كم من الوقت؟ لكنهم بعد بحث مستفيض، خلصوا إلى أن قلق الإنسان اليمني جعله أقدم مراقبي السماء فبرع في علوم حساب الوقت (الفلك ومراقبة النجوم والرياح)، ولأنه برع أيضا في التعدين واستخراج البرونز والنحاس والحديد والفضة والذهب، فقد كان يعلم أن الحجارة تلين في الصيف.
مؤسف أن تنحسر هذه الخبرات المتراكمة على مر آلاف السنين، وأن تندثر هذه المهارات ومعها العزائم والهمم، وقبل ذلك استشعار المسؤولية، وهاجس الاكتفاء الذاتي، مياها وزراعة وحياكة وصناعة. مؤلم جدا أن ينتهي المآل باليمنيين إلى العجز عن حصاد مياه الأمطار، وعن تجنب آثارها وسيولها على الحقول الزراعية والطرقات والمباني والمنازل، وأن تغرق القرى والمدن اليمنية “في شبر ماء” كما يقال، أو حتى في ذراع ماء، يظل مخجلا ومؤلما!
ربما كان مرد هذا الانحسار وهذا الاندثار، دخول اليمنيين كافة في غيبوبة. فقدانهم ذاكرتهم، حتى جهلوا مفردات حضارتهم ومقومات قوتهم وأسباب اتساع سيادتهم وريادتهم الأمم في مجالات شتى. غيبوبة تدخلت في إحداثها عوامل عدة، أبرزها برأيي، تفرق أيدي سبأ، ودورات الصراع العبثي، وانتكاسات الغزو والاحتلال الأجنبي لموقع اليمن الاستراتيجي، وصولا لإعدام قيم العمل والإنتاج والاكتفاء في الخمسين عاما الماضية، والركون على الوافد المستورد!
تعرضت شخصية الإنسان اليمني خلال نصف قرن، لمسخ ممنهج. تحول اليمني من إنسان يقدس العمل ويعتز بالإنتاج ويفخر بالاكتفاء الذاتي، إلى إنسان عامل، يهجر أرضه طلبا لوظيفة حكومية في المدن، أو ليكون عاملا أجيرا في دول “البترودولار”، ويحتمل صنوفا شتى من المعاناة والمهانة، ليس أقلها معاناة التنكيل ومهانة الكفيل ورهاب الترحيل، في دول ناشئة طارئة على التاريخ، ترفع رايات العروبة والإسلام، وتمول معاول هوانهما وضعفهما!
مع ذلك، يظل الأمل قائما، وبوارقه تلوح في الأفق. أعني التوجه نحو استعادة أمجاد اليمن، بدءا باستعادة استقلاله وسيادته وحريته وإرادته وتبعا إدارته. هذه الجهود الحثيثة للتوسع في الزراعة والسعي نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء سبيلا للتحرر والسيادة واستقلال الإرادة. جهود تستحق المؤازرة والإشادة وتوجب التفاعل والمساهمة، مثلما توجب عناية مماثلة بإحياء خبرات ومهارات اليمنيين في هندسة منشآت حصاد مياه الأمطار والري.
في هذا، أسعدني كثيرا، ما أُنجز في محافظة صعدة، إحدى أكبر سلال اليمن الغذائية ومصدر أطيب الفواكه على الإطلاق. تابعت تقريرا مصورا، عن إنشاء بحيرات اصطناعية وحواجز مائية لتغذية آبار المياه الجوفية في المحافظة، و”تشييد قرابة 20 منشآة مائية ما بين بحيرات وحواجز وسدود وآبار، خلال العام 2021م لحصاد قرابة مليوني متر مكعب من مياه الأمطار والسيول”، حسب مدير مكتب وزارة الزراعة والري في محافظة صعدة، زكريا المتوكل.
عمل رائع، يتزامن مع مشروعات كبيرة لمرحلة ما بعد الحصاد، آخرها افتتاح سوق مركزي لتعليب وتسويق المنتجات الزراعية. لكن الأمل يظل في أن يصدر قرار من أعلى هرم السلطة، بتعميم هذا التوجه إلزاميا وجعله يتصدر الأولويات في جميع المحافظات، وأن يتفاعل مع القرار الجهد الشعبي، عن قناعة ويقين بأن هذا هو درب المجد، وسبيل الخلاص من الفقر والهوان والضعف والتبعية والارتهان، ويستدعي من كل يمني حر شريف الإخلاص فيه.
المصدر ابراهيم الحكيم
زيارة جميع مقالات: ابراهيم الحكيم