مِفْرَزة اليمن وغزة
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
يأتي بين عظيم هبات الله وفضله، وحكيم سُننه، وقويم خلقه، وعميم نعمه، فطر الوجود على مِفْرَزة دونها الحياة على أرضه، كانت لتغدو أنكد، ومشكلات انحرافاتها أعقد، ومعالجات تقويمها أبعد، وصولات الباطل وتجبر أهله أشد، وطغيان البغي أحد، واضطرام نيران الشر أوقد.
تؤدي هذه المِفْرَزة دور الغربلة، لأقوام الأمم المتعاقبة في مسيرة هذه الحياة الممتدة حتى يشاء خالقها. إنها مِفْرَزة المواقف، تغدو بمثابة أشعة «إيكو» وأشعة «سونار»، إنما ليس لفحص جنس الجنين في رحم أمه، بل لمحص المؤمنين من خلقه.
الحياة حبلى بما لا يحصى من الأمثلة لفاعلية هذه المِفْرَزة، لعل أبرزها عدوان تحالف الإثم والجرم على اليمن وحصاره الظالم. أبان هذا الحدث الجلل بجلاء كثيرا مِن العلل، وأظهر بجلاء أيضا مكمن الخلل، وفرز أقوام الأمة إلى مِلل ونِحَل!
بدا هذا العدوان بمثابة فرقان، وضع الجميع على محك دقيق البيان. جميعنا شهد كيف فرز العدوان بين الصحيح والعليل، البصير والضليل، الأصيل والعميل، الرجل والرغيل، الأبيّ والذليل، الأشم والسفيل، وبين العدو والخليل!
سرعان ما أبانت هذه المِفْرَزة بوضوح ساطع، معادن البشر، فأظهرت النفيس منها والرخيص. ميزت بدليل قاطع بين الطيب والخبيث، وأجلت الفرق بين الحزم والجُرم، والحسم والهدم، وفرقت بين الخير والشر، وبين الحق والباطل.
كذلك الحال الآن في هذه المحنة؛ تواصل الأبية فلسطين الحرة، وغزة قلعة المنعة وقبلة العِزة، في زماننا، زمان التيه والخيبة، وحالنا الموبوء بالجُبن والمذلة؛ المسير بكل إباء وعزم وتضحية نحو تقرير مصير هذه الأمة.
تمضي فلسطين وقلعتها غزة، في تأدية دور المِفْرَزة، تغربل البشر من كل عرق ومِلة، غربلة دقيقة أمينة المهمة، مِن دون أي مظنة أو شبهة. تميز بين الإنسان بالفطرة، ومن بات يشكو علة وخلة مردها أحقاد النفس المضلة.
يحدث هذا منذ 75 سنة تلت اغتصاب فلسطين الحرة. ظلت المؤامرة مستمرة، علنية لا مستترة، تتخللها مناورة ومراوغة، مداهنة ومساومة، مهادنة ومداهمة، استكانة وانقضاضة، تصعيد وتهدئة، مفاوضة ومخادعة، نخاسة ومقاومة.
بقيت الرؤية ملتبسة والمزايدة محتدمة، العمالة مشرعة والخيانة معلنة. ظلت الغاية واضحة لا مبهمة، والوسيلة صريحة لا مواربة: سلب ونهب فلسطين المكان، قتل وتشريد وتهويد الإنسان، وصولا إلى تصفية الحق ووأده.
اليوم يتجدد الأمر بوتيرة مستعرة، ويتواصل طوال 78 يوما مشتعلة. الدوافع حاضرة غير مستترة، قديمة، قائمة لا مستحدثة. والذرائع جاهزة متوافرة لا منعدمة، لوأد الحق: خنق صوته، بتر عروقه، اقتلاع جذوره، وإبادة أهله!
تدمير منازل أصحاب الأرض متواصل بكل طغيانه، وتشريد الفلسطينيين من مساكنهم مستمر بكامل تسلطه، والتهجير قسرا لشعب من أرضه يجري علنا بكل تجبره، واستكمال تبديد الحق ما توقف ولو للحظة!!
التهديد في أوجّه، والتصعيد على أشده. تمديد رقعة الاحتلال يسير بكامل قوته، وتأكيد خطر الاقتلاع والابتلاع في ذروته. تهويد الحجر والبشر جارٍ على قدم وساق، والتعويد على الجرم والهدم سائر بكل خدعه. التأييد المجرم ودعمه قائم بكل نفاق.
لكن غزة الحرة، ومقاومتها الفذة، رغم كل ما تعانيه من خذلان عرب وطغيان حرب، وتكالب وتعاون الغرب، وكل ما تواجهه من عدوان وكرب، تمضي بكل عزم وهمة، وحماس وقوة، في كتابة تاريخ الكفاح وصناعة مستقبل الفلاح.
مهمة صعبة قياساً بالظروف المُرّة، تجسد إرادة حُرّة، ومقدرة فذة في مواجهة النوائب والصروف، وتحدي المصائب والظروف. مقدرة جمة على الصبر والجَلد واحتمال الضر والكَبَد، على العطاء والبذل والفداء، وإيمان بالله وعدل القضاء.
تفرز غزة شعوب هذه الأمة، وتميز بجلاء في هذه المحنة بين البشر والحجر، الواعي والغاوي، المدرك والتارك، العالم والواهم، الصادق والمنافق، الأمين والخائن، الغيور والديوث، الباذل والخاذل، المغيث والمعيث، المنجد والمُجند، العامل والعميل.
تؤكد غزة، كأي أبية حُرّة، ألا شيء يكسر الإباء بالمرة، لا شتاء ولا رمضاء، لا جفاء ولا بغضاء، لا عداء ولا خناء، لا حرب ولا كرب، لا عدوان ولا خذلان. تقول للعرب والغرب: لا شيء يعادل الكرامة والحرية، ولا يهن من تعلق بحبل رب العزة... والله غالب على أمره.

أترك تعليقاً

التعليقات