صناعة العجز!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
حين تأتي لقطاع “الصناعة والتجارة”، تصدمك بيانات الإحصاء السنوية. معظم المنشآت بقالات تموين وليست حتى تجارة جملة! وباستثناء مصنعي تعليب أسماك التونة، ومصانع إنتاج وتعبئة مياه للشرب، بقية المرافق الصناعية الغذائية، خفيفة، تختص بتعبئة وتغليف مواد خام مستوردة.
“مصانع” الألبان والزبادي والأجبان لا تتبعها مزارع أبقار، وأغذية البقوليات لا تتبعها مزارع فول وفاصوليا وبازلاء. العصائر أيضاً تخلط بودرة مستوردة وصبغات ملونة، رغم محاصيل الفواكه المحلية الأفضل مذاقا وجودة وتلف فائضها!
زيوت الطهي والأسمان هي أيضاً، لا تُنتج وتُصنع من مزارع محلية لأزهار عباد الشمس أو حتى من تصفية وتكرير مشتقات النفط المحلي. الصابون والمنظفات كذلك. السجائر والكبريت أيضاً، لا تنتج من مزارع تبغ محلية، بل من تبغ مستورد أكثر أنواعه رديئة وخليط مع نشارة خشب وورق! ودون إنتاج قداحات (ولاعات)!
بلغت فوضى التخطيط في بلادنا طوال عقود، حد خنق البن اليمني الأجود والأغلى عالمياً وخلط المصدر منه مع أنواع مستوردة رديئة، واستيراد الثوم والقرفة والهيل والملح والحلبة أيضاً لشعب يوصف أنه شعب الحلبة!
هناك منشآت صناعة تحويلية محدودة الحجم والعدد أيضاً بأصابع اليد، كمصنعي أسمنت “عمران” و”باجل” الحكوميين والمصانع الثلاثة الأخرى الخاصة بشراكات استثمار مع ماليزيا والسعودية، وكسارات مادة الجبس وحجارة ورخام البناء، ومعامل البلوك والطوب والبلاط الأسمنتي لا السراميك.
تضاف إليها، مصانع تعبئة وتغليف دهانات الطلاء، ومصانع إعادة تدوير مخلفات البلاستيك والألمنيوم لإنتاج أوانٍ منزلية، ومصافي النفط في عدن ومأرب، مع أنها لا تنتج زيوت محركات السيارات وكوابحها وناقلات حركتها وكربيتر تبريدها، ومواد المنظفات.. إلخ مشتقات للنفط.
لا توجد في اليمن حتى اليوم بقياس الزمان وثورة العلوم والتكنولوجيا؛ صناعات حقيقية، متوسطة وثقيلة، تتناسب وبداهة امتلاك اليمن ثروات معدنية خام وبمخزون وفير ومغرٍ، كصناعات إنتاج الحديد والنحاس في بلد دلت آثاره المكتشفة في الحدأ وغيرها، معرفته بل وريادته لها تعديناً واكتشافاً لمناجم الحديد والبرونز والنحاس والذهب والفضة، استخراجاً وصهراً وطرقاً وتشكيلاً منذ 6000 عام (4000 قبل الميلاد). إنها كارثة، بل مؤامرة!
لا تجد تفسيراً مقنعاً لهذا التخلف والقفار. أي مانع قاهر لأن تقوم في بلد ثري بالمواد الخام، صناعات الزجاج والبلاستيك والنحاس والألومنيوم، كوابل الكهرباء والاتصالات، البطاريات، ألواح الطاقة الشمسية، أنابيب ومعدات ومضخات المياه، المصابيح ومعدات ومولدات الكهرباء، أسطوانات الغاز المنزلية وخزانات قاطرات نقلها، الدراجات الهوائية والنارية والسيارات.. إلخ ما يستهلكه هذا الشعب بنهم ويدفع لشرائه مليارات من عرق كده وحريق الدم!
في المقابل، تفجع بواقع صناعات عتيقة اشتهر بها اليمن عبر التاريخ. الغزل والنسيج للملأ والقُصب والبُرد والكرك (المعاطف) واللحافات والشيلان والصدريات (العباء)، والكوافي الخيزان.. إلخ.
المشغولات النحاسية المعاشر والموائد والشمعدان والمباخر والمسارج والأرجيلات (المدائع)، صناعة وصياغة الحلي، الفخار وأواني الحجر والمدر، الجلود ودباغتها وتطريزها، النعال السبتية والحضرمية والملسنة والمصبعة والمشبكة، السيوف اليزنية واليهرعشية، الجنابي (الخناجر)، الهوادج والخزائن وصناديق كسوة العروس الشهيرة.
كل هذه وغيرها الكثير من الصناعات اليمنية الشهيرة، التي ظلت حاضرة حتى الخمسينيات؛ انحسرت معظمها وانقطعت أجيال صانعيها وحرفييها، بل وسُرقت حرفياً وتحويراً وباتت تُصنع بدول عدة تنسب إليها، رغم أن بينها دولا حديثة النشأة، طارئة على تاريخ المنطقة والبشرية.
حدث هذا -مع الأسف- بجناية خبيط التخبط وشطيط الحطيط المسمى (التخطيط)، وفوضى إدارة الصناعة والتجارة، والانكباب على تشجيع وتسهيل الاستيراد بلا قيد، لتشمل حتى الجنابي. تخيلوا أحد أبرز رموز الهوية اليمنية، بات يستورد من الصين!
تحولت إدارة أو وزارة الصناعة والتجارة طوال عقود من الزمان، إلى وزارة لصناعة العجز، مجرد وكيل للخارج وصناعاته. مهمتها الرئيسة إبعاد اليمن عن الاكتفاء الذاتي وإغراقه في الاعتماد على استيراد الإنتاج الخارجي. هدفها فتح وتوسيع أسواق محلية لاستهلاك الصناعات الخارجية، على حساب الصناعات اليمنية الأصيلة (التقليدية) وإمكانات تطويرها، ميكنةً وإنتاجاً وتصديراً. مجرد وكيل لاستنزاف احتياطي البلاد النقدي من العملات الأجنبية على حساب تدهور قيمة العملة اليمنية!
جميعنا يتذكر كيف ظلت وزارة الصناعة والتجارة تلهث عبر سلسلة مفاوضات لسنوات طويلة لقبول اليمن في منظمة التجارة العالمية (الجات) والانضمام لاتفاقيتها التي تخدم المصنع وحقوقه الفكرية والمادية، تمنع تقليد منتجاته وآلات مصانعه وتلزم العالم بفتح أسواقه لها دون قيد أو شرط. سنوات من التفاوض ولجان لتحويل الوزارة موظفاً لتعميم العولمة (النظام العالمي: نظام القطب الواحد) ومبدئه الليبرالي في تبرير النفوذ والهيمنة: “دعه يعمل.. دعه يمر”.
النتيجة العامة، كانت رهن اليمن للدول الصناعية الكبرى. لهيمنة نفوذها المتخطي مجرد توريد وبيع احتياجات اليمن من سلع مقومات العيش الغذائية والدوائية والكسائية، إلى رهن قرار اليمن وسيادته لإرادة هذه الدول. أما الثمن فكان ربط “فُتات” منحها ومساعداتها المالية بإملاءات سياسية وتدخلات تشمل جميع القطاعات الإدارية والمجتمعية والثقافية والتعليمية والدينية والتشريعية والتخطيط والتنمية والأمن والجيش.. إلخ، ما يعزز نفوذها ويخدم مصالحها وأجندات أطماعها في موقع وثروات اليمن وسوقه الاستهلاكية.

أترك تعليقاً

التعليقات