مظلومية الجنوب!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيـم الحكـيم / لا ميديا -

يتردد كثيراً، وعلى نحو منظم ترويجا وتبريرا، تهويلا وتضليلا، تحريضا وتثويرا، عنوان "مظلومية جنوب اليمن"، مرتكزا في الظاهر المشاع على معطى "حق سياسي" و"حق تحرري" و"مطلب شعب ذي هوية". لكن تعالوا، بعيدا عن العواطف، لندقق في هذه المعطيات، وما مدى واقعيتها أو حقيقتها، وبالاعتماد على المصادر التاريخية المتاحة، الدولية والبريطانية والعثمانية ومؤلفات كبار المؤرخين، بما فيهم مؤرخو المحافظات الجنوبية أنفسهم. 
يتحدث دعاة الانفصال في جنوب اليمن عن معطى سياسي يعنونونه بـ "استعادة الدولة". وحين تتساءل: ما هي هذه الدولة؟ يقولون: "الجنوب العربي"! مع أن إعادة توحيد شطري اليمن جرت بين نظامين سياسيين هما "الجمهورية العربية اليمنية" في شمال اليمن، و"جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" في جنوب اليمن. ولم تكن بين الجمهورية العربية اليمنية وما يسمى "الجنوب العربي".
"الجنوب العربي" كيان مات في مهده، بعد 9 سنوات على تأسيس سلطات الاحتلال البريطاني له بدمج ما كانت تسميه "المحميات الجنوبية والشرقية"، التي قسمتها 23 سلطنة وإمارة ومشيخة شكلية بمعاهدات "اعتراف متبادل بالشرعية"، ودمجه بالقوة مع "مستعمرة عدن" منتصف سبتمبر 1962، لمنع التحام شطري اليمن وتأمين دوام هيمنتها على جنوبه بمعاهدة حماية ووصاية مطلقة ومهينة.
لكن هذا الكيان وأدته ثورة 14 أكتوبر 1963، بانتزاعها الاستقلال الكامل وجلائها الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967، وقامت دولة "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية" ثم "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". وكلتاهما احتفظتا بهويتهما اليمنية، اسما وتوجها، نحو الالتحام مع شمال اليمن، طوال 23 عاما شهدت نحو 80 محطة مباحثات وحدوية، بفعل تباين نظامي الشطرين والحرب الباردة.
ظل رؤساء وحكومات صنعاء وعدن في مباحثات توحيد نظاميهما السياسيين والاقتصاديين والعسكريين (الليبرالي والاشتراكي) وقوانين كليهما، ما بين لقاءات قمة رئاسية وحكومية ولجان سياسية وفنية وقانونية وأمنية. وما تخللها من حروب شنها نظام عدن على الشمال تحت شعار "فرض الوحدة بالقوة" عام 1972 ثم عام 1979، وما بينهما من حروب الجبهة اليسارية التابعة لنظام عدن.
وبعد أن فقد نظام عدن اليساري الاشتراكي داعمه الرئيس، ممثلا بالاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وتراكمت ديونه بمليارات الدولارات، ضغط سياسيا باتجاه تسريع مباحثات الوحدة وأصر على "وحدة اندماجية فورية"، رافضا مقترح نظام صنعاء "وحدة كونفدرالية ثم وحدة فيدرالية" يجري خلالها ردم الهوة الاقتصادية والسياسية بين "ليبرالية" صنعاء و"اشتراكية" عدن مجتمعيا.
تلك حقائق مثبتة، لا لبس فيها أو غبار عليها، أفضت إلى اندماج جمهوريتي اليمن شمالا وجنوبا وذوبانهما في كيان دولة واحدة هي "الجمهورية اليمنية"، بموجب إقرار مجلسي "الشورى" في صنعاء و"الشعب" عدن اتفاقية الوحدة ومشروع دستورها، وتصويت غالبية الشعب في شمال وشرق وغرب وجنوب اليمن على دستور الجمهورية اليمنية في استفتاء شعبي عام وحر ومباشر.
لم يكن الأمر إذن احتلالا ولا غصبا من الشمال، بل على العكس كان الغصب والضغط من جنوب اليمن. ولم يكن نهبا "لثروات الجنوب"، بل تحمل شمال اليمن ديون عدن والإنفاق على دولة الوحدة من إيرادات نفطه وغازه وصادراته، طوال 4 سنوات، قبل أن يبدأ لاحقا ظهور نفط شبوة وحضرموت، وكرس نحو 60% من إيرادات الدولة المركزية لتنمية جنوب اليمن طوال 20 عاما.
نعم، حدثت مظالم إقصاءات لقيادات سياسية وعسكرية، ومصادرة ممتلكات قيادات إعلان الانفصال في صيف 1994، وسقط ضحايا في حرب مواجهة الانفصال. لكن الضحايا كانوا من مدنيي وعسكريي الشمال والجنوب على حد سواء، فضلا عن أن الآثار لا تقاس بآثار حربي نظام عدن على الشمال عامي 72 و1979 وما بينهما، ولا حتى بآثار فرض الاشتراكي حكمه جنوب اليمن كاملا. 
حتى هذه "الإقصاءات" لسياسيين وعسكريين من المحسوبين على قيادة "الانفصال"، ونهب ممتلكات بعض منهم، نفذها جنوبيون من قيادات ما عُرف باسم "الزمرة" النازحة إلى شمال اليمن إثر انقلاب 13 يناير 1986، انتقاما من تنكيل ما عُرف باسم "الطغمة" بها، وظلت تتصدى لأي توجهات نحو معالجة آثار حرب 1994، بما في ذلك "اللجنة العليا لمعالجة آثار حرب 1994" برئاسة هادي.
كذلك الحال مع "لجنة القضية الجنوبية" وتقرير الراحلين صالح باصرة وعبد القادر هلال، جمدت قيادة "الزمرة" نفسها، وحلفاؤها في الشمال من تجمع الإصلاح (الإخوان) توصياته ومقترحاته للمعالجات، وظلت تجمدها حتى بعد أن تصدرت حكم اليمن في 2012 وعطلت تنفيذ المقررات الثلاثين (النقاط 11+20) لمؤتمر الحوار بشأن القضية الجنوبية، وحتى اليوم تمعن في تهييج التهاباتها.
بقي معطى ما يسمى "مطلب شعبي" وما يسمى "هوية شعب الجنوب"، والشق الأول منه لا يُقاس -قطعا- بحشود أتباع مكون سياسي يجري حشدهم من 8 محافظات في ساحة عروض عدن. أما الشق الثاني فلا شواهد عملية لـ "خصوصية فارقة" أو "مفردات هوية" مختلفة كليا لما يسمى "شعب الجنوب" عن باقي أفراد الشعب اليمني، شمالا وشرقا وغربا وجنوبا، بقدر طغيان التشابه.
وقطعا، فإن ما يسمى "شعب الجنوب" لا ينحدرون من عرقية مختلفة عن باقي اليمنيين، بل على العكس يتحدرون من (قبائل وبطون وأفخاذ) واحدة لسكان شمال وشرق وغرب اليمن، ولا ينكرونها حين التأصيل والتفصيل لأصولهم وتفرعاتهم القبلية، بل يفتخرون بها جميعهم، باستثناء قلة ممن نزحوا أو هاجروا إلى اليمن واستوطنوا فيها من شعوب أخرى، ومنهم من يغذون نعرات الانفصال.
قد ينكر يمنيون جنوبيون هويتهم -مع الأسف- مكابرة وعنادا، في سياق المطامح بحكم مستقل أو دولة مستقلة، لكنهم لا يستطيعون إثبات إنكارهم هذا. فعليا، لا ينكر أهل الضالع وأبين ولحج (ومنهم يافع) وشبوة حميريتهم، مثلما لا ينكر الكثيريون همدانيتهم، وأهل حضرموت عموما قحطانيتهم. وإن فعلوا أو فعل بعضهم نكاية بوحدة اليمن العضوية، فإنهم مطالبون بنسب وتأصيل عروبة "جنوبيتهم".
الحاصل إذن، أن مرتكزات دعاوى "انفصال جنوب اليمن" واهية وبلا سند يعتد به، بما في ذلك قرارا مجلس الأمن المدفوعان من السعودية ودول الخليج في 1994 لإنفاذ إرادتها الانتقامية من موقف الجمهورية اليمنية من اجتياح العراق للكويت؛ بقدر ما هي مزاعم يسوغ بها تيار أو تيارات سياسية سعيها إلى اقتطاع مساحة جغرافية وحكمها، حتى ولو كان الثمن الارتهان للخارج ووصايته، كما فعل طامحو الحكم مع بريطانيا، واعترافهم باحتلالها جنوب اليمن مقابل اعترافها بشرعية حكمهم 23 سلطنة ومشيخة شكلية!

أترك تعليقاً

التعليقات