طاهر علوان

طاهر علوان الزريقي / لا ميديا -

مــع شـهر رمضان المبارك من كل عام، تتدفق علينا المسلسلات الهابطة والأعمال التلفزيونية المبتذلة والفاقدة صفة التكامل الفني والموضوعي، نصوص لا تقوم على التماسك الموضوعي للحدث ولا على المعالجة الدرامية المتمكنة من أدواتها الفنية؛ بل على استعراض مقرف للأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية، حيث يبدأ الحدث ولا يكتمل، ليس لأنه مايزال هناك في رحم الحاضر مستقبل جديد لم يتشكل بعد؛ بل لأن تركيبة هذه الأحداث كما صيغت لا تحمل في طياتها إلا جنيناً مشوهاً ليس أمامه فرصة للحياة، فالأحداث والشخصيات وليدة أفكار متناثرة، وبلا تناسق أو ترابط، كأنها تمارين ذهنية تفتقد الانتماء لفن المسلسلات التلفزيونية وإلى المعالجة الدرامية المتمكنة من أدواتها التقنية، وإن تمسحت وتمحكت به كثيراً.

هزال فني وتسطيح درامي
مسلسلات هابطة تتكرر تفاصيلها كل عام ومعالجتها الدرامية المملة والباردة والطريقة السمجة ذاتها، لا تنظيم في إطار النص ولا في التشكيل الدرامي للحدث، ومع ذلك تحاول برغم هزالها أن تفرض سيطرتها على مشاعر وعقول المشاهدين لتوظفها في مجرى الخنوع والضحالة الفكرية والإبداعية، والمشكلة هي أن تلك المسلسلات لم تكتف بنصب جدار بين الإبداع الجاد والهادف وبين الجمهور؛ بل إنها حولت ذلك الجدار إلى سجن لكليهما لكي تستفرد بهما نفياً وعزلاً من جهة وتسطيحاً وتجهيلاً من جهة أخرى، بحيث لا تتركنا نحتفظ في ذاكراتنا بأي مسلسل من تلك المسلسلات، أو بأي شخصية من شخصيات العمل الدرامي نتيجة الهزالة في بنية تشكيل المشهد وفي تشكيل اللقطات، والتسطيح الدائم في المعالجة الدرامية للحدث، باعتبار أن المعالجة الدرامية هي التي تصل بالعمل الفني إلى الذروة الفنية المطلوبة درامياً، مما يجعل الحدث في جو طبيعي غير مفتعل ولا متصنع؛ بل حميماً وبعيداً عن المباشرة التي تعد ضد الفن الإبداعي الراقي والواعي لكل أدواته الفنية والموضوعية. توليفات غير مقنعة في أغلب المواقف، إخراج ضعيف لا يستطيع التحكم والسيطرة على سير الحدث وحرارة المشهد، وبذلك أصبحت الأحداث ثانوية وهامشية مهمتها إيصال السذاجة والابتذال، وارتجال المواقف، وافتعال الأحداث لاسيما في المشاهد التي تفترض أن توحي بأجواء درامية عالية المستوى والجودة.

سقوط في مطب التكرار والاستسهال
مسلسلات تسعى إلى مغازلة الجمهور ودغدغة عواطفه بالتوابل التقليدية المكررة، والثرثرة الدرامية، وهيكل الحدوتة الهزيلة والهزلية، وسطحية الشخصيات التي تملأ المشاهد هولاً وتهريجاً أحياناً، وصراخاً ونواحاً أحايين أخرى.
مسلسلات استنفدت كل ما لديها وسقطت في مطب التكرار والاستسهال وقالت كل ما تستطيع قوله وبطريقة سمجة ومملة، ولم يبق من طبيعتها كمسلسلات درامية إلا التهريج، وابتعدت عن الفن الذي يقترب من واقع الحياة واحتياجات الإنسان الروحية والمعنوية، وأوجدت حالة من الاغتراب بمحيطها الاجتماعي. 
لقد ظهرت متغيرات كثيرة في الساحة اليمنية وقطع الفكر والحس الفني والاجتماعي والسياسي مراحل متقدمة من النضج، وما كان مطروحاً قبل الثورة أصبح كلاسيكياً، وتلك المسلسلات لازالت تتنفس هواءً مستعملاً ولم يبق من طبيعتها الفنية إلا الفوضى والهزالة وهشاشتها الداخلية من سيناريو وحوار وإخراج وتمثيل، وما أكثر السخافات التي توظف كي تكون فناً، مما يترك أثراً فادحاً على رسالة الفن وقدرته في إيقاظ وعي الجمهور، بحيث تبعث فيه الرغبة في إعادة النظر إلى الواقع برؤية أكثر نفاذاً لأعماقه المضطربة وتعقيداته ومتغيراته.

غياب الجودة والجدية
مهمة الفن بشكل عام خلق ثقافة إنسانية بقيمها النبيلة والملتزمة بقضايا المجتمع والهادفة إلى خير وسعادة المجتمع وحمايته من السقوط السياسي والاجتماعي، فالفن إرادة واعية مدركة لطبيعة الواقع والفن معاً، والعمل الفني المتكامل يفرض على المتلقي السير والتواصل معه حتى النهاية، والمعيار الوحيد في أي عمل درامي أو أدبي هو الجودة المؤسسة على الصدق الفني والتناول الجاد للقضايا الاجتماعية والسياسية، فمهمة المسلسلات في هذا الجانب الابتعاد عن حكاية الحواديث، فالفنان ليست وظيفته أن يسلي الجمهور، وإنما رسالته أن يوقظ الوعي ويعمل على إيصال رسالة حب الوطن ومواصلة الصمود والتحدي ورفض الظلم، والابتعاد عن الفن الرخيص المبتذل الذي يفتقد أي منطق واقعي درامي، والابتعاد أيضاً عن الأساليب الفنية الساذجة والأحداث التي تفتقد الاتساق مع البناء الموضوعي للحدث أو المعالجة الدرامية الساذجة، ولا بد أن يكون العمل الفني ابن واقعه، يتحدث بلغته ومحيطه الاجتماعي وبلهجته السائدة، وبالمعالجة الدرامية المترابطة بحيث تتجلى فيــه فنــون الأداء الرفيع، ويقوم الإبداع فيه على أسس من علم الدراما الحديث وعلم الاجتماع، وليس الأداء المفتعل والمتصنع والإرادة الغائبة، والجمود، والتكرار، والصراخ المتواصل، وأن يقدم الجديد لا التكرار الممل على مستوى الصورة والإيقاع.

ثغرات فنية وأدبية قاتلة
ما لاحظناه هو أن التكـرار كـان ملازماً لمعظم المسلسلات التي عرضت باستثنــاء مسلســل "بعـد الغيــاب" الذي تميز بتناوله للقضايا الأساسية والمصيرية (الثورة والعدوان) وانعكاساتهما على الواقع الاجتماعي والسياسي، إلا أن المعالجة الدرامية كانت سطحية إلى حد كبير.
نحن لا نشكك في إيمان ونوايا صناع المسلسل بالقضايا التي تناولوها فيه، ولكن إن كان للنوايا مكان في عالم الفن لجاز لنا أن ننظر إلى بعض المسلسلات الرمضانية من باب حسن النية وسلامة الطوية، وإن كان ذلك لا يشفع لها تواضع المستوى الفني الذي لا تستطيع أن تتجاوزه، وهو المستوى المتدني الذي لا بد أن يترك أثراً فادحاً على قدرة المسلسل في الوصول برسالته وأهدافه للمشاهدين. هناك ثغرات فنية وأدبية قاتلة تحول المسلسل إلى وصلات من الخطب والمواعظ والصراخ المتواصل، حيث يرتفع صوت الممثل أو الممثلة حتى ينشرخ ويفقد أهم خواصه، وهي الرنين والجرس، حيث يتم تحميل الصوت أكثر من قدرته على توصيل الشحنات الانفعالية، وبذلك تصبح أغلب المواقف كأنها مجرد تسميع لمحفوظات، وأستثني من هذا الأداء دور "الفقيه" ودور "صادق".

حسن النية لا يكفي
لا يكفي حسن النية لإبداع دراما متكاملة بالمعايير الفنية، مسلسل "بعد الغياب" يدخل ضمن الدراما الموجهة أو الفن التقريري المباشر الذي يتم إنتاجه لمواجهة ظروف معينة لا تلبث أن تتغير، وبالتالي يفقد المسلسل بريقه الذي اكتسبه لأسباب غير فنية. حسن النية وحده لا يكفي لإنتاج دراما جيدة، فالتحدي الحقيقي هو إنتاج عمل متكامل من الناحية الموضوعية والفنية، هناك جمع في مجالات العمل الدرامي من سيناريو وحوار وإخراج، فلا يمكن أن يجتمع في شخص معين تخصص السيناريست والإخراج والحوار، فلكل مجال وتخصص قواعد وأسس علمية ودراسة أكاديمية.
مسلسل "بعد الغياب" غابت عنه المعالجة الدرامية القوية والمتماسكة في معالجة الأحداث، فالكاميرا لا تكذب، تسجل كل شيء تسجيلاً حقيقياً، وتكشف ما هو حقيقي وما هو مفتعل وضعيف وما هو استخفاف بعقول المشاهدين والسياق الذي يتجاهل الجانب الموضوعي والدرامي.

أترك تعليقاً

التعليقات