يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -
جعل الروائي المبدع بسام شمس الدين روايته «نبوءة الشيوخ» ممتعة مفعمة بالدهشة وبالحيوية، وأظنها ستعطي انطباعا جيدا عن الرواية اليمنية في الخارج والتي لم ترض كثيرا من القراء والنقاد في الداخل لعدة أسباب.
عندما أقرأ روايات بسام شمس الدين أشعر كأنني أستمع إلى شيخ كبير قد احدودب ظهره وتجعد جلده فيبدو كخرتيت عجوز قد صيفن قرنه الوحيد القديم، إلا أنه بكامل وعيه وذاكرته لا تخون.
يبدع بسام بوصف شخصياته لدرجة خيالية، فيأخذ القارئ معه إلى النهاية وبأسلوب يصل لدرجة الأفينة، من الأفيون، كذلك يفعل في وصفه المكان.. فالوصف الخيالي هو سر لذة الحكاية لديه، وهذا عائد إلى المخزون الحكائي الشعبي الهائل في ذاكرته، ويملك بنكا من الصور الساخرة بالإضافة للوعي الثقافي للتراث، وهذا واضح من خلال ما قرأته في روايتيه «نبوءة الشيوخ» و«زواج فرحان»، وكلتاهما تتخذان من الريف مسرحا لمجريات أحداثهما.
ومن خلال هذا التكثيف الوصفي والتصويري للشخصيات والأمكنة والمشاهد يتمكن بسام من حجز القارئ عنده لساعات إلى أن يكمل قراءة فصول الرواية دون توقف.
ومن خلال استخدامه أسلوب الجملة النعتية في كل مشهد تميز إلى درجة جعل القارئ يدمن على الجلوس للاستماع لثرثراته القصصية، لقد وجدت هذا الأسلوب ممتعا في الرواية في حين كنت أمقته في الشعر وكنت أشعر حين أكتب أو أقرأ قصيدة مكثفة الوصف بتحول الأبيات الشعرية إلى سرد قصصي.. والآن تبين الفرق.. وأن ما يجوز في القص لا يجوز في الشعر.
ونلاحظ ذلك في الصفحة الأولى من هذه الرواية، وعلى سبيل المثال: «في مطلع حياتهم لبسوا الخرق المهلهلة، وغرقوا وسط الأمراض الغريبة».. من أول جملة تجد النعت في آخرها حاضرا.. «الخرق المهلهلة». وهي كذلك في الجملة الثانية في قوله «الأمراض الغريبة».. وفي نفس الصفحة تجد من هذه النعوت الكثير، مثل: «الأرواح الشريرة»، «الأولياء الصالحين»، الأيام الخوالي»، «رفيقهــــم المخــــلص»، «عدوهــــــم القاتل».
وفي نفـــــس الصفحـــة سنلاحظ سرا آخر من أسرار جمال القص الروائي لدى بسام شمس الدين.. مثل: «وتآلفوا مع الكتن والبق والبراغيث».. حكاية التآلف مع الحشرات هذه تثير فضول القارئ، لأن السائد النفور الشديد من الحشرات ولا أحد يطيقها، ولكن بسام كسر هذا السائد.
ومثل:«وكانوا يستنجدون بالموتى ويبخرون القبور ويؤمنون بالله والعرافين والأولياء الصالحين والأرواح الشريرة».
لقد جمع بسام بين متناقضات في ما سبق.. بين الإيمان بالله والعرافين وبين الأولياء الصالحين والأرواح الشريرة، وقد يكون فعلا توصيفا لواقع معين لناس يجمعون بين هذه النقائض في ممارساتهم ومناسباتهم وطقوس حياتهم، لكنه يظل أسلوبا مبهتا في الحكاية، لأنه يروي أشياء قد لا تحتمل التصديق، لكن من المآخذ عليه أشياء بسيطة كذكره الكتن والبق على أنها نوعان من الحشرات في حين أن البق هو الاسم العلمي للكتن، ولكننا في اليمن نسميها الكتن، كما لا نستعمل في مفرداتنا الشعبية لفظة «الدراويش»، فمن أين جئت بها يا بسام؟
استطاع بسام تصوير الجوع والمرض والفقر بالشكل الذي كدنا نصدق فكرة تقبل أولئك الأهالي لوضعهم التالي، الذي هو أسوأ معنويا من ذلك الوضع السابق والأسوأ ماديا، ففضلوا الذل والهوان في ظل جشع وصلف المترفين وملاك الأراضي على الجوع والمرض. فهو، أي المؤلف، من حيث أوجد لهم مبررا لتمرير انبطاحهم رآهم أجدر بهذا الانبطاح من أن يصارعوا آلام الجوع ومغبة التطبع مع الحشرات، وأكلهم الزواحف والجنادب والجراد.
قال: «وطهوها على النار وأكلوها بنهم، بعد أن ذروا عليها بعض الملح والفلفل».
هنا يصور المؤلف طريقة أكل الأهالي الحشرات بشراهة، وأضفى عليهم صفة المهارة في الطهي وبالشكل الذي يجعلهم يبدون كأنهم لفرط تآلفهم مع الحشرات قد تآلفت معها أحشاؤهم الخاوية فأكلوها بكل محبة.
ذلك الزمن البائس كان سر سعادتهم كما يقول الشيوخ، لأنهم نجوا إلى وضع أفضل من أن يكونوا سكان مقابر.
يقول: «لم تكن أسمارهم تفتقر إلى 'الحواديت' والحكايات».. وأقول: ليس في لهجاتنا الشعبية في اليمن مفردة الحواديت، فكيف جاءت إلى نبوءة الشيوخ يا بسام؟ هذه وتلك نتاج تأثر بالثقافة المصرية.. ولماذا لا نؤثر بالمثل على المجتمع المصري فنسميها ''الحزاوي'' بدلا عن الحواديت؟
هذه البهتات تارة والدهشات تارة الحاضرة بكثافة وبصورة متتالية في الفقرات الحكائية لبسام شمس الدين هي التي تميزه كمبدع، إلا أنه يستغل إدمان القارئ وشغفه بأسلوبه الجميل في الهندسة السردية والسحر اللغوي والتصويري، فيقحمه في مواضيع لا تخدم وضعه الاجتماعي والسياسي ولا تراعي ضعفه الثقافي وعدم قدرته على تلقي الأفكار البعيدة عن واقعه.
إن رسمه المشاهد في روايته ذات الصبغة التاريخية نبوءة الشيوخ وتزيينها ببعض الألوان المعاصرة تجعلها تبدو إلى حد ما كلوحات سريالية، مدهشة تفهمها النفس لكنها بحاجة لدراسة نفسية تقرأ أسباب اتخاذها هذا الأسلوب، وهل له علاقة بالوضع السياسي عامة ووضعها الفكري خاصة؟ ربما..!
إذا كانت كل هذه الجماليات تناولناها من خلال الصفحة الأولى من الرواية، فكم سنعثر على كنوز لو كتبنا عن كل الصفحات..
وقد يكون المؤلف في رواية نبوءة الشيوخ مخالفا لمنطق السرد التاريخي، مما يجعله غير قادر على إصابة قناعة القارئ في بعض المشاهد، ولأنه ينتمي إلى حركة أدبية لها منطق روائي خاص تجعل من الإدهاش المكثف والمتتالي مهما استحال تحققه في الواقع أسلوبا جديدا لها حتى في سردياتها التاريخية، ويحتاج هذا الأسلوب دراسة نفسية لتحليله ومعرفة بواعثه وأسس تشكله.. وبسام ليس الوحيد في هذه الحركة القصصية التي تستثمر في أعمالها كل الطاقات الممكنة في الواقع والعلم والخيال، وتجمع بين جغرافيا الماضي والحاضر والزمن المضارع والماضي وأساليب الحياة في مشهد واحد، إذ لا مجال لترميم الثقوب التي يحدثها هذا النوع الفانتازي من القص لأن النتيجة ستنحو باتجاه طوطمي جديد لكون المنهج لا ينسجم من المنطق السائد.
ما أزال أتذكر قصص وجدي الأهدل التي كان ينشرها في صحيفة ثقافية زمان نهاية التسعينيات، كان فيها شطحات وطفرات مدهشة لا نتوقع تحققها في الواقع، لكنها مع كسرها السائد وقواعد المنطق إلا أنك تفهم مغازيه وتشعر أنه يعالج مشكلة ما تركتها الأوضاع في نفسك، وتحس أن هذه القواعد المكسورة ستصبح يوما ما قواعد سائدة عند جيل قادم.. وفعلا لقد وصلنا إلى ما يشبه التنبؤات فالشطحات الروائية الخيالية التي كان يرفضها التدين والتخلق، قبل عقدين وجدنا أنها لم تبعد عن أحداث وقصص حقيقية شاهدنا أسوأ منها في الواقع الآن، ومن قبل المتدينين أنفسهم الذين استنكروا تلك المشاهد الافتراضية، ولم يستنكر الكثير من أدعياء الثقافة اغتصابات لأطفال وبنات واقتحام منازل واختطاف رضع، وتحويل النساء إلى ثكالى في مناطق سيطرة ما تسمى «الشرعية».. هذه الأحداث المرعبة وكذلك ظهور أناس كانوا في مقدمة أصحاب المثل.. فتحولوا من قادة مثل إلى قادة مثليين، وها هم الآن ضمن مصفوفة تبديل الجلود والقناعات مقابل المال والشهرة في دول العدوان والخارج الذي يرعاها ويوجهها.
النصوص المقدسة والكتابات المثالية لم تعد تحدث في ضمائر الناس تأثيرا لأسباب ما يجب أن تدرس بمنظار نفسي كما تدرس الروايات.
وهذه الطفرات الروائية الكاسرة لأنساق التذوق العامة والقيم المسلم بها هي ناتجة عن أنساق خيالية أيضا تبدو شاذة في البداية لأنها انبعثت من شخص ثم تواجه وعيا جمعيا في نطاقها، وإذن فلا تخضع لقوانين الفكر الموجود، لكنها تصبح في ما بعد موجودة ويصير لها متأثرون وتيار.

أترك تعليقاً

التعليقات