نقص الضوء يا ملعون!
 

عمر القاضي

عمر القاضي / لا ميديا -
كنت أعتقد أن وصول الكهرباء إلى القرية عام 99، قد ينقلها إلى ضفة أخرى، وسوف ترمي كل معاناتها وهمومها وأيام الظلام خلفها.
وما حدث هو العكس، فقد رمى أبناء قريتنا بفوانيسهم وأتاريكهم القديمة والنوارات في صباح اليوم التالي إلى مناقيف الأحجار وبين أشجار القرض والتين في استغناء تام عنها، ولم يقدروا خدمتها ونضالها الطويل وهي تمنحهم الضوء ولو كان خافتا.
على ضوئها الخافت ورائحة الجاز، ضربنا وضحكنا وبكينا ولعبنا، وحفظنا الشعر والأناشيد وجدول الضرب والقرآن و.. و... إلخ. لا أعلم كم بالضبط استهلكت قريتنا خلال فترة الظلام ذبائل، ولا كم أقلاص نوارات وفوانيس زجاجية، ولا كم طن جاز، لكني أتذكر أحداثاً مرعبة وقعت في قريتنا بسبب الظلام والجاز. كان الأغلب يقوم بتعبئة مادة الجاز داخل دباب نفس دباب الماء، لا توجد أدوات خاصة حتى تحفظ فيها، وهذه هي سبب الكارثة التي كان سينتهي بسببها عشرات الأطفال.
أتذكر أن طفلاً في العاشرة من عمره وصل يجري إلى منزلهم وهو عاطش، وذهب يشرب من دبة الجاز، وتم إسعافه في اللحظات الأخيرة، وقصص أخرى مشابهة. ورجل مسن كان يحاول إصلاح الإتريك القديم وقد انفجر فوق جسده، والتهمه الحريق ودخل بغيبوبة، وبقي في العناية المركزة لأيام بسبب الحريق الذي شوه جسده.
كانت أياماً خافتة وهادئة في عهد الظلام. ينتهي النهار وتتوارى الرؤية خلفه، ويبقى الصوت كل شيء في الليل. يعود الطلاب بعد المغرب من اللعب ويتحلقون على السراج أو الفانوس للمذاكرة على ضوئه الخافت، وكلما حاول أحد أن يرفع مستوى الضوء أكثر، يرتفع صراخ الآباء والأمهات: «انزل الضوء يا كلب.. نقص الضوء يا ملعون». فقد كانوا يقلقون على نفاد الجاز سريعا من الفانوس أو أن يسخن زجاج الفانوس ويقرح. هذا إذا سلم الطالب الملعون من خبطة بالظهر تقطع أنفاسه، وبذريعة أنه رفع ضوء الفانوس قليلاً عشان يشاهد الخطوط في أوراق الدفاتر جيداً، حتى لا ينحرف عن مسار كتابته على السطر الأول باتجاه السطر التالي، فيتعرض للضرب من أستاذه في اليوم التالي بذريعة أنه انحرف عن السطر قليلا. ليس هذا فقط. أيضا عندما يمتلئ دفتره بالكتابة، ويطالب أسرته بتوفير دفتر جديد بدلا عن الأول الممتلئ، قد تفتح أسرته معه تحقيقاً طويلاً، وتقوم بتفتيش دفتره الذي استلمه بداية العام الدراسي، وقد تراجع صفحات الدفتر واحدة تلو الأخرى، وإذا وجدت فراغ أو انحراف في الكتابة على السطور، قد يضرب مجددا من أسرته بسبب مسافة الفراغ والانحراف بالكتابة والتبذير. 
على ضوء الفانوس الخافت أيضا ستسمع طالباً يقرأ بصوت مرتفع، وزميله بجواره ينزعج من صوته المرتفع، فتبدأ المشاجرة بينهما وصولاً للمضرابة، وقلب الفانوس على رأسه، وقد ينكسر زجاجه، لكنه ينطفئ على الجميع.
أما النوارة فتبقى معلقة على الجدار ولا تنزل إلى الأرض لحساسيتها، ورهافة قلص زجاجها. قلص نحيل وغير مثبت كالفانوس، وقد يخرج قلص النوارة من مكانه بأطرف لمسة من طفل صلف ومشاغب وينكسر. لذلك كانت النوارات تنزل من الجدران لطلاب الثانوية فقط، لأنهم كبار ويقدرون رهافتها وحساسيتها.
أيام مظلمة وجميلة مليئة بالنكد والمعاناة، لكن مع وصول الكهرباء إلى قريتنا اختلف الوضع تماما، فقد ركن الجميع على ضوء الكهرباء الذي لن ينطفئ، وتركنا القراءة، وطلاب المدارس والشباب الكبار صاروا يسهرون أكثر، كما أصبحت تشاهد ملامح من تحدثهم في الليل بشكل واضح على ضوء الكهرباء، بعكس الماضي تماما كنت تحدث من هو جوارك كشخصية أشبه بالظل، لا تستطيع مشاهدة شيء من ملامح وجهه إلا في صباح اليوم التالي مع ظهور ضوء الشمس، وقد تسأل نفسك: إيش جابه هذا عندنا؟!
في أول يوم من وصول الكهرباء إلى قريتنا، سهر جميع أطفال القرية وهم يبحلقون بفرح واستغراب على نور اللمبات والجلوبات المعلقة على الجدران وفي أسقف منازلهم.
في أول يوم طرقنا الفيشات ومفاتيح الكهرباء عشرات المرات، أيوه، كنا نطفئ الضوء، ثم نلصي الضوء مجددا، ومن هذا الشغل حتى قريب الفجر. والأمهات والآباء يصرخون: «طفي يا كلب.. لصي الضوء يا ملعون»، وكنا نتعرض على إثرها للضرب لما يطير الغبار. 
في تلك الأيام، كان أطفال القرية يتسابقون لمنفعة أسرهم، ما إن تطلب الأم أي شيء حتى يتقافز الجميع، لا لأجل منفعة الأم أو الأب، بل من أجل أن يضغطوا على مفاتيح الضوء عدة مرات، ولا أحد يمنعهم. لقد وصلت الكهرباء قريتنا، وكانت إنارات قريتنا تغمز وتومض كما الغمازات تماماً، بسبب صلف الأطفال.
لقد مضى أسبوع وقريتنا في ضوء ونور طوال الوقت، وعلى إثر هذا الضوء رمى الجميع كل وسائل الإضاءة السابقة والقديمة. وفي الأسبوع التالي انطفأت الكهرباء وصرخ الجميع، وبقيت القرية في ظلام دامس لمدة ساعتين، البعض بقي في الظلام يحلل سبب هذا الانطفاء المفاجئ، والذي كان يُعتبر أول انطفاء، لكنه تكرر بعد ذلك وبشكل مستمر، وتأقلم الجميع على هكذا وضع بين النور الظلام، مع تأنيب الضمير على أدواتهم القديمة التي استعجلوا في رميها وتحطيمها وكأن الكهرباء لن تطفئ، وقد انطفأت وبدون رجعة.

أترك تعليقاً

التعليقات