الأستاذة المنزعجة!
 

عمر القاضي

عمر القاضي / لا ميديا -

في صف خامس ابتدائي، كان معانا أستاذة رياضيات مرهفة، معاها أنف يتحسس من جميع الروائح. كلما جاء دور حصتها كانت تدخل الفصل وهي متضايقة ومتأففة من روائح البوت والأحذية حق الطلاب. في كل حصة كانت تقوم باختيار طالب ثم تطلب منه أن يخرج من الفصل يخلع أحذيته ويغسل أرجله ثم يعود للفصل ويترك أحذيته خارج الفصل.
الأستاذة ضبحت من هذا الانتقاء الفردي للطلاب يومياً، وشعرت أنها لم تفعل حلاً نهائياً تجاه مكافحتها للروائح المنبعثة من تحت الكراسي والطاولات بالفصل.
كانت الرائحة بالنسبة لنا في الصف الخامس رائحة هادئة وفريدة كرائحة عطر غرنيوا في رواية العطر قصة قاتل. وليست تلك الرائحة التي تقتحم مناخير مدرستنا المرهفة حتى تتقمز منا ويتعكر مزاجها للآخر.
الصدق أنا كنت أشم تلك الرائحة بدون أي انزعاج طالما ونحن سبب انبعاثها. رائحة مجمعة من أحذية البوت المثقوبة، ومن زيت الرانجيل، ودهان هرفد، وفاين كريم، والسليط الحالي، وجميع الزيوت المصبوغة على رؤوس طلاب الصف الخامس ابتدائي، زيوت متنوعة ومع حرارة الشمس تتقطر لتلتصق على أطراف وياقات شمزانهم، بالإضافة إلى روائح الخمير والخبز التي كانت تفوح من وسط شناط وخرائط الطلاب الخفيفة والتي لا تفي بالغرض مع طلاب الأرياف الأشقياء بالذات. بالإضافة إلى روائح الأقلام الخشبية «البلسن»، أي أقلام الرصاص، التي قحط الطلاب رؤوسها بأفواههم متلذذين بنعومة المساحات المحمرة لإطفاء جوعهم وصلفهم.
كانت رائحة مخلوطة من أجساد الطلاب التي أحرقتها الشمس ومن الملابس المرقعة التي تكسوها مع نهاية كل أسبوع طبقات الغبار وبقع داكنة من العرق أشبه بخرائط جغرافية ارتسمت عليها وبأشكال مختلفة. كنت أشاهد بقعاً متسخة ومتناثرة كدول البلقان وأوروبا تماماً.
لا أريد التشعب بالوصف، المهم بعد أن اختارت مدرستنا المرهفة عدداً من الطلاب وطلبت منهم الخروج لغسل أرجلهم، ولم تصل لحل نهائي لمشكلة مناخيرها، قامت الأستاذة في إحدى حصصها، وبعد وصولها مباشرة للفصل وكانت متعصبة بالصراخ على الطلاب، وأتذكر أنها رمت طالباً بكتاب الرياضيات العريض في رأسه، ورمت طالباً آخر بدفتر التحضير، وقد دخل الطلاب بصمت وهدوء وخوف لم يحدث من قبل في صف خامس ابتدائي. جميعنا بقي مبحلقا باتجاه السبورة وباتجاه الأستاذة المنزعجة. كنا نلمح عيونها بخوف شديد.
طبعا الأستاذة المرهفة وبعد أن شاهدت الطلاب صامتين طلبت منهم جميعا أن يخرجوا من الفصل لخلع أحذيتهم وغسل أرجلهم وترك أحذيتهم بالخارج والعودة إلى الفصل مجددا حفاة. وهنا كانت الكارثة، فقد خلع طلاب الصف أحذيتهم وكل طالب ذهب يخبئ حذاته عند أخيه أو عند أخته في الصف الآخر، وهذا السبب الذي نشر الرائحة إلى جميع فصول المدرسة، رائحة انزعج منها جميع المدرسين، وقد اتسعت رقعة انتشارها لتصل إلى جميع طواريد المدرسة والإدارة ومناخير الطلاب والمدرسين والمدير أيضاً.
وبالتالي اقتلب جو المدرسة تحت فوق، وانزعج المدير وضرب جرس الإنذار ونحن في بداية حصة الأستاذة المنزعجة، قرع الجرس في هذا الوقت كان غير معتاد وينبئ عن أمر طارئ.
وبعد أن عجز الجميع عن تحمل رائحة الأحذية المختلفة أنواعها، ولم يتحملوا البقاء أكثر في المدرسة، طلب المدير والمدرسون من جميع الطلاب مغادرة المدرسة فورا. وطلبوا أيضاً من الطلاب أن يعودوا إلى المدرسة في اليوم التالي بالصنادل بدلا عن أحذيتهم المثقوبة، لكن الطلاب عادوا صباح اليوم التالي بنفس الأحذية باعثة الروائح (الجميلة!)، وواصلوا الدراسة بأحذيتهم ذات الروائح المعكرة للمزاج العام حتى نهاية العام، لكن أستاذة الرياضيات المنزعجة من الرائحة نقلت وظيفتها من مدرستنا (معاذ بن جبل) إلى مدرسة أخرى مليئة أيضاً بروائح مزعجة ولم تستنشقها من قبل.

أترك تعليقاً

التعليقات