أحمر عين..!
 

ابراهيم الوشلي

إبراهيم الوشلي / لا ميديا -

في كل حارة تجد ذلك الديوان الذي يحتضن أبناءها الموالعة خلال فترة ما قبل العصر حتى بعد صلاة العشاء، بشكل شبه يومي، دائماً صاحب الديوان يكون محبوباً من الجميع، وكل واحد يرجم له أحلى عودي قات في الكيس، وعشان هذا العودي تشوف صاحبنا كل يوم يتحمل صياح الحج الذي أصبح مليئاً بالهرم: قلبت البيت استراحة يا ابني، ما فيش معك مهرة، ضروري تشوف لك مهرة.
المهم ما علينا من الناس.. في أحد الأيام الجميلة، كنا مخزنين في ديوان الحارة، أشعة شمس الثالثة عصراً تضفي على الجو جمالاً أخاذاً لا تجده في الريف الهولندي.. الجميع يتحدث بطريقة المثقف الفاهم للحياة والموت وما بعد الموت، لو استمعت إلى أصغرنا سناً لظننته محللاً سياسياً مخضرماً عاصر الجاهلية والإسلام (قصدي جاهلية النظام العفاشي بس حزقوا).
كان المكان يطفح بالضوضاء وتلك الأصوات الكثيرة المختلطة، والنقاشات تحتدم أكثر فأكثر، ظل الحال هكذا لمدة لا بأس بها.. حتى دخل علينا ضيف جديد، وكلمة "جديد" تعني أنه ليس عضواً رسمياً في الديوان.
بمجرد دخوله تحولت الضوضاء إلى هدوء مريب، وتم استبدال الصراخ بهمسات غريبة توحي بحقائق صادمة، بشكل منظم ودقيق راح كل شخص يهمس في أذن الآخر بأن الضيف مسؤول في إحدى الدوائر الحكومية، وقد أتى تلبية لدعوة أحد الأصدقاء، وفي البداية لم أكن أعرف شيئاً عن تلك الهمسات الغريبة، استسلمت للفضول وظللت في حيرة من أمري، إلى أن جاء دوري وهمس في أذني أحدهم: ياخي هذا المسؤول أحمر عين.
نظرت إليه بغرابة وأنا أقول: كيف يعني أحمر عين؟
فأردف: يعني ذيب وخطير، فاااهم الدنيا صح.
قلت: كيف يعني ذيب وفاهم الدنيا؟
قال لي: ياخي مفحوس مفحوس، أول ما مسك منصبه صلح أموره كلها، واشترى عمارة ضخمة وبيت لجهاله، هكذا الرجال يؤمنوا مستقبلهم.
لم تظهر على ملامحي أية ردة فعل، سوى التفاتة سريعة إلى ذلك المسؤول، بغرض التأكد من كلام الرجل، كان منظره يوحي بشخص عادي ميسور الحال، ويبدو من هيئته أنه لا يمت بصلة لأصحاب العقارات والأملاك، لكن ليس هذا ما كان يشغلني.
راودتني في تلك اللحظة رغبة شديدة في القفز إلى وسط الديوان ولطم نفسي على الطريقة الشيعية، وشعرت برغبة جامحة في البكاء والنواح على طريقة طالبة مجتهدة رسبت في الامتحان، فقد كنت أتحسر على الحالة المزرية التي أوصلنا إليها النظام البائد، وعلى الأيديولوجيا الخبيثة التي زرعها في عقول عامة الشعب.
أصبح المسؤول الفاسد في نظرنا "أحمر عين"، ولأنه يأكل حقنا دون حياء توجناه بلقب "الذيب والمفحوس"، وكلما تمادى في فساده اقتنعنا أكثر بأنه من "خيرة الرجال"، فهو يعمل كل هذا قاصداً تأمين مستقبل العيال.
جيل كامل تمتع خلاله النظام العفاشي البائد بالسلطة المطلقة، وأكبر منجزاته هذه القناعات العجيبة الغريبة التي باتت اليوم مزروعة في نفوس أغلبية اليمنيين.
هكذا أصبح الفساد ثقافة وفضيلة، وليس جريمة وذنباً، فترى المسؤول الفاسد يحظى بقصائد المديح والتطبيل، والمسؤول النظيف والمحترم يوصف بالأهبل والغشيم والغبي والساذج.
أما المضحك المبكي فهم أولئك الأغبياء الذين تجدهم يترحمون على الصريع "علي عفاش" في كل وقت وحين، هنا تقترب من أحدهم بحذر وتسأله: ليش تترحم عليه، كان سارق وفاسد وعميل للسعودية من الطراز الأول؟
فيجيب متذمراً دون أن يرفع عينيه: ياخي هجعنا، كان يأكُل ويؤكِّل.
طبعاً هذا التافه أحد المطبلين الذين كان يتفضل عليهم عفاش بفتات الفتات، بينما يموت الآخرون جوعاً، فأصبحت لديه قناعة بأنه يسرق ويعطي في الوقت نفسه.. ولا أدري أين الفضيلة في الموضوع.
المهم.. صحيح أنني أتحدث 19 لغة ولدي مؤهلات تجعلني رئيس كوكب بأكمله، لكن أتمنى أيها الشعب العظيم ألّا تمنحني أي منصب، لأنني حينها سأكون مجبراً على اعتناق ثقافة الفساد، تجنباً لمناداتي بالساذج والغشيم، سأكون "أحمر عين" بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

أترك تعليقاً

التعليقات