اليمن صنع المتغيرات الاستراتيجية الكبرى في الإقليم
- أحمد عز الدين السبت , 30 نـوفـمـبـر , 2024 الساعة 6:07:59 PM
- 0 تعليقات
أحمد عز الدين / لا ميديا -
مثل «فلسطين 2» طفرة تكنولوجية في قدرات الصواريخ «أرض أرض»، وقد أصبحت بحسابات المسافة والسرعة، والقدرة على التخفي والمناورة، والرأس المتفجرة تفرض تحديا ينقل القوة العسكرية اليمنية من حيز «المبارزة التكتيكية» في حدود البحر الأحمر أو المحيط الهندي أو جانب من البحر الأبيض، إلى حيز «المبارزة الاستراتيجية» الإقليمية الشاملة.
أحسب أن هناك جهدا غربيا مدروسا لتخفيض درجة الإحساس العام بدور الجيش اليمني في صنع المتغيرات الاستراتيجية الكبرى، التي بزغت على امتداد معركة «طوفان الأقصى» في الإقليم، ومثّلت عنصرا حاسما مضادا لمفردات الاستراتيجية الأمريكية التي أرادت فرض نفسها بالقوة المسلحة فوق خرائطه.
كما أحسب بوضوح أن هناك توجها غربيا تكاد بعض خيوطه أن تكون بادية للعيان يسعى إلى إعادة بناء تحالف عسكري غربي وإقليمي في مواجهة اليمن، يراد له أن يحقق ما فشل فيه تحالف سابق، فقد أصبح اليمن في ذاته وبغض النظر عن دوره في الحرب على غزة ولبنان، وهو دور عربي مجيد دون شك، يمثل تهديدا استراتيجياً كبيراً وثابتاً.
إن من بين أسباب ذلك ما يستحق التوقف:
أولاً: أن الجيش اليمني برهن مع مقدمات كل تحول في الاستراتيجية الأمريكية أنه يمتلك أدوات قياس للمتغيرات هي الأكثر دقة وحساسية، في الوقت الذي تعاني فيه أدوات قياس هذه المتغيرات عند كثيرين في الإقليم من ضعف يصل حد الاعتلال، ومرد ذلك عندي ليس قدرة أكبر على الاستطلاع في العمق، ولا حسابات ميدانية أكثر تعقيدا، ولا وسائط إلكترونية أكثر تطورا، ولا تعليمات أو تقديرات مدروسة تأتي له من وراء الحدود، فهو سيد قراره، وإنما مرده إلى شفافية كاملة في الهدف، وخبرة قتال متراكمة أصبحت معها أدوات القياس دقة وحساسية أقرب إلى ما نطلق عليه عسكريا «غريزة التنشين»، وربما على نحو أكثر تحديدا حسب تعبير «يديعوت أحرونوت» نفسها فإن «الحوثيين يتمتعون بخبرة كبيرة في القتال بعيد المدى، أكثر من معظم الجيوش، وقد اعتادوا القتال دون بنية تحتية منذ عام 2015، كما أنه يصعب جمع المعلومات الاستخبارية عنهم».
ثانياً: أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اضطرت مكرهة إلى أن تسحب «أبراهام لنكولن» آخر حاملات طائراتها في البحر الأحمر دون أن تدفع بحاملة الطائرات «ترومان» لتحل محلها كما توعد بيان للجيش الأمريكي، ليتم إخلاء البحر الأحمر تماما من أية حاملة طائرات أمريكية، بينما شكلت حاملات الطائرات قلب نظرية الردع الأمريكية، ليس في البحر الأحمر وإنما في كافة البحار والمحيطات حول العالم.
لقد كان سحب «لنكولن» تاليا مباشرة على معركة بالصواريخ والمسيّرات استمرت ثمان ساعات، بين الجيش اليمني وبينها، إلى جانب مدمرتين مصاحبتين لها، وهي معركة ناطقة بالدلالة السابقة الخاصة بدقة وحساسية أدولت قياس المتغيرات، فقد كتبت بالنار ما حاولت أن أكتبه بالحبر في الجزء السابق من أنه لا بديل الآن أمام كم هائل من المتغيرات والمخاطر، التي تزحف في الآفاق سوى توجه واحد وهو «المبادأة».
وإذا كانت البحرية الأمريكية تصحح بسحب حاملات طائراتها من البحر الأحمر حسابات تقدير موقف غير صحيح كما أشرت سابقا، أولها بالمخالفة لمبدأ عام في السيطرة والمعارك البحرية وهو أن المياه المفتوحة تتحكم في المياه المغلقة، أي أن المحيط الهندي يتحكم في البحر الأحمر وليس العكس، وثانيها بالظن أن نظرية الردع التي ارتكزت على حاملات الطائرات لن تجد على ضفتي البحر الأحمر قوة صاروخية يمكن أن تسقطها.
والحقيقة أن مركز الأمن القومي الأمريكي، كان لديه قبل بضع سنوات هاجس مخيف بأن دور حاملات الطائرات الأمريكية، التي تشكل أهم أدوات الردع الاستراتيجي على امتداد عشرات السنين، وحول كافة أبعاد الكرة الأرضية يوشك على الأفول، فقد تضمن مستخلص من تقرير لهذا المركز نصا «إن العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج قد وصلت إلى نقطة تحول حيث ألغى التطور التكنولوجي الروسي والصيني التميز الأمريكي الذي كان يعتمد على حاملات الطائرات»، لكن المفارقة يصعب ابتلاعها أمريكيا، لأنه لا التطور التكنولوجي الروسي أو الصيني هو الذي أوصل دور حاملات الطائرات الأمريكية كسلاح ردع استراتيجي إلى نقطة تحول ميلودرامية، ولا هو الذي ألغى على نحو حاسم التميز الأمريكي الذي كان يعتمد عليها، وإنما الصواريخ والمسيّرات التي وجهها جيش عربي في الشرق الأوسط لم يوضع يوما ضمن قوائم الجيوش في حسابات تصنيف القوى، لا دوليا ولا إقليميا.
ثالثا: لقد بذل الأمريكيون جهدا جهيدا للتغطية على ظهور متغير استراتيجي كبير في قبضة اليمنيين، وهو الصاروخ «فلسطين 2» تاليا على الصاروخ «صماد 3» ومن قبله «قدس 3» فقد كان ظهوره يعني الصعود إلى عتبة تطور تكنولوجي نوعي، كما يعني أن سقف كافة أسلحة الدفاع الجوي بما في ذلك «ثاد» الذي تم نقل منصات إطلاقه من السعودية إلى «إسرائيل»، ومن قبله «باتريوت» و»القبة الحديدية» و»أرو»، قد أصبح منخفضا للغاية، سواء في «إسرائيل» أو غيرها في القواعد والوحدات العسكرية الأمريكية، بل في المنطقة برمتها، أو في عموم فضاء «الشرق الأوسط».
لقد مثل «فلسطين 2» طفرة تكنولوجية في قدرات الصواريخ أرض أرض، وقد أصبحت بحسابات المسافة والسرعة (16 ماخ) والقدرة على التخفي والمناورة والرأس المتفجرة (650 كجم) تفرض تحديا ينقل القوة العسكرية اليمنية من حيز «المبارزة التكتيكية» في حدود البحر الأحمر أو المحيط الهندي أو جانب من البحر الأبيض، إلى حيز «المبارزة الاستراتيجية» الإقليمية الشاملة، فلم يكن العجز في مواجهة الصاروخ في إطلاقه الأخير قبل يومين أو السابق عليه، «إسرائيليا» بحتا، وإنما كان عجزا كاملا فرض سطوته على قلب القيادة الوسطى الأمريكية بكافة قواعدها ووحداتها، فضلا عن وحدة الإنذار المبكر الأمريكية في النقب (الموقع 512) التي تدير كافة دفاعات حلف الأطلنطي، رغم أن الإصابة المباشرة له كانت قاعدة «حتسريم» في النقب.
لقد كان وقع إطلاق «فلسطين 2» الفرط صوتي يكاد أن يتماثل مع وقع إطلاق روسيا لصاروخ فرط صوتي في ديسمبر 2021، وهو «أفنجارد» القادر على الاختباء والمناورة قبل الانزلاق إلى الهدف بسرعة تصل إلى 24 ماخ، والذي مثل بدوره نقطة تحول كيفي تركت آثارا بالغة العمق على كافة مفردات الاستراتيجية العسكرية الأمريكية، بعد أن مثل صدمة كبرى للجيش الأمريكي حد أن جنرالا أمريكيا كبيرا هو هوارد تومسون القائد السابق للقيادة الأمريكية الشمالية كتب في المجلة العسكرية التي يصدرها الجيش الأمريكي نعيا صريحا لمنظومات الدفاع الجوي الأمريكية، وقد كان جانب من نص مقالته حرفيا هو «إن روسيا والصين قد وصلتا إلى البعد الرابع بمساعدة الأسلحة الأسرع من الصوت، وإن أسلحة الدفاع الجوي الأمريكية ستصبح عتيقة بشكل تلقائي تحت تأثير هذا البعد الرابع».
البعد الرابع إذن حسب كلام الجنرال هوارد هو العنصر الحاسم، وهو المتغير الأساسي بسبب ظهور صاروخ «أفنجارد»، وهذا البعد الرابع تحديدا هو الوقت أو الزمن، وبالمنهج نفسه فإن ظهور «فلسطين 2» هو واحد من المتغيرات الأساسية فوق المسرح الاستراتيجي الإقليمي، وهو يمثل البعد الرابع أي الوقت أو الزمن الذي تصعب ملاحقته، وقد كنت واضحا ومحددا منذ بداية هذه السلسلة في أن العنصرين الحاكمين لهذه المعركة من أولها إلى آخرها هما الوقت والردع.
لقد قلت إن ظهور «أفنجارد» قد مثل صدمة كبرى للجيش الأمريكي، وأنه ترك تأثيرا بالغ العمق على مفردات الاستراتيجية الأمريكية، وتقديري أن ظهور هذا البعد الرابع في ذلك التوقيت قد مثل العامل الأكثر حسما في الاقتراب المباشر من روسيا، وإشعال حربها مع أوكرانيا، لأنه إذا لم يكن السبق ممكنا للتغلب على هذا البعد الرابع الذي يجمع ما بين عنصري المسافة والوقت، فلا بديل عن إلغاء المسافة إما بوسائط تكنولوجية لإثارة الرعب والفزع، أو بالاقتراب المباشر أو بهما معا، وقد كان هذا هو الحل بوجهيه في حالة الحرب الأوكرانية الروسية، حيث تمثل الوجه الأول لإلغاء المسافة بمحاولة اختراق العمق الروسي بالدبابات، وتمثل الوجه الثاني مؤخرا باستخدام الصواريخ الغربية لقصف هذا العمق بعد فشل المحاولة الأولى، مثلما أفشل الروس المحاولة الثانية بإطلاق صاروخ متوسط المدى خرج لتوه وعلى نحو مباغت من المجهول، بعد أن ألغى ترامب معاهدة حظر الصواريخ متوسطة المدى في عام 2019 على حساب الأمن الأوروبي.
لقد تمت محاولة استخدام الحل نفسه بوجهيه في مواجهة اليمن، كان الأول بعملية قصف الحُديدة باستخدام 12 طائرة احتاجت كل منها للتزود بالوقود في الجو إلى نصف ساعة ذهابا ثم عودة، لإشعال مستودعات بترولية كانت تحتاج إلى طائرة واحدة وعود ثقاب واحد، واستهلكت ساعات طويلة يصعب مقارنتها مع امتلاك البعد الرابع باستخدام صاروخ واحد لا يحتاج إلا لبضع دقائق، بينما كان الثاني محاولة مكتومة وفاشلة لاختراق الحُديدة بإنزال بحري من مشاة البحرية الأمريكية قبل شهور، وإن كانت أقرب إلى الاستطلاع بالقوة، وهو ما أعاد إلى الأذهان محاولة سابقة في أغسطس 2018 للاستحواذ على الحُديدة كاملة كان قوامها 31 ألف مقاتل، مع 3 أسراب طائرات مقاتلة وسربين من المروحيات الهجومية ووحدتين بحريتين، لكنها فشلت بعد ثلاثة أسابيع من القتال في الاستحواذ على رأس جسر واحد، وانتهت بين ضفتي الفرار والإبادة، ولذلك يبدو اليمن شأنه شأن روسيا عصيا على هذا الحل بوجهيه.
إن من المؤكد أن البعد الرابع وهو الزمن، هو المتغير الأساسي فوق المسرح الاستراتيجي الإقليمي، كما هو المتغير الأساسي فوق المسرح الاستراتيجي الدولي، باعتباره العنصر الأكثر حسما، ليس في إسقاط التهديد والردع فحسب، وإنما في تغيير مفهوم القوة.
أما بالنسبة لأولئك الذين مايزالون يحرضون ضد المقاومة، وينسجون أكاذيب عن أنها لم تصنع سوى الهدم والخراب والهزائم، إلى جانب هؤلاء القاعدين الذين لا يريدون أن يبصروا الفواصل بين الخيط الأبيض والخيط الأسود والفجر، فليس في قدرتهم أن يفصلوا بالمبضع بين مرحلتين في الزمن ومرحلتين في التاريخ، لقد أورد قبل أربع سنوات شارك فرايليخ نائب رئيس «مجلس الأمن القومي الإسرائيلي» السابق في كتابه «عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي: استراتيجيا جديدة في عصر من التحولات» نصا الفقرة التالية: «إن إسرائيل لم تعد بعد سبعة عقود تواجه تهديدا عربيا لوجودها، ولا تهديدا نوويا مباشرا، لكن التهديد المركزي الذي باتت تشكله الدول العربية حاليا هو تهديد ضعفها، الذي يمكن أن يؤدي إلى انهيارات وعدم استقرار».
قبل أربع سنوات فقط كان التهديد الذي يواجه «إسرائيل» من الدول العربية كما قال شارك هو تهديد ضعفها، أما الآن فإن المقاومة رفعت سقف التهديد من فوق أرض الضعف ومن ثم الانهيار والفوضى إلى سماء الزمن أو قل إلى فضاء البعد الرابع.
المصدر أحمد عز الدين
زيارة جميع مقالات: أحمد عز الدين