عن نظرية الردع.. اليمن أنموذجاً
 

علي مهدي رعد

علي مهدي رعد / لا ميديا -
إنّ الفشل الأمريكي و»الإسرائيلي» في اليمن كان وما يزال أمراً متوقعاً من أغلبية المُحللين والخبراء العسكريين الغربيين الذين درسوا بعمق خصائص المجتمع اليمني، وخاصة حركة أنصار الله، التي نشأت في التسعينيات وتطورت حركةً دينيةً إصلاحية في مواجهة الظلم والطغيان، وصولاً إلى بنيتها السياسية الحالية، بما تحمله من أفكار وعقائد إسلامية وخطابات، وبما لديها من قوة صلبة (Hard Power) بفضل الخبرة العسكرية التي راكمتها خلال الحروب التي شُنّت ضدها من الداخل والخارج.
وهنا، يُطرح السؤال الجوهري: كيف يمكن فهم سلوك حركة أنصار الله وخطابها في إطار دعمها لغزة؟ وكيف تسهم في تشكيل نوع من الردع ضد الولايات المتحدة و«إسرائيل»؟
مفهوم الردع
يُعرِّف المنظّر والأكاديمي في العلاقات الدولية جون ميرشايمر، في كتابه «الردع التقليدي» (Conventional Deterrence)، مفهوم الردع بأنه «إقناع الخصم بعدم الإقدام على سلوك معيّن، لأن المكاسب المتوقعة لا تُعادل التكاليف والمخاطر المحتملة». ويشير ميرشايمر إلى أن قرار اللجوء إلى الحرب لا يستند فقط إلى الحسابات العسكرية المباشرة، أو إلى تقييم قدرة القوات على تحقيق الأهداف في ميدان المعركة، بل هو يتأثر أيضاً بعوامل غير عسكرية؛ إذ حتى في حال وجود مكاسب سياسية واضحة قد تتحقق بعمل عسكري ناجح، فإن صُنّاع القرار يظلون خاضعين لتأثير مجموعة معقدة من المعايير الأخرى. ولذلك، يؤكد ميرشايمر ضرورة أن يأخذ القادة في الحسبان المخاطر والتكاليف ذات الطابع غير العسكري عند تقييم جدوى أي عمل عسكري.
كما يميّز أستاذ تحليل السياسات العامة في مؤسسة «راند» الأمريكية للأبحاث، مايكل ج. مازار، بين نوعين من الردع: الردع بالحرمان (Deterrence by Denial)، والردع بالعقاب (Deterrence by Punishment). الأول يقوم على فكرة بناء استراتيجيات تحرم المُعتدي من الثقة في تحقيق أهدافه، مثل نشر قوات عسكرية محلية كافية لهزيمة أي هجوم، أو وضع أنظمة دفاع حديثة تستطيع منع الطرف الآخر من تحقيق أهدافه. أما المفهوم الثاني فيركز على التهديد بعقوبات شديدة، مثل التصعيد النووي أو العقوبات الاقتصادية القاسية في حال وقوع هجوم، حيث تُرفع الكلفة على المهاجم المُحتمل لردعه.
في مسألة الردع بين حركة أنصار الله في اليمن من جهة، والولايات المتحدة و»إسرائيل» من جهة أخرى، يتغير مفهوم الردع التقليدي؛ كون حركة أنصار الله تخوض المعركة بأسلوب غير متناظر (Asymmetrically)، في محاولة لتعويض الفارق الكبير في ميزان القوة، الذي تميل كفّته لمصلحة الولايات المتحدة و»إسرائيل». يبني هذان الطرفان استراتيجيتهما للردع على فكرة تأثيرهما السلبي في تصورات الشعب اليمني ومقاومته: أن أيّ هجوم من الطرف اليمني سيُقابل بدمار كبير وفوري يجعل الهجوم لا يستحق الأثمان المدفوعة. لكن السؤال هنا هو: لماذا فشلت هذه المقاربة العقلانية المحضة مع اليمن؟
أولاً: دائماً ما يلجأ صُناع القرار في واشنطن ونخبهم الفكرية والسياسية إلى تبني مقاربات مبنية على أساس حسابات الربح والخسارة بشكل متطرّف للغاية، من دون الأخذ في الحسبان تأثير الهوية والقوة المعنوية والمادية التي يتمتع بها الطرف الآخر. يغفل المفكرون الواقعيون (Realists)، سواء الكلاسيكيون أم الجدد، خصائص المجتمعات وما تؤمن به من أفكار ومعتقدات وسياسة خطابية وتأثير، في الساحتين الداخلية والخارجية؛ إذ من وجهة نظر واقعية، «حركة أنصار الله ليست سوى امتداد لإيران، وهدفها امتلاك أسباب القوة وتثبيت شرعيتها في مواجهة دول الخليج، وخاصة المملكة السعودية والإمارات والبحرين، في محاولة لتغيير ميزان القوى (Balance of Power) في منطقة ذات أهمية جيوبوليتيكية لها تأثير في الاقتصاد العالمي. وما عمليات الإسناد التي تقوم بها إلا وسيلة لخدمة الأهداف المذكورة، وخاصة بعد سيطرتها على مضيق باب المندب والبحر الأحمر». طبعاً، يكشف هذا التفسير قصوراً بنيوياً في تحليلات المدرسة الواقعية لخطاب جماعة أنصار الله وأفعالها، فالخلل يكمن في إغفال البعد العقائدي، الذي يُعدّ محرّكاً أساسياً لسلوك الجماعة ومواقفها السياسية.
في المقابل، تقدم النظرية البنائية (Constructivism) في العلاقات الدولية تفسيراً أكثر عمقاً وتماسكاً لتحليل دوافع المقاومة اليمنية، في استمرارها بالدفاع المستميت عن الشعب الفلسطيني، الذي يتعرّض اليوم للإبادة الجماعية. وتُبرز البنائية أهمية البُنى الاجتماعية (Social Structures)، بما تحمله من قيم دينية وثقافية وأفكار ومعتقدات مشتركة؛ إذ إنّ البنى الاجتماعية هي التي تشكل وتؤثر في سلوك الوحدات السياسية. فعلى سبيل المثال: ترى الواقعية أنّ الدول تتصرّف بناء على مصالحها وقوتها بما يحفظ أمنها القومي ومجالها الحيوي، في حين أن البنائية تؤكد أن ما تراه الدول مصلحة هو يتشكل في الحقيقة من خلال البُنى الاجتماعية، مثل الهوية والخطاب والمعايير.
علاوة على ذلك، يرى البنائيون أن الفاعلين غير الدوليين (Non-state actors) يشكلون جزءاً من عملية تشكيل المعطيات الاجتماعية والواقع الدولي، ما يمنحهم تأثيراً نسبياً في الساحتين الداخلية والخارجية. وعليه، يمكن القول إنّ الفعل العسكري والمشروع الذي تقوم به القوات المسلحة اليمنية يعكس هوية ثقافية وسياسية متجذرة ترتبط بمفاهيم كلية، مثل: العدالة، التحرر، الدفاع عن المظلومين، تعزيز الهوية الإسلامية الثورية... لذلك، يمكن استنتاج أن حركة أنصار الله ستواصل إسنادها العسكري لغزة المحاصرة؛ لأن الحدث هنا يتعدّى منطق الخسارة والربح؛ وذلك لأن الحركة تنطلق من فكرة جوهرية مفادها أنّ نصرة المسلمين واجبٌ ديني وأخلاقي وإنساني في الدرجة الأولى، حتى إنه ليس خياراً، مهما كانت التبعات والأكلاف، فالأصل هو أداء الواجب بمعزل عن تحقيق النتائج المتوخاة، وهذا هو جوهر النصر بذاته عند المسلمين.
ثانياً: يعود، أيضاً، فشل الأمريكيين و»الإسرائيليين» في مهمتهم في اليمن إلى سبب أن الأخير ليس جيشاً كلاسيكياً مكشوفاً أمام الأعداء. هو يسخّر الجغرافيا في الدفاع والهجوم، ويبني الاستراتيجيات العسكرية الطويلة الأمد التي تساعد في استنزاف الأعداء ورفع الكلفة عليه لمدة طويلة. وبالفعل، نجح المقاومون اليمنيون في حرمان «الإسرائيليين» من المرور بسفنهم في البحر الأحمر بشكل تام، بالإضافة إلى فرض تكلفة استراتيجية على الحكومة «الإسرائيلية» والإدارة الجديدة في الولايات المتحدة. والأهم من ذلك، استطاع اليمن فرض حظر جوي جزئي على «مطار بن غوريون» (مطار اللد) في يافا. لذلك، يدرك كبار العسكريين والباحثين «الإسرائيليين»، أكثر من أي وقت مضى، صعوبة وكلفة مواجهة اليمن. وفي هذا المضمار، يقول الباحث «الإسرائيلي» في معهد دراسات الأمن القومي «الإسرائيلي» داني سيترينوفيتش: «من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تكريس معادلة ردع مع الحوثيين».
خاتمة: في المحصلة النهائية، لا يمكن تفسير موقف أنصار الله في اليمن الداعم لغزة من زاوية المكاسب أو الخسائر المادية، فهذا الموقف ينبع من منطلقات عقدية وأخلاقية تتجاوز الحسابات النفعية الضيقة، والتي جسّدت فيها المقاومة اليمنية أسمى معاني الإنسانية. وبالفعل كانت ولا تزال مصداقاً صادقاً لقول سيد شهداء الأمة الإسلامية السيد حسن نصرالله، حينما صدح صوته الهادر بوجه المستكبرين والمجرمين الصهاينة، قائلاً: «إنّ أقصى ما يملكه عدونا هو أن يقتلنا. وإنّ أقصى ما يمكن أن نتطلع إليه هو أن نُقتل في سبيل الله عزّ وجلّ؛ فعندما ننتصر ننتصر، وعندما نُستشهد ننتصر».

أترك تعليقاً

التعليقات