أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

دونالد ترامب اليوم متحالف مع أصحاب الاقتصاد الحقيقي في أمريكا في مواجهة أرباب المصارف والاقتصاد ذوي الهيمنة الاقتصادية في أمريكا وخارجها، أي أنه يقوم بما كان يقوم به الرئيس جون كيندي سابقاً، 
الذي لقي حتفه بقناصة الرأسماليين المصرفيين لدخوله في حرب معهم ورفضه التوقيع على رهن اقتصاد أمريكا الدولة للبنك الفيدرالي المملوك للقطاع الخاص. فمن جهة بالنسبة للدولة الأمريكية يُعد ترامب وطنياً، وبالنسبة لأصحاب المصارف يُعتبر ترامب خائنا. ولهذا شُنت حملة دعائية عليه بأنه عميل روسي وأن روسيا تدخلت في الانتخابات ونحن في مصلحتنا أن ينتصر ترامب لأمريكا الدولة فتصبح أحد اقطاب النظام العالمي ويُساهم في إضعاف أمريكا كأداة في يد الطغمة الإمبريالية الحاكمة لأمريكا والعالم. فيصبح ترامب النسخة الأمريكية من «غورباتشيف» السوفياتي، ويلعب دور «أتاتورك» 
الذي ركز على بقاء تركيا كدولة قومية على حساب نفوذها القديم كإمبراطوية استعمارية.
الأزمة الرأسمالية التي تحدث في الولايات المتحدة، كونها أكبر دولة في المنظومة الرأسمالية وتمثل أكبر اقتصاديات العالم، ستنعكس على الاقتصاديات الأخرى، سواء كانت في البلدان الصناعية أم في البلدان النامية.

انتقال الرأسمالية من المنافسة إلى الاحتكار
كان الفيلسوف الألماني «كارل ماركس»، الذي واكب تفجر الثورة الصناعية ودرسها تاريخيا واقتصاديا، أول من برهن في مؤلفه «رأس المال» (1867) على أن المنافسة والمزاحمة الحرة -التي كانت سائدة آنذاك- سوف تولد تمركز الإنتاج (تجمعه وتضاعف إنتاجه وتطور ماكيناته في مصانع أكبر لمُلاك أقل)، وعلى أن هذا التمركز سيفضي، عند درجة معينة من تطوره، إلى الاحتكار. وكان كلامه مدعاة للسخرية بالنسبة للاقتصاديين البرجوازيين المتحمسين لصعود الرأسمالية، وشيئاً غير معقول بالنسبة لعامة الناس. وقد غدا هذا الاحتكار -بعد وفاة ماركس- أمرا واقعا. وهو حاليا في أعلى مراحله، وهي المرحلة «الإمبريالية». والتعريف اللغوي للمفردة اليونانية (إمبريالو) يعني السيطرة، لكنها في واقعها الاقتصادي تعني الاحتكارية الرأسمالية الاستعمارية (بطبيعتها).
ظهرت أولى الاحتكارات الرأسمالية على فترات متعددة، وأول أجناتها كان في سنوات العقدين السابع والثامن من القرن الماضي، حين وصلت المزاحمة الحرة إلى أعلى أشكالها وبدأت تضيق.
ومن بعد أزمة سنة 1873 دخل العالم الرأسمالي مرحلة نادرة من الاحتكار ولم تكن وطيدة بعد. إلا أن أول تسيد فعلي للاحتكار كان مع النهضة الصناعية في أواخر القرن الـ19، وغدت احتكارات «الكارتيلات» أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكملها، وتحولت الرأسمالية إلى إمبريالية.
ما كانت لتستطيع الاحتكارات الصناعية أن تهيمن بهذه الطريقة وتتطور بمعزل عن المصارف، فبعد أن كانت المصارف مهمتها الإيداع والتبادل، بدأت المصارف تستثمر الأموال المودعة، وتقرض الصناعيين، وعبر معرفة الأحوال الاقتصادية للصناعيين أصبحت تبتزهم بالقروض ثم دخلت في شَراكات معهم، ومع تعاظم دورها هيمنت على الصناعيين واندمجت بالقطاع الصناعي لتملكهُ، ليظهر ما يسمى «الرأسمال المالي»، والرأسمال المالي والبنوك تخدم تفوق حفنة من المشاريع الكبرى التي تملكها أو يملكها شركاؤها، ساحقةً بذلك الملايين من «أصحاب الأعمال» الصغار والمتوسطين، وحتى قسما من مشاريع كبار الصناعيين المنافسين، من الآلاف الذين يصبحون مستعبدين بصورة تامة لبضع مئات من ملاك المصارف، هذه المصارف التي انتقلت من مجرد وسيط للدفع إلى الاحتكار.
يقول لينين في مؤلفه «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»: «الاحتكار هو آخر كلمة لأحدث المراحل في تطور الرأسمالية. ولكن تصورنا لمدى قوة وأهمية الاحتكارات الحديثة يكون غير واف أبدا وغير تام، ومنقوصا، إن لم نأخذ بعين الاعتبار دور البنوك». هذه البنوك العملاقة من بينها «صندوق النقد الدولي» و»بنك الإعمار الإنمائي» و»البنك الدولي» وغيرها لا تؤثر بهذه الطريقة على شركة أو بلد، بل أصبحت تعيق النهوض الصناعي لعديد الدول الواقعة تحت الهيمنة الاقتصادية، وبالتالي فهي تحكم مصير ملايين البشر في قارات العالم.
وينبغي إعطاء الإمبريالية تعريفا يشمل علاماتها الخمس الأساسية التي حددها لينين، كالتالي:
1 ـ تمركز الإنتاج والرأسمال تمركزا بلغ في تطوره حدا من العلو أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية.
2 ـ إندماج الرأسمال البنكي والرأسمال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس «الرأسمال المالي» هذا.
3 ـ تصدير الرأسمال، خلافا لتصدير البضائع، يكتسب أهمية في منتهى الخطورة.
4 ـ تشكيل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم.
5 ـ انتهى تقاسم الأرض إقليميا بين كبريات الدول الرأسمالية.
ووفقاً لتعريف لينين فالإمبريالية هي «الرأسمالية في مرحلة من التطور تكونت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي واكتسب تصدير الرأسمال أهمية كبرى وابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية وانتهى تقاسم الأرض كلها إقليميا بين كبريات البلدان الرأسمالية».
صحيح أن الاحتكارات من حيث مركزة الإنتاج وإعطائه طابعاً اجتماعياً جماعياً ورفع الطاقة الإنتاجية وتجميع شتات الأعمال الصغيرة المُكلفة والرديئة قامت بدور تقدمي في التاريخ الإنساني، إلا أن رجعيتها تكمن في طابع الملكية، فوسائل الإنتاج الاجتماعية التي كانت مملوكة للكثير من الأفراد، تغدو ملكا خاصا لعدد ضئيل من الأفراد. كما أن هذه الاحتكارات مع الابقاء على المزاحمة بشكل بسيط وشكلي فيما بينها تدمر البشرية بما تولده من أزمات وحروب ومجاعات نتاج المزاحمة واللهاث وراء الربح والركود من أجل ثبات السعر، وتدفع بذلك دولاً إلى التراجع الاجتماعي والاقتصادي، وتدمر تطورها وتعيقه، وتجعل من إمكانية تقدمها الاجتماعي المستقبلي أمراً بالغ الصعوبة.

وضع أمريكا في النظام الرأسمالي الاحتكاري والأزمة الجذرية النهائية
تأخذ إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية في العصر الراهن موقعاً مميزاً في النظام الإمبريالي العالمي، على عكس حال دول الإمبرياليات السابقة؛ فالإمبرياليات السابقة (الفرنسية والبريطانية والألمانية واليابانية) التي سيطرت على العالم بصورة استعمارية مباشرة في القرون السابقة تعجز حالياً عن أن تمارس نفوذها الإمبريالي السابق، لعوامل متعددة، منها استنفاد هذه الدول خاماتها، وحصول البلدان التي كانت مستعمراتها سابقاً على شيء من الاستقلالية السياسية، وتطور الحركات العمالية، والضغط الديمقراطي النسبي داخل البلدان الإمبريالية السابقة، وأيضا وجود نضج ديمقراطي داخل دول المستعمرات السابقة، ومجيء حقبة التحرر الوطنية... وهي عوامل جعلت الشعوب أكثر تطورا من وضع استكانتها إبان الاستعمار القديم.
الإمبريالية الأمريكية هي الوحيدة في العصر الراهن التي تتمتع بكامل حيويتها وتمارس شكلي الاستعمار القديم والجديد، التوسعي الاقتصادي والعدواني العسكري، وهي في حالة صراع مع النضوج الديمقراطي العام، وتحتل احتكاراتها مرتبة اقتصادية كبيرة في الرأسمال العالمي (الرأسمال المالي المصرفي، والصناعي/ العسكري، والتقني)، فتجيّر لصالحها منظمات دولية كـ«مجلس الأمن» و«الأمم المتحدة» و«محكمة الجنايات الدولة» وغيرها.
رغم ما تتحلى به الإمبريالية الأمريكية من عوامل مساعدة، على عكس الإمبرياليات القديمة، فإنها في الوضع الراهن تعاني من أزمات اقتصادية كبيرة وأزمات جذرية، وتحارب اليوم من أجل الحفاظ على الأحادية القطبية في العالم، ممانعة استقلال أي دولة عن مصارفها، وظهور أي منافس وتكتل مضاد لها على الصعيد الدولي وميدانه الاقتصادي، لتُبقي بذلك على هيمنتها الاستعمارية في العالم بمختلف الأشكال، بما فيها الأشكال الدموية الإجرامية، فطبيعتها الإجرامية تأتي هنا كضرورة ملازمة لبقاء هيمنتها الاحتكارية، إلا أنها تعاني من أزمة جذرية لا يُمكن معالجتها.

الأزمات الجذرية النهائية
أولاً: أزمة الركود: 
بداية الأزمة الأولى للرأسمالية كانت عند نشوء الورشات من تطور جماعات التعاون الرأسمالي البسيط، على أنقاض الحرف البدائية داخل أحشاء الإقطاعية، ثم اتساع تلك الورشات تحت تأثير نمو التجارة، وحينذاك برزت الأزمة الأولى للرأسمالية المعروفة بالأزمة الدورية، التي تبلورت أكثر مع نشوء المصانع الكبيرة، لاسيما بعد الثورة الصناعية، وجوهر هذه الأزمة هو التناقض بين اتساع الإنتاج السلعي ووفرة السلع بشكل كبير مع ضيق القدرة الشرائية، الأمر الذي أدى إلى الركود التجاري، مما يعني إفلاس الكثير من الرأسماليين، وازدياد ثروة القِلة القادرين على مواكبة الركود السلعي، وكانت فترة الركود قليلة بين دورتي الإنتاج المنتعشتين، ثم مع تعمم الصناعة الكبيرة، الذي يعني اجتماعيا ازدياد طبقة العمال الكادحين في أوساط المجتمع الذين لا يملكون قدرة شرائية. ومع اتساع طبقة هؤلاء العمال الكادحين وسائر الفقراء المُعدمين، فقد بدأت تزداد فترة الركود الاقتصادي والتجاري. وفي وضعنا الراهن تعاني بعض البلدان الرأسمالية الكبيرة كاليابان من أزمة ركود ممتدة منذ أكثر من عقد. أما البلدان الأخرى الاكثر انتعاشا تجاريا، فإنها لا تخرج من الركود إلا لتدخل إليه. وهذا الشكل البسيط من أزمات الرسمالية مستمر الآن في كل مكان، مع إفقار ليس فقط العُمال والطبقات الوسطى، بل إن شعوباً كاملةً في أفريقيا تعاني المجاعات، وفقدت قدرتها الشرائية.

أترك تعليقاً

التعليقات