عودة اليسار الفلسطيني المقاوم
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
كشفت المواجهات الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية وبين الكيان الصهيوني جملة من الحقائق والمعادلات الجديدة على مستوى الأصعدة الإقليمية والمحلية الفلسطينية السياسية والعسكرية والأمنية والثقافية والاجتماعية والشعبية. لقد جاءت الأحداث الأخيرة بمثابة ريح أزاحت الستار عن الواقع المتخلق الجديد، أو كنست الرماد عن الجمر المتقد. وكان من بين هذه الحقائق الجديدة التي ظهرت الوضع الجديد لليسار الفلسطيني.
كغيره من قوى اليسار في العالم العربي تعرض اليسار الفلسطيني لانتكاسات عديدة. ولسنا هنا في مَعرض الحديث عن العوامل الموضوعية والذاتية لضعف الحركة اليسارية في فلسطين ولا اليسار العربي عموماً، بل الإشارة إلى الحقائق الجديدة التي تجلت خلال 11 يوماً من المقاومة الفلسطينية الظافرة.
عادة ما يُشار إلى اليسار الفلسطيني بالحزب الشيوعي الفلسطيني سابقاً، حزب الشعب الفلسطيني حاليا، إضافة إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التي انشقت من الشعبية، والاتحاد الوطني الفلسطيني (فدا). روافد هذا اليسار الماركسية اللينينية، وحركة القوميين العرب التي تطورت نحو الماركسية اللينينية والماوية ـ الجيفاراوية. وكانت فصائل اليسار الفلسطيني صاحبة حضور سياسي واجتماعي وعسكري سابقاً، فيما يكاد اليوم ينحصر مفهوم اليسار الفلسطيني بمعيار المقاومة والموقف السياسي والممارسة العملية على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، دون أن يعني ذلك الانتقاص من بقية الفصائل وأدوارها الوطنية في فلسطين، على تواضعها.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وجناحها العسكري كتائب الشهيد أبو علي مصطفى (كتائب النسر الأحمر سابقاً) هذا الفصيل الذي تطور عن حركة القوميين العربية بقيادة جورج حبش، له تاريخ وطني وقومي كبير، فهو من أبرز الفصائل الفلسطينية التي دخلت في حروب مباشرة مع الكيان الصهيوني ولقنته ضربات كثيرة من فلسطين ولبنان والأردن وضربته في عمقه بعمليات بطولية نوعية، واستهدفته في كل العالم وفق شعار مسؤول العمليات الخارجية الشهيد وديع حداد: «خلف العدو في كل مكان»، الذي اشتهر باختطاف الطائرات «الإسرائيلية»، وأصبحت الجبهة الشعبية جبهة أممية قاتل في صفوفها ثوار أمميون شيوعيون من مختلف دول العالم، أبرزهم الجيش الأحمر الياباني والمناضل الفنزولي كارلوس الأسير في سجون فرنسا حاليا. وقد استمرت الجبهة الشعبية على خطها الأممي القومي العربي الأصيل والوطني الفلسطيني ذاته، وكانت من أبرز الأصوات التي رفضت اتفاقية «أوسلو»، وأبرز الأصوات الفلسطينية التي وقفت إلى جانب الثورة الإسلامية في إيران. ويذكر للقائد المؤسس جورج حبش مقولته المشهورة: «إن أي نظام عربي يحيك الدسائس والمؤامرات ضد الثورة الإسلامية في إيران هو خائن خارج على إرادة الشعب العربي».
كانت الجبهة الشعبية بعد حرب 1973 ممن عارضوا التوجهات العربية نحو حل تفاوضي مع «إسرائيل»، وكذلك المبادرة السياسية التي قدمها كل من الجبهة الديمقراطية وفتح للتعامل مع المستجدات القائمة على «حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ورفض عودة الحكم الأردني إلى الضفة الغربية»، كما رفضت «الشعبية» مشاركة الفلسطينيين في المفاوضات على أرضية قرار مجلس الأمن رقم (242) الذي يعني التنازل عن فلسطين التاريخية. وخلد جورج حبش موقف الجبهة الشعبية هذا في خطاب له عام 1974، قائلاً: «إن الصهيونية لن تجلى عن شبر واحد إلا نتيجة نضال سياسي عسكري يرغمها إرغاما على هذا الجلاء. إن البندقية، السلاح، حرب التحرير الشعبية، القتال، هو الطريق الأساسي الأول القادر على إرغام الإمبريالية وطرد الوجود الصهيوني من وطننا. لا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يكون إنهاء عدوان 1967 بتثبيت عدوان 1948».
كانت الجبهة الشعبية ممن رفضوا بشكل حازم اتفاق «أوسلو» التطبيع والتنازل بين منظمة التحرير وكيان الاحتلال، ورأى أن نتائج «أوسلو» رجحت لمصلحة «إسرائيل» بشكل حاسم. ورفض حبش العودة مع القيادات الفلسطينية التي عادت إلى الضفة الغربية وقطاع غزة بعد قيام سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية.
في عام 2000، وفي مؤتمر الجبهة الشعبية السادس، استقال حبش من موقع الأمين العام ليخلفه في هذا الموقع مصطفى الزبري المعروف بـ«أبو علي مصطفى» والذي اغتالته قوات الاحتلال في 27 أغسطس 2001 بعد قولته الشهيرة: «عدنا لنقاوم»، ثم قامت السلطة الفلسطينية باعتقال الأمين العام الجديد للجبهة الشعبية أحمد سعدات الذي خطط لعملية الانتقام لأبو علي مصطفى، ونفذت الجبهة الشعبية عملية اغتيال وزير السياحة الصهيوني حينها. وبعد اعتقال الأمين العام من قبل السلطة الفلسطينية العميلة ووضعه تحت حراسة غربية، قامت قوات الاحتلال الصهيونية باقتحام السجن واعتقال الأمين العام أحمد سعدات الذي ما يزال في السجون «الإسرائيلية» حتى اليوم.
امتداداً لهذا التاريخ من النضال الطويل استمرت الجبهة الشعبية في المقاومة في كل فلسطين بحضورها السياسي، والحضور العسكري في قطاع غزة. وكان للجبهة الشعبية في المواجهات الأخيرة مع الصهاينة أدوار كبيرة، فكانت في المرتبة الثالثة من حيث قصف واستهداف مواقع الاحتلال وجنوده بعد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، رغم أن الدعم الذي تتلقاه من إيران هو أدنى مما تتلقاه حماس والجهاد.
ثبات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحضورها الوازن في مشاهد المقاومة من خلال استهداف العدو، ومتابعة الوضع الشعبي والاجتماعي، وتقديم المبادرات والدعوة إلى تشكيل قيادة وطنية موحدة لقيادة الانتفاضات الشعبية وبلورة الحراك الشعبي بشكل منظم نحو ثورة فلسطينية تشمل كل فلسطين في غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 48، هذا الاهتمام الشامل للجبهة الشعبية، وانحيازها التام للشعب والوطن ودفاعها عن المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، ورفضها المطلق التاريخي المتواصل لنهج المفاوضات والتنازلات للكيان، هذه الصلابة الأيديولوجية السياسية العسكرية، هي التي مدت في عمر الجبهة الشعبية، وهي سر بقاء هذا الفصيل اليساري الفلسطيني أكثر حيوية في محيط يسار عربي يكاد ينقرض، إنها عودة جديدة لليسار الفلسطيني بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تثبت إمكانية حياة اليسار العربي إن تمسك بقضايا شعبه ووطنه وتخلى عن النهج الليبرالي والوهابي في التفكير والتصنيف والنشاط، فعلى عكس «الشعبية» والحزب الشيوعي السوري واليسار في تونس والمغرب العربي، نجد أن الفروقات بسيطة بين الخطاب اليساري العربي (وغالبيته عضو في منظمة الاشتراكية الدولية الانتهازية) وبين الخطاب الليبرالي الغربي والوهابي السعودي فيما يتعلق بقضايا المقاومة ودول وفصائل محور المقاومة والموقف من الصهيونية والإمبريالية الأمريكية والعلاقة مع الحركات الشعبية الإسلامية الثورية.

أترك تعليقاً

التعليقات