أنس القاضي

أنس القـاضي / لا ميديا -
مشروع "إسرائيل الكبرى"، الذي تحدث عنه المجرم نتنياهو مؤخرا ، ليس شعارا عابرا ، بل يمثل إحدى الركائز العميقة في الفكر الصهيوني منذ نشأته؛ فقد تبنى تيار "الصهيونية التصحيحية" بقيادة جابوتنسكي (1) فكرة أن "فلسطين التاريخية لا تكفي لإقامة وطن قومي لليهود، بل يجب أن يمتد هذا الوطن ليشمل الأراضي الواقعة على ضفتي نهر الأردن". ومع صعود حزب "الليكود"، بزعامة مناحيم بيغن عام 1977 ، تحوّل هذا التصور إلى برنامج سياسي، وظل جزءا من الثقافة السياسية "الإسرائيلية" حتى في الفترات التي تراجع فيها الخطاب الرسمي عن استخدام المصطلح، ليعود مجددا مع نتنياهو.
تتنوع المرجعيات التي يستند إليها المشروع بين المرجعية الدينية ، القائمة على نصوص توراتية تتحدث عن أرض تمتد من النيل إلى الفرات" ، ويستند إليها اليمين الديني لتبرير سياسات الضم والاستيطان والمرجعية السياسية - الأيديولوجية، المبنية على أطروحات هرتزل وبن غوريون التي اعتبرت إقامة الدولة على أي جزء من الأرض خطوة أولى نحو التوسع لاحقاً .
أما المرجعية الحزبية، فبرامج "حزب الليكود" ترفض التنازل عن الضفة الغربية وغزة، وتعتبر الاستيطان "قيمة وطنية".
النطاق الجغرافي الذي يطرحه المشروع واسع، ويشمل فلسطين التاريخية كاملة، والأردن، ولبنان وأجزاء من سورية والعراق ومصر والسعودية والكويت. هذا النطاق الواسع يوضح أن المشروع ليس مجرد خطة سياسية محدودة ، بل رؤية أيديولوجية ذات طابع إمبريالي، وهي اليوم تدخل ضمن الحسابات الصهيونية الاستراتيجية وبعيدة المدى في أن
تكون "إسرائيل" قطبا عالميا. وهذا المشروع قائم، فإذا لم يتحقق عبر التوسع الجغرافي، يراد له التحقق عبر النفوذ السياسي الاقتصادي والتقدم العلمي التقني ومشاريع التطبيع، وعبر هذه الآليات الناعمة "إسرائيل" اليوم فعلا كيان مهيمن في المنطقة، وأظهرت الحرب الإيرانية الصهيونية كيف تحركت الطائرات الصهيونية بحرية في السماء العربية لقصف إيران، وكيف وظفت أنظمة عربية دفاعاتها الجوية لحماية الكيان من الردود الإيرانية وعملت على اعتراض الصواريخ والطائرات المسيرة.

عوامل داعمة للمشروع
هناك عدة عوامل تدفع نحو تحقق المشروع ، منها الغطاء الأيديولوجي السائد في كيان الاحتلال، فهو يساعد على التنفيذ من خلال وجود ائتلاف حاكم يميني متطرف، يضم شخصيات مثل سموتريتش وبن غفير ، يرفع منسوب الشرعية الدينية - القومية المشروع التوسع .
كما أن الوقائع الميدانية تتجه نحو هذا المشروع، بواسطة بناء المستوطنات، الذي يمضي بشكل متسارع، وإقرار خطط مثل مشروع (E1) الذي يقطع أوصال الضفة الغربية، بما يجعل "الدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967" فكرة نظرية لا أكثر .
إضافة إلى أن الدعم الدولي من الولايات المتحدة من شأنه دفع المشروع إلى الأمام، من خلال توفير الحماية في مجلس الأمن، والدعم العسكري السنوي الضخم ، ما يمنح "إسرائيل" هامش مناورة أكبر من غيرها من الدول لتنفيذ مشاريع من هذا النحو .
إلى جانب كل ذلك، فإن التفوق العسكري النوعي يتيح للكيان الدفاع العسكري عن المشروع فهو يمتلك ترسانة عسكرية غربية حديثة وتفوقا استخباريا - تقنيا يسمح بفرض سيطرة مؤقتة على مساحات واسعة .

عوامل إعاقة المشروع
المشاريع التوسعية من هذا النحو ، تنتمي لما قبل ظهور مبدأ الحدود الوطنية، وبالتالي فهو يتصادم مع الشرعية الدولية. فالكيان الصهيوني في وضعه الراهن، من المنظور القانوني الدولي، مبني على المشروعية الدولية التي أيدته في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ، فقد حظيت زراعته بدعم دولي، ويتم التعامل معه كـ "دولة معترف بها". لكن مشروعا توسعيا كهذا من المستحيل أن يجد مشروعية دولية، فالقانون

الدولي يحظر ضم الأراضي بالقوة ، ويعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ، وغالبية دول العالم تعترف بالدولة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال - ولو في حدود 67 التي ترفضها المقاومة . كما أن بقية الدول التي تعتبر جزءا من جغرافيا "إسرائيل الكبرى" كالعراق ومصر وسورية هي دول قائمة ذات سيادة .
الجغرافيا تمثل عائقاً أساسياً ، فالمساحات التي يشملها المشروع شاسعة ومتنوعة، من لبنان إلى سيناء والعراق، والسيطرة على هذه الأراضي تتطلب موارد لوجستية هائلة، وجيشا أكبر بكثير من قدرات "إسرائيل" الحالية .
أما الديمغرافيا، فإن دمج ملايين العرب والفلسطينيين ضمن دولة يهودية الطابع يهدد هويتها ويقوض بنيتها الداخلية وتماسكها، وهناك دعوات صهيونية لطرد عرب 48، ناهيك عن احتواء عرب آخرين، مع عجز عن تهجير شعوب الجغرافيا المحددة. لذا تظل فكرة "إسرائيل الكبرى" أقرب إلى عقيدة أيديولوجية، فيما التطبيق العملي يتجه نحو الضمّ التدريجي لأراضٍ محدودة في غزة والضفة والجولان ولبنان في أقصى حد.
التكلفة الاقتصادية والأمنية للكيان لا تحتمل مشروعاً إمبريالياً من هذا النوع. الولايات المتحدة بذاتها عاجزة عن القيام بأمر مماثل، ناهيك عن الكيان، فالسيطرة على ملايين السكان العرب ستفرض عبئاً ضخماً على الجيش والاقتصاد، لا يمكن تحمله.

المواقف الإقليمية والدولة
ردود الفعل الإقليمية رافضة لهذا المشروع، وسيواجه بالحرب، فالدول العربية الأساسية التي تقع جزءاً من المشروع، مثل العراق ومصر والأردن وسورية ولبنان، لن تسمح بتهديد أراضيها، وإن لم تدافع الدول ذاتها ستتفجر حركات مقاومة وتحرر وطني فيها.
ستتعامل مصر مع أي مساس بسيناء كتهديد مباشر لأمنها القومي، وقد صدرت بالفعل مواقف رافضة. أما في الأردن فالنظام الملكي يرفض المشروع، باعتباره تهديداً وجودياً، خاصة مع احتمال توطين الفلسطينيين، وسبق لمصر والأردن رفض التهجير -ومازال الموقف ثابتاً حتى اليوم ومدعوماً عربياً- ناهيك عن احتلال الأرض.
القوى الدولية، وخصوصاً روسيا، الصين، والاتحاد الأوروبي، ستواصل رفض الضمّ وتأكيد المرجعيات الدولية والشرعية الدولية، فيما يظل الموقف الأميركي أقل حدة في رفض المشروع ظاهرياً وأكثر دعماً لـ"إسرائيل".

تقدير قوة كيان الاحتلال الراهنة
تمتلك قوات الاحتلال قدرات متقدمة من حيث الطيران والاستخبارات والتسليح؛ لكن الواقع يكشف عن إنهاك واضح نتيجة تعدد الجبهات في "طوفان الأقصى"، والاستدعاءات الواسعة للاحتياط؛ فالقدرة على التوسع الدائم محدودة، وإن كان التفوق النوعي يسمح بعمليات تكتيكية سريعة وتحقيق انتصارات، إلا أن الابقاء على الأراضي المحتلة الجديدة غير واقعي، وقدرة الكيان على احتلال أراضٍ واسعة كما في حرب 1967 أمر غير ممكن، نتيجة تغير الأوضاع الإقليمية والدولية على مختلف الأصعدة.
داخلياً: يتمتع نتنياهو بدعم من ائتلاف يميني متشدد، ما يمنحه هامشاً لتمرير سياسات ضمّ واستيطان. لكن خارجياً، يواجه عزلة متنامية، وتحقيقات جنائية دولية، ما يجعل مشروعه عرضة لقيود وضغوط، وهناك حملة واسعة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وما يُطرح اليوم هو دولة إمبريالية، بخلاف ما قُدم عام 1947 عقب الحرب العالمية، من دولة صغيرة تجمع شتات اليهود الذين ظهروا بصورة المستضعفين، فيما اليوم يظهرون بصورة "دولة" احتلال عسكرية نووية.
الاقتصاد "الإسرائيلي" متماسك نسبياً، بفضل الدعم الغربي المتواصل، وبوصفه جزءاً من الاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ لكنه يتأثر بتكاليف الحرب الممتدة، والتوترات الاجتماعية الداخلية، واحتمال العقوبات أو المقاطعات الخارجية، خاصة إذا تصاعد الضغط الشعبي الغربي.
ورغم التعبئة القومية الصهيونية، فإن المجتمع الاستيطاني "الإسرائيلي" منقسم، ويشهد احتجاجات متكررة ضد سياسات الحكومة، هذا الانقسام يضعف القابلية لتحمل مشروع طويل المدى يتطلب تضحيات كبيرة، فأقصى ما يريده مجتمع المستوطنين في هذه اللحظة هو استعادة الأسرى ووقف الحرب.

الإعلان بين الأيديولوجيا والمناورة
من خلال السياق التاريخي الراهن وحدود إمكانات الكيان وحكومة نتنياهو، فالإعلان عن "إسرائيل الكبرى" له طابع مزدوج فهو يُعبر عن عقيدة صهيونية دينية وسياسية راسخة لدى اليمين "الإسرائيلي"، وفي هذه الحالة نتنياهو صادق مع نفسه ومع "شعبه"، ومن ناحية أخرى له طابع براجماتي، يحقق غايتين:
تعبئة أيديولوجية، بتقديم نتنياهو نفسه كقائد "صاحب رسالة يهودية" يتبنى مشروعاً توراتياً - تاريخياً، ما يعزز شرعيته أمام اليمين المتطرف.
والغاية الأخرى سياسية، باستخدام الخطاب كأداة ضغط لقبول مشاريع التطبيع بدلاً من الاحتلال، وللتغطية على إخفاقات الحرب في غزة والضفة والبحر الأحمر، وكذلك لحرف الأنظار عن الأزمات الداخلية.
والمؤشرات العملية الراهنة في الكيان، من استمرار الاستيطان، قرارات الكنيست في ضم الضفة، التوجه نحو احتلال غزة، وتوسيع الاستدعاءات العسكرية لقوات الاحتياط في قوات العدو، كلها دلائل على توجه نحو ضمّ تدريجي لغزة والضفة وربما الجولان، لا توسعاً شاملاً.

التقدير النهائي
إعلان نتنياهو يعكس جوهر المشروع الصهيوني التوسعي؛ لكنه في الوقت نفسه يُستخدم كأداة سياسية وإعلامية لتعويض الفشل في تحقيق أهداف الحرب العدوانية في غزة. وعلى المدى البعيد، يظل المشروع غير قابل للتحقق؛ بسبب الموانع الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية. أما على المدى القريب، فالخطر يكمن في استمرار الضمّ الزاحف في الضفة الغربية، وفي خطورة التوسع في الجولان السوري واستمرار البقاء في جنوب لبنان، وفي محور صلاح الدين "فيلادلفيا".

هامش:
(1) فلاديمير جابو تنسكي هو قيادي في الحركة الصهيونية يعد من أهم مؤسسي "الصندوق القومي اليهودي" ، والفيلق اليهودي الذي شارك في الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا .
أسس حركة بيتار سنة 1923 ، ثم أسس حزب الصهيونية التصحيحية سنة 1925 ، وهو أحد أهم أحزاب اليمين الصهيوني المطالب بإنشاء دولة يهودية تمتد ما بين النهرين .

أترك تعليقاً

التعليقات