التمدين الإمبريالي!
- أنس القاضي الأثنين , 17 يـنـاير , 2022 الساعة 6:35:02 PM
- 0 تعليقات
أنس القاضي / لا ميديا -
عرفت البشرية الحروب منذ الجماعات الإنسانية الأولى التي تقاتلت بأسلحة بدائية، وبتطور وسائل الإنتاج وظهور الدولة وتشكل الجيوش تطورت الأسلحة وأساليب الحروب وصولاً إلى العصر الراهن الذي بلغ فيه السلاح مستوى من الخطورة على الحياة عموماً لا القوات المسلحة المتحاربة.
في التاريخ الإنساني القديم كانت الأسلحة البدائية متوفرة لدى الأفراد والجيوش، وتصنع في معامل بسيطة غير معقدة، ولم تكن الأسلحة تحمل معنى أيديولوجياً وسياسياً، إذ كان كل رجل مقاتلاً، وقد كفلت الشرائع السماوية والفلسفات الإنسانية القديمة والمدونات القانونية الأولى حق البشر والأمم في الدفاع عن أنفسهم.
بدخول البشرية عصر الثورة الصناعية ثم بلوغ الرأسمالية المرحلة الاحتكارية، أصبحت الأسلحة المتطورة الأكثر فتكاً حكراً على الدول الاستعمارية التي أبادت بواسطتها شعوب أصلية كما في الأمريكيتين... وبانقسام العالم في العصر الحديث إلى معسكرين اشتراكي ورأسمالي وحلفين عسكريين «وارسو» و»الأطلسي»، أخذ السلاح طابعاً أيديولوجياً شرقياً وغربياً. وبعد التراجع الاشتراكي وتفكك المعسكر الشرقي ساد المعسكر الغربي بسلاحه وثقافته، فبرزت مفاهيم معينة وظفت في مشروع العولمة الإمبريالي، منها مفاهيم «الدولة المدنية» والتحريض على السلاح وعلى التشكيلات الشعبية المسلحة.
انتشرت هذه المفاهيم وتعززت في مرحلة صعود الغرب الرأسمالي كقطب واحد يريد تعميم ثقافته ونموذجه الحضاري باعتباره «نهاية التاريخ» كما يذهب المفكر الأمريكي «فرانسيس فوكوياما». وتتكرر مثل هذه الأفكار لدى السياسي والمفكر الأمريكي «هنري كيسنجر» والتي تأخذ طابعاً تنظيرياً وفلسفياً في كتابه الحديث «النظام العالمي»، فيما تظهر بكل وقاحة استعمارية لدى المفكر الأمريكي «ريتشارد ن. هاس» في كتابه «الفرصة». كما بين البحث، هذه المفاهيم، مفهوم المدنية والديمقراطية بنموذجها الليبرالي و»نهاية التاريخ»، جاءت لتقطع على الشعوب طريق التطور المستقل وربطها بالمنظومة الغربية، ويُمثل مفهوم المدنية والتمدين حجر الزاوية في السياسة المناهضة لحق الشعوب والأمم في امتلاك السلاح، وذلك من أجل تسهيل عملية غزوها ونهبها والسيطرة على مقدراتها. ورغم أن انتزاع السلاح من أيدي الشعوب والأمم سابق لمرحلة العولمة الإمبريالية إلا أنه تفاقم في هذه المرحلة.
كان من ضمن الهجوم الثقافي الغربي الأمريكي على العالم الإسلامي خصوصاً مناهضة الدين الإسلامي الذي ترتبط به القدرة الدفاعية والسياسية والوطنية للمسلمين، وهو ما تنبه له المؤلف السوفييتي «بونداريفسكي» صاحب كتابه «الغرب ضد العالم الإسلامي من الحملات الصليبية حتى أيامنا». وقد ازدادت الهجمة على العالم الإسلامي شراسة من بعد التراجع الاشتراكي إثر تفكك الاتحاد السوفييتي، وهو التوجه السياسي العدواني الذي مهد له نظرياً الرئيس الأمريكي السابق «ريتشارد نيكسون» (1969 ـ 1974) في كتابه «الفرصة السانحة» الذي صدر في العام 1992.
يشهد العالم الإسلامي خاصة صراعاً أيديولوجياً شديداً، ما بين خطابين: خطاب محور المقاومة الذي يؤكد أحقية الشعوب في امتلاك السلاح للدفاع عن أوطانهم ويحرضهم وينظمهم في تشكيلات عسكرية شعبية مقاومة، في مواجهة الخطاب الليبرالي الغربي الذي يسعى لفرض تصوراته عن المدنية، مستهدفاً قناعات الجماهير للتأثير في شخصياتهم ونزع الجانب العسكري الدفاعي منها وعزلهم عن القضايا والمسؤوليات العامة التي تتطلبها المرحلة، بإبعادهم عن خيار الجهاد والكفاح المسلح، وتوجيههم ضد من يمتلكون السلاح من الأفراد والفصائل الشعبية المسلحة المقاومة.
تشن الدعايات الغربية هذه الحرب الأيديولوجية ضد قوى الثورة والتحرر الوطنية والمقاومة في العالم الإسلامي، والضغوط السياسية بما في ذلك تصنيف فصائل المقاومة بمختلف توجهاتها -إسلامية، يسارية، قومية- كجماعات «إرهابية»، في الوقت الذي تشن فيه حروباً وتدخلات عدوانية عسكرية ضد هذه البلدان بغية انتزاع سلاحها واستباحتها وإخضاعها للنهب الاستعماري، ففيما تمت وتتم اعتداءات عسكرية على كل من العراق وليبيا وسورية واليمن، يجري التمهيد لاستنزاف جيوش كل من إيران والجزائر ومصر، فيما يتكفل العدو الصهيوني باستهداف فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين وكذلك مواقع الجيش العربي السوري.
تكتسب معركة الوعي اليوم في مواجهة الدعايات الغربية، وخاصة المتعلقة بالسلاح، أهمية شديدة، فعليها تتوقف قدرة الشعوب على المقاومة. وقد أثبتت التجربة التاريخية الراهنة أن فصائل المقاومة والتشكيلات الشعبية المسلحة في لبنان وسورية والعراق واليمن كانت هي حائط الصد الأول في مواجهة الجماعات التكفيرية، وخاصة «داعش» التي استباحت المدن وقتلت الآلاف في العراق، عندما لم تجد جماهير مسلحة منظمة مساعدة لمواجهتها. كما أن التجربة التاريخية شاهدة على المجازر والانتهاكات بحق أهالي البوسنة والهرسك المجردين من السلاح على يد القوات الصربية التي وجدتهم فريسة سهلة، ولم تحمهم المنظمات الدولية ولا العالم «المتمدن».
التمدين الغربي والأطماع الاستعمارية
تروج الدول الإمبريالية لمفاهيم التمدن، وتربط التخلف بالسلاح، وتفترض أن التقدم والتحضر يكون في عدم امتلاك السلاح وفي تجنب الحروب، فهي تفرض هذا الخطاب والرؤية على الدول التي كانت مستعمرات قديمة، فيما تحتفظ لنفسها وأممها بالأسلحة وتعمل على تطويرها، بما فيها أسلحة الدمار الشامل، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمتها فعلياً في ضرب اليابان، وغدت هيروشيما رمزاً للمأساة الإنسانية. وحتى الخمسينيات من القرن الماضي كانت العقيدة العسكرية الأمريكية ترى أنه لا ينبغي أن يكون هناك فرق بين الأسلحة التقليدية والنووية. وحتى السبعينيات كانت فكرة استعمال السلاح النووي مع التقليدي جنباً إلى جنب فكرة غير مستبعدة في الأوساط الحكومية الأمريكية.
يصور الفكر الليبرالي في إطار دعوته للمدنية أن التقدم الشامل (الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي، العلمي...) منافٍ لامتلاك السلاح، وأن وجود هذا الأخير يُعيق تحقق هذا التقدم المنشود، وهو حكم باطل ترفضه علوم الاجتماع، فهو يقيم محاكمته على أسس غير منطقية، فصناعة وامتلاك السلاح لا تتعارض مع مسألة التقدم، والعلاقة بينهما ليست علاقة تناقضية تجعل من وجود أحدهما نفياً لوجود الآخر. إن وجود السلاح في ظروف العصر الراهن شرط ضروري من أجل صون السيادة الوطنية وحماية التنمية وعمليات التحولات الاقتصادية الاجتماعية العلمية.
هناك دول متمدنة متقدمة في المستويات المعيشية والعلمية والثقافية والاقتصادية، فيما شعوبها تمتلك السلاح الخفيف والمتوسط وتحمله وتستخدمه بطريقة همجية في القتل ومهاجمة المؤسسات السياسية وتعيق العملية الديمقراطية كحال الولايات المتحدة. وهناك دول منزوعة السلاح لا الشعب فيها ولا المؤسسات تمتلك السلاح فيما تعيش أوضاع تخلف اقتصادي وثقافي وعلمي، وكان يُفترض أن تكون أكثر ازدهاراً لو صحت الأطروحة التي تمثل جوهر الدعاية الليبرالية التي تقرن ما بين التخلف والسلاح وما بين الاستسلام والتحضر!
تقف خلف الدعوة إلى المدنية وربط التقدم في مجالاته الشاملة بالمَدنية، وجعل السلاح نقيضاً له، الدوائر الاستعمارية العالمية والصهيونية، التي تروج له عبر نشاط النخب الليبرالية ونشاط منظمات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلاً أجنبياً، الهدف الأساسي من هذا الخطاب ليس إرادة الخير والتقدم للمجتمعات التي تعيش ظروفاً اجتماعية اقتصادية علمية متأخرة، فالدول التي ترعى هذا الخطاب هي الدول الاستعمارية التي تنهب ثروات الشعوب وتهيمن عليها وتعمل على تأبيد تخلفها. كما أن هذه الدول الاستعمارية، هي الداعم الأول للأنظمة الاستبدادية والعنصرية، وذلك لأن هيمنة الإمبريالية على صعيد عالمي يتطلب إقامة ودعم أقليات استبدادية محلية تابعة في الأطراف تشارك أسياد المنظومة العالمية في نهب الثروات الوطنية، ويصعب على الحكام الاستبداديين أن يتمتعوا بدرجة معقولة من الشرعية في نظر شعوبهم بدون دعم الأنظمة الغربية(1). وعليه فإذا كانت هذه الدول هي التي تعيق تقدم هذا البلدان وتطورها من الداخل، فلا يمكن أن تكون صادقة في رغبتها في تقدم المجتمعات كما هي عليه في ظاهر الخطاب التمديني.
القصد من خطاب التمدن المشوه هو نزع السلاح من أيدي الشعوب كجماهير، ونزع السلاح الاستراتيجي من قواتها المسلحة كدول، وبالتالي جعلها ضعيفة مرتهنة للاستعمار غير قادرة على مقاومة الغزو والاحتلال والهيمنة الأجنبية، وغير قادرة على تحقيق الاستقلال الوطني والدفاع عنه. ولا شك في أن مختلف دول العالم تسعى لامتلاك السلاح للدفاع عن أوطانها، فالواقع الدولي قائم على الحرب والعدوان وعلى مفاهيم الردع العسكرية، ولا تقوم العلاقات الدولية على أسس من الأخلاق والمُثل والقوانين التي تظل مجرد أفكار ووثائق في الأدراج.
الإمبريالية الغربية ضد التمدن الإنساني
الدولة الرأسمالية الاحتكارية، التي تنتج السلاح وتصنع وتؤجج الحروب، هي الخطر الأول على البشرية، وهي التي تقف على الضد من التقدم والتمدن، وليست الشعوب المضطهدة والفقيرة التي لا تملك من السلاح عُشر ما تملكه الولايات المتحدة الأمريكية.
تحاول الدول الإمبريالية أن تصور لشعوب العالم أنها نموذج التمدن وراعية التمدن، وأن ما يزعزع الأمن والسلم الدوليين ليس ترساناتها النووية ومشاريعها العدوانية الاستعمارية، بل وجود السلاح في أيدي الدول والمنظمات المسلحة التي كانت بلدانها مستعمرات للغرب، والتي تدافع بهذا السلاح عن وجودها واستقلالها، فيما يشهد الملموس التاريخي أن السلاح الموجود في مخازن الدول الغربية هو الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين، لأنها أسلحة عدوانية هجومية استعمارية وليست أسلحة دفاعية.
إن التمدن الإنساني المرتبط بالتطور الشامل الاجتماعي الاقتصادي السياسي المرافق لنضوج الشخصية الإنسانية وتطورها نحو بناء الحياة على أسس من السلام والعدالة والتعاون والأخوة بين الأمم والشعوب ونبذ الحرب ونبذ استخدام العنف في حل المشاكل الدولية وفي النهب وقمع الشعوب وانتهاك حقوقها في تقرير مصيرها، هذا النوع من التمدن التقدمي الذي هو نتيجة لنضوج البنية الاجتماعية الاقتصادية والتطور العلمي التراكمي الموضوعي، هذا التمدن الموضوعي تقف ضده دول الغرب الإمبريالية، وبشكل أخص الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني ودول «حلف الأطلسي»، وهذه السمة العدوانية في جوهر الإمبريالية نابعة من طبيعتها الاقتصادية. وقد كان المفكر الروسي فلادمير لينين هو الأسبق إلى دراسة هذه الطبيعة العدوانية، ولا تزال لتعميماته ونتائجه التي كتبها مطلع القرن العشرين راهنية حتى اليوم في معرفة الطبيعة العدوانية للإمبريالية عموماً، وفي مقدمتها الإمبريالية الأمريكية.
أوضح لينين أن «الرجعية السياسية على طول الخط هي من ميزات الإمبريالية. ففي السياسة الخارجية وفي السياسة الداخلية على حدٍّ سواء، تسعى الإمبريالية إلى انتهاك الديمقراطية، إلى الرجعية، فالديمقراطية تقابل المنافسة الحرة، والرجعية السياسية تقابل الاحتكار، وبهذا المعنى لا جدال في أن الإمبريالية هي إنكار للديمقراطية على العموم، إنكار للديمقراطية بكاملها. وبما أن الإمبريالية هي إنكار للديمقراطية فهي تنكر كذلك الديمقراطية في المسألة القومية، أي حق الأُمَم في تقرير المصير»(2). وليس مستغرباً السلوك العُدْوَاني والرجعي لحكومات الحزبين الأمريكيين، بالنسبة لموقفهم المعادي لحرية الشعوب عامةً، على المستوى السياسي أَو الاقتصادي أَو الثقافي، فالإمبريالية من الناحية السياسية هي بوجه عام نزوع إلى العنف والرجعية. وانطلاقا من هذا الموقف المعادي لحرية الشعوب تنتهج الإمبريالية أساليب الغزو والعدوان وحرمان الشعوب من مقومات الدفاع، فحين لا تنفع الوسائل الاقتصادية في إزاحة الخصم من السوق الدولية وفي السيطرة على ثرواته وأسواقه الداخلية تلجأ إلى الأساليب العدوانية الإجرامية. ولأن اللجوء إلى مثل هذا الخيار يعني المواجهة من قبل الشعوب، فإن الدول الإمبريالية تعمل على حرمان الشعوب والأمم من حق امتلاك السلاح والدفاع عن نفسها.
وتقف الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني ودول «حلف الأطلسي» في مقدمة الدول الإمبريالية التي تناهض السلام في العالم، وتمارس الإرهاب والإجرام وتنتهك حقوق الإنسان. وحسب تعبير المفكر التقدمي الأمريكي نعوم تشومسكي، فإن «حملة الرئيس أوباما للاغتيال باستخدام الطائرات بدون طيار هي إلى حد بعيد العملية الإرهابية الأوسع والأكثر تدميراً التي تجري الآن. تنتهك الولايات المتحدة وتابعتها «إسرائيل» القانون الدولي وتتمتعان بحصانة كاملة، فمثلاً التهديدات بمهاجمة إيران هي انتهاك للمبدأ الأساسي لميثاق الأمم المتحدة، وبمراجعة الموقف النووي الأمريكي الأحدث (2010) نجده أكثر عدوانية في نبرته من سابقاته» (3).
الهوامش:
(1) للمزيد سمير أمين: في أصول الفوضى الراهنة، الحوار المتمدن، العدد 5273، 2016 (بتصرف)، متوفر على الرابط: https://www.ahewar.org/.
(2) فلاديمير لينين: الأعمال الكاملة (كتبت بين عامي 1915 و1917)، مواضيع: بصدد الكاريكاتور عن الماركسية، وموضوع الإمبريالية والانشقاق عن الاشتراكية، إصدارات دار التقدم، موسكو، 1977.
(3) نعوم تشومسكي: العالم إلى أين؟!، حاوره سي جي بليكرونيو، دار الساقي، بيروت، 2018 ص 95-96 (الحوار يعود إلى ديسمبر 2013).
المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي