الخلافات الأمريكية - المصرية حول قناة السويس والبحر الأحمر
- أنس القاضي الأثنين , 12 مـايـو , 2025 الساعة 12:40:48 AM
- 0 تعليقات
أنس القـاضي / لا ميديا -
في سياق تصاعد التوتر في البحر الأحمر نتيجة الحرب "الإسرائيلية" على فلسطين - غزة، تقدّم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بجملة مطالب استراتيجية إلى مصر، تضمنت السماح للسفن الأمريكية بالمرور المجاني من قناة السويس، والمشاركة العسكرية والاستخباراتية في التحالف الأمريكي - "الإسرائيلي" ضد اليمن، إضافة إلى إعادة طرح مطلب قديم يتعلق باستقبال فلسطينيين من غزة في سيناء ضمن مشروع لترحيل السكان وتصفية القضية الفلسطينية.
جاءت هذه المطالب في ظل تراجع عائدات قناة السويس بسبب تعطل الملاحة، وعجز التحالف الأمريكي عن احتواء عمليات الإسناد اليمنية، ما دفع واشنطن إلى الضغط على القاهرة لدفعها إلى الانخراط في التصعيد. إلا أن الدولة المصرية، ممثلة بالرئاسة والبرلمان والخبراء والمؤسسات الإعلامية، رفضت هذه المطالب بشكل قاطع، مؤكدة تمسكها بسيادتها على قناة السويس، ورافضة توريطها في تحالف يخدم الهيمنة "الإسرائيلية" ويهدد أمن البحر الأحمر.
حتى الآن، لا مؤشرات إلى وجود أي مفاوضات بين مصر وأمريكا بخصوص هذه المطالب، بينما تُظهر القاهرة توجهاً لتأكيد استقلالها الاستراتيجي، عبر تحركات في القرن الأفريقي، وإعادة صياغة دورها في الأمن البحري من منطلق وطني لا تابع.
لمحة تاريخية وقانونية عن قناة السويس
تُعد قناة السويس واحداً من أهم الممرات المائية الاستراتيجية في العالم، وركناً مركزياً في الجغرافيا السياسية لمصر، ومورداً اقتصادياً رئيسياً للدولة المصرية، وممراً محورياً لحركة التجارة بين الشرق والغرب. ومع تصاعد الضغوط الأمريكية على مصر مؤخراً، وطرح مطالب تتعلق بإعفاء السفن الأمريكية من رسوم العبور، تبرز الحاجة إلى استحضار الخلفية التاريخية والوضع القانوني والسيادي للقناة، لفهم السياق الكامل للرفض المصري الرسمي.
تم شق قناة السويس في الفترة 1859 - 1869 بتمويل وإدارة فرنسية، وتم افتتاحها رسمياً في 17 نوفمبر 1869، وقد ظلت القناة تخضع للسيطرة الأجنبية، خاصة البريطانية، عقب احتلال مصر عام 1882، إلى أن أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميمها في 26 يوليو 1956، لتصبح شركة وطنية مصرية بالكامل، وهو القرار الذي أدى إلى العدوان الثلاثي (بريطاني فرنسي "إسرائيلي")؛ لكنه انتهى بانتصار سياسي ودبلوماسي مصري حاسم واعتراف دولي بسيادة القاهرة على القناة.
شهدت القناة لاحقاً إغلاقاً استثنائياً دام من العام 1967 حتى 1975؛ بسبب العدوان "الإسرائيلي" واحتلال سيناء، قبل أن تُعاد الحركة الملاحية إليها بعد توقيع اتفاقيات فض الاشتباك.
تخضع قناة السويس قانونياً لـ"اتفاقية القسطنطينية" الموقعة عام 1888، والتي تنص على فتح القناة لجميع السفن التجارية والعسكرية في السلم والحرب دون تمييز، وضمان حرية الملاحة، بشرط عدم تعارضها مع الأمن القومي للدولة المالكة، والحفاظ على حياد القناة وعدم استخدامها في النزاعات الدولية، مع بقاء إدارتها تحت السيادة المصرية.
ومع ذلك، فإن قرار التأميم عام 1956، وما تبعه من تطورات قانونية وسياسية دولية، ثبّت بوضوح حق مصر الكامل في إدارة القناة، من خلال هيئة قناة السويس التابعة لرئاسة الجمهورية، وفرض الرسوم والسياسات التنظيمية الخاصة بالملاحة، ورفض أي مطالب أو استثناءات تمس مبدأ المساواة بين الدول، أو تنتهك السيادة الوطنية.
خلاصة القول: يؤكد الوضع التاريخي والقانوني لقناة السويس أن مصر هي المالكة الوحيدة لهذا الممر المائي الحيوي، وأنها تتحمل مسؤولية إدارته وفق القانون الدولي، دون أن يعني ذلك التفريط في حقها السيادي. وبالتالي، فإن أي مطالب أجنبية -كطلب الولايات المتحدة إعفاء سفنها من الرسوم- تُعد مخالفة صريحة للقانون الدولي، وانتهاكاً لمبدأ السيادة، وتُعيد إلى الأذهان محاولات الهيمنة الاستعمارية التي تحررت منها مصر عبر التأميم؛ وهو ما يفسر حدة الرد الرسمي المصري على هذه المطالب، ورفضها المبدئي والمطلق، سياسياً وقانونياً وشعبياً.
قناة السويس في العقيدة العسكرية المصرية
قناة السويس ليست مجرد ممر ملاحي لمصر، بل تمثل ركيزة أساسية في العقيدة العسكرية والاستراتيجية المصرية. وقد اكتسبت هذه المكانة عبر التاريخ الحديث، خصوصاً منذ العدوان الثلاثي 1956 وحروب الشرق الأوسط، حتى أصبحت واحداً من أبرز "خطوط الدفاع والسيطرة الاستراتيجية" في الفكر العسكري المصري.
تحتل قناة السويس موقعاً بالغ الأهمية في العقيدة العسكرية المصرية، نظراً لموقعها الجغرافي الذي يجعلها حلقة الوصل بين البحرين المتوسط والأحمر، وبالتالي بين الشرق والغرب، ولأنها تمر بمحاذاة سيناء، وهي منطقة تاريخية للصراع العسكري.
تُعد القناة خطاً دفاعياً طبيعياً يفصل بين الجبهة الشرقية في سيناء والجبهة الغربية في وادي النيل والدلتا.
وقد استُخدمت بالفعل كحاجز دفاعي أثناء حروب 1956 و1967 و1973، وشكّلت أحد الموانع الطبيعية التي استندت إليها خطط الدفاع والهجوم على حد سواء.
بعد نكسة 1967، شكّلت القناة خط التماس المباشر بين الجيشين المصري و"الإسرائيلي"، وتم تحصين ضفتها الغربية بما عُرف بـ"حائط الصواريخ"، وهو ما مهّد لعبور 1973.
تُستخدم قناة السويس كأداة ردع استراتيجية غير مباشرة ضد أي تهديد إقليمي أو خارجي، من خلال التلويح بإمكانية إغلاقها أو تعطيلها مؤقتاً في حال التهديد المباشر للأمن القومي؛ فالسيطرة على حركة الملاحة الدولية جزء من أوراق الضغط في الأزمات الكبرى. ولذلك، فإن القناة تُعتبر "ورقة سيادية" حساسة لا يمكن المساس بها دون استنفار استراتيجي شامل.
يتمركز على ضفتي القناة عدد من أهم القواعد العسكرية المصرية، خاصة القوات البحرية والدفاع الجوي، وقوات الجيش الثاني والثالث الميدانيين. وتحظى المنطقة حول القناة بتجهيزات عسكرية ولوجستية دائمة، وتخضع لإجراءات أمنية واستخباراتية دقيقة، مع إمكانات تعبئة سريعة لأي تطور ميداني.
لا تنفصل المكانة العسكرية لقناة السويس عن رمزيتها الوطنية، باعتبارها عنواناً للتحرر من الاستعمار، بعد تأميمها عام 1956، وبوابة الانتصار في حرب أكتوبر. وبالتالي، فإن أي مطالبة أجنبية بالنفوذ أو الإعفاء داخل قناة السويس تُقرأ عسكرياً على أنها تعدٍّ مباشر على خط سيادي استراتيجي، ما يفسّر شدة الرفض المصري لها في الظروف الحالية.
الرد الرسمي المصري
واجهت المطالب الأمريكية المتعلقة بإعفاء السفن الأمريكية من رسوم عبور قناة السويس، ودعوة مصر للمشاركة العسكرية في التحالف البحري ضد اليمن، رفضاً رسمياً قاطعاً من الدولة المصرية على مختلف المستويات.
فعلى مستوى الرئاسة المصرية، أوردت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أن الرئيس عبدالفتاح السيسي رفض خلال اتصال هاتفي مع ترامب تلك المطالب بشكل صريح، مؤكداً أن قناة السويس تخضع بالكامل للسيادة المصرية، وأن الأزمة في البحر الأحمر مرتبطة مباشرة بالإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، معتبراً أن الحل لا يكمن في التصعيد العسكري، بل في وقف العدوان "الإسرائيلي" وفرض هدنة شاملة.
وفي مجلس النواب المصري، أدانت النائبة منال نصر، عضو لجنة الدفاع والأمن القومي، تصريحات ترامب ووصفتها بأنها تعدٍّ صريح على السيادة المصرية، وانتهاك للقوانين الدولية، مؤكدة أن قناة السويس تُدار وفق مبدأ المساواة بين الدول، ولا يمكن استثناء أي دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، من دفع الرسوم المقررة.
كما جاء الرد من الجهات القانونية الرسمية واضحاً، إذ صرّح د. محمد مهران، عضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، بأن المطالب الأمريكية تمثل انتهاكاً صارخاً لسيادة مصر وتناقضاً مع اتفاقية القسطنطينية لعام 1888، مشدداً على أن قناة السويس ممر دولي يخضع للسيادة المصرية الكاملة، وأن طلب الإعفاء يُعد سابقة خطيرة في العلاقات الدولية.
في السياق ذاته، شهد الإعلام المصري المقرب من الدولة حملة رفض واسعة لتلك التصريحات، ووصفتها أصوات إعلامية بارزة بأنها محاولة للابتزاز السياسي، وإعادة إحياء العقلية الاستعمارية بلبوس جديدة، داعين إلى عدم الرضوخ لأي ضغط سياسي أو اقتصادي على حساب المصالح الوطنية والسيادة.
وبذلك، يتضح أن الرد المصري الرسمي كان حازماً وشاملاً، وعبّر عن موقف وطني موحّد يرفض التدخل في السيادة الاقتصادية والعسكرية المصرية، ويربط أمن البحر الأحمر بحل سياسي في غزة لا بمزيد من العسكرة.
الضغط الأمريكي على مصر والعدوان على اليمن
الطلب الذي قدّمه ترامب لم يكن منعزلاً عن السياق، بل جاء ضمن سلسلة من الضغوط الأمريكية الهادفة إلى دفع مصر نحو الانحياز الصريح للمحور الأمريكي في العدوان على اليمن والوقوف مع الكيان الصهيوني، وتوريط القاهرة في صراع لا يصب في مصلحتها الإقليمية أو الاستراتيجية. وكانت الردود الرسمي والشعبية مفاجئة للولايات المتحدة، وبذلك يتضح أن مطالب ترامب، بدل أن تُحقق هدفها في دفع مصر نحو الانخراط في التصعيد، ساهمت في تعزيز التماسك الداخلي حول السيادة المصرية، ورفعت منسوب الرفض الشعبي والرسمي لأي تنازل يتعلق بالمصالح القومية، وفي مقدمتها قناة السويس.
إن قراءة هذه المطالب في سياقها تكشف عن مشروع أمريكي - "إسرائيلي" مزدوج: الضغط على الدول العربية التي لا تنخرط في التحالف، وفي حال رفضت يتم تهديدها عبر الاقتصاد والرمزية السيادية، كما هو الحال مع قناة السويس. لكن في المقابل، أظهرت مصر صلابة واضحة في موقفها، ما يمثل تطوراً مهماً في دورها كفاعل إقليمي مستقل يحاول المحافظة على مصالحه بعيداً عن الاستقطابات الخارجية.
عسكرة البحر
تشير التحليلات إلى أن الأزمة الراهنة في البحر الأحمر، المتعلقة بالحرب الصهيونية على غزة، لا يمكن فصلها عن أطماع استراتيجية وأمنية أمريكية و"إسرائيلية" في المنطقة، وعلى وجه التحديد في قناة السويس، التي تُعد واحداً من أهم الممرات البحرية العالمية. فالأزمة ليست مجرد رد فعل على عمليات الإسناد اليمنية، بل تعبير عن صراع جيوسياسي أكبر، تحاول فيه واشنطن و"تل أبيب" فرض ترتيبات جديدة تُعيد إنتاج الهيمنة في ثوب مختلف.
المصالح الأمريكية
البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس تُشكّل شرياناً حيوياً يربط آسيا بأوروبا. واستمرار الوجود العسكري الأمريكي في هذه المنطقة يضمن لواشنطن التحكم في حركة التجارة العالمية، باعتباره جزءاً من أدوات الهيمنة الجيوسياسية. فقدرة الولايات المتحدة على التدخل السريع في خرائط الحرب تعتمد على حرية حركة أساطيلها البحرية. وأي تهديد لهذه الحركة، كما يحدث حالياً بفعل العمليات اليمنية، يُعتبر تهديداً مباشراً للهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة.
كما يُعد البحر الأحمر جزءاً من الخطوط الأساسية لمشروع "الحزام والطريق" الصيني، كما يشكّل شرياناً استراتيجياً لإيران؛ لذلك فإن تعطيل هذه المنطقة أو السيطرة عليها يُساهم في كبح النفوذ الصيني والإيراني وتطويقهما اقتصادياً واستراتيجياً.
وتستفيد الولايات المتحدة من استمرار التهديد في البحر الأحمر لتبرير استمرار الحضور العسكري المكلف. كما يسمح خلق أجواء الفوضى لواشنطن باستخدام أدوات الضغط السياسي والاقتصادي على دول الإقليم، مثل مصر والسعودية، لحملها على القبول بصيغ جديدة من التبعية الأمنية.
المصالح "الإسرائيلية"
ترى "إسرائيل" في صعود قوة يمنية أو عربية قادرة على تهديد سفنها في البحر الأحمر خطراً استراتيجياً طويل المدى، لذلك تدفع باتجاه عسكرة البحر الأحمر، واستدراج أطراف عربية -مثل مصر- للمشاركة في تحالفات ضد اليمن، بغية إضعاف هذه القوة الناشئة.
وتستفيد "إسرائيل" من إشغال القوى الإقليمية ببعضها: صراع يمني - سعودي، أو يمني - مصري، أو حروب داخل اليمن بين صنعاء والمرتزقة الموالين للتحالف العدواني... فهذه التوترات تُخفف الضغط عن "إسرائيل" في غزة، وتُفكك إمكانيات بناء جبهة تضامن عربي فعّالة.
كلما توسّع نطاق التهديدات في البحر الأحمر، ازداد اعتماد "إسرائيل" على الدعم الأمريكي العسكري والسياسي، ما يمنحها غطاءً دولياً أوسع ويُعزز مكانتها في حسابات التحالفات الإقليمية.
تقاطع المصالح بين القاهرة وصنعاء في البحر الأحمر
في سياق التصعيد العسكري المتزايد في البحر الأحمر، وتصاعد التدخلات الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة و"إسرائيل"، تبرز ملاحظة لافتة تتمثل في وجود تقاطع موضوعي وغير معلن بين مصر وحكومة صنعاء في المواقف المرتبطة بالسيادة على الممرات المائية ورفض الهيمنة الخارجية، رغم اختلاف التحالفات السياسية لكل منهما.
رفضت مصر المشاركة في التحالف العدواني الأمريكي - "الإسرائيلي" ضد اليمن، وأصرت على التمسك بحقها السيادي في إدارة قناة السويس، رافضةً مطلب واشنطن بإعفاء السفن الأمريكية من دفع رسوم العبور. وقد جاء هذا الرفض رغم الضغوط المباشرة التي مارسها دونالد ترامب، ما يُشير إلى أن القاهرة كانت حريصة على عدم توريط نفسها في مواجهة عسكرية مع صنعاء، وتجنبت الانزلاق إلى اصطفاف يهدف إلى حماية الملاحة "الإسرائيلية"، في الوقت الذي تنتهك فيه "إسرائيل" الاتفاقيات الأمنية المتعلقة بوضع سيناء ومحور "فيلاديفيا" (صلاح الدين).
في المقابل، تواصل صنعاء استهداف السفن "الإسرائيلية" كجزء من موقفها المناهض للعدوان على غزة، وتعتبر البحر الأحمر جزءاً من مجالها السيادي، وترفض أي محاولة لتدويل الممر أو فرض ترتيبات عسكرية أجنبية فيه. هذا الموقف، رغم كونه تصادمياً مع الغرب، لم يستدرج مصر إلى موقع المعارض أو الخصم، بل على العكس، لوحظ غياب التصعيد الإعلامي المصري تجاه صنعاء، في وقت شنّت فيه دول عربية أخرى هجمات سياسية وإعلامية ضدها.
ويُفهم من هذا السلوك المصري نوعٌ من الحياد الإيجابي، أو ما يمكن اعتباره رسالة ضمنية بعدم العداء المباشر، ورفض الدخول في صراع لا يخدم المصالح الاستراتيجية لمصر، بل قد يُعيد استنزافها في معركة لا تملك فيها قرار المبادرة. يُضاف إلى ذلك أن الخطاب المصري في الدفاع عن قناة السويس بوصفها منشأة سيادية لا تقبل الهيمنة أو الابتزاز يتقاطع موضوعياً مع الخطاب اليمني الذي يرفض عسكرة البحر الأحمر، ويعتبره ممراً عربياً ينبغي ألا يُستخدم لصالح المشروع الصهيوني.
هذا التقاطع في الرؤية لا يعني تحالفاً مباشراً أو تنسيقاً سياسياً؛ لكنه يعكس تلاقياً مصلحياً موضوعياً فرضته طبيعة المشهد الجيوسياسي. فكلا الطرفين يقف على ضفة واحدة في مواجهة مشروع الهيمنة على الممرات البحرية، ويدافع عن حقه في السيادة، ويرفض أن يُستخدم البحر الأحمر كأداة لفرض توازنات تخدم الولايات المتحدة و"إسرائيل" على حساب شعوب ودول المنطقة.
وبناء عليه، يمكن القول بأن الموقف المصري المتمسك بعدم التورط العسكري في البحر الأحمر، والموقف اليمني القائم على استهداف السفن المعادية دون المساس بالدول العربية، يُشكلان معاً تعبيراً عن مقاومة صامتة ومنسقة -حتى وإن لم تكن معلنة- ضد محاولات تدويل البحر الأحمر وتحويله إلى قاعدة هيمنة دائمة.
النتيجة العامة
تُظهر الأزمة الحالية في البحر الأحمر، وما رافقها من مطالبات أمريكية و"إسرائيلية" وتصعيد عسكري، أنها ليست مجرد مواجهة عابرة مرتبطة بالهجمات اليمنية، بل تمثل لحظة كاشفة عن صراع جيوسياسي عالمي يتقاطع فيه المحلي بالإقليمي والدولي، وتنكشف فيه أطماع القوى الكبرى في إعادة تشكيل خارطة النفوذ عبر الممرات البحرية الحيوية، وعلى رأسها قناة السويس.
الولايات المتحدة و"إسرائيل" لا تسعيان إلى حل الأزمة الراهنة في البحر الأحمر، بل إلى إدارتها بما يُمكّنهما من عسكرة البحر الأحمر، إخضاع قناة السويس لمنطق الهيمنة، ومحاصرة القوى الصاعدة كاليمن والصين، مع الضغط على الدول العربية لتفكيك ما تبقى من استقلالها الاستراتيجي.
مطالب دونالد ترامب بإعفاء السفن الأمريكية من رسوم قناة السويس، والدفع نحو مشاركة مصر في التصعيد ضد صنعاء، جاءت كجزء من هذه الاستراتيجية؛ لكنها قوبلت برفض مصري حاسم، كشف عن إدراك القاهرة لخطر الانجرار إلى مواجهة لا تخدم مصالحها، ولأهمية الحفاظ على سيادتها على قناة السويس كرمز تاريخي واستراتيجي لا مساومة فيه.
في المقابل، لم توجه صنعاء أي خطاب عدائي نحو القاهرة، بل كان هناك تحذير من قائد الثورة أن يُستهدف الجيش المصري على غرار سورية. هذا الأمر يخلق تقاطعاً موضوعياً بين الطرفين في رفض عسكرة البحر الأحمر، والدفاع عن الممرات كمجال سيادي، وتحميل العدوان "الإسرائيلي" على غزة مسؤولية التصعيد، ما يكشف عن تقارب غير معلن في المواقف والمصالح، يتجاوز الاصطفافات التقليدية.
إن ما يجري في البحر الأحمر وقناة السويس اليوم هو نقطة انعطاف كبير، تتحدّى فيها دول -كاليمن بصورة مباشرة عسكرياً، ومصر بصورة دبلوماسية- مركز الهيمنة العالمي، وترسم ملامح جديدة لمعادلة القوة، يكون فيها القرار السيادي، والسيطرة على الموارد، ورفض التبعية، هي العناوين الأبرز في معركة الاستقلال القادمة.
المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي