أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

تتمتع الشعوب بذاكرة تاريخية لا تنسى، وبوعي وطني مدهش يفوق خيال الروائيين، ويتوفر لدى الجماهير الشعبية إحساس حاد ومرهف بالانتماء الوطني حتى ولو لم تكن لديها معرفة علمية متخصصة عن تاريخها والتمسك بوحدتها الإقليمية والسياسية. والجماهير الشعبية اليمنية اليوم، وفي مواجهة العدوان، ترى في جيزان ونجران وعسير أراضي يمنية محتلة، فلم تعد هذه القضية في سجل التاريخ، بل خرجت إلى اهتمام الرأي العام اليمني. عبر التاريخ اليمني، مثلت ضرورة استعادة أقاليم جيزان ونجران وعسير، جزءاً من قضية تحقيق الدولة اليمنية الموحدة المستقلة، وهي عملية تاريخية، بدأت حركتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولاتزال مستمرة.

بداية النزاع حول عسير ونجران وجيزان 
بدأ النزاع اليمني السعودي، على نجران وعسير وجيزان، عندما حاولت الدولة السعودية الأولى مد نفوذها إلى هذين الإقليمين اليمنيين وإلى حضرموت، وكان ذلك في مطلع القرن التاسع عشر. إلا أن محاولة النفوذ السعودي هذه انتهت بفعل الانتفاضات والحروب اليمنية التي واجهتها، وبفعل زوال الدولة السعودية نفسها على يد جيش محمد علي، والي العثمانيين في مصر، ثم تجددت في التوسع العدواني السعودي عام 1934م، وظل معلقاً باتفاقية الطائف المجحفة. 
في تاريخ 17/3/1973، صدر البيان اليمني السعودي إثر زيارة رئيس حكومة صنعاء آنذاك القاضي عبد الله أحمد الحجري، إلى الرياض، وجاء في ذلك البيان أن الجانبين اليمني والسعودي يؤكدان "اتفاقهما التام مجدداً على اعتبار الحدود بين بلديهما حدوداً فاصلة بصفة نهائية ودائمة".
وما إن أُذيع هذا البيان، حتى انطلقت المظاهرات الطلابية والشعبية في المدن اليمنة الرئيسية؛ صنعاء، وتعز، والحديدة، تطالب بمحاكمة الحجري. فقد اعتبرت الجماهير اليمنية أن التنازل عن الأراضي اليمنية جيزان ونجران وعسير، بصفة نهائية ودائمة، خيانة وطنية عظمى.
لم تقتصر حركة الاحتجاج الشعبية على الطلبة اليمنيين في الداخل اليمني والخارج، بل شملت كل المنظمات والقوى الوطنية في شمال البلاد وجنوبها، بما فيها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الشطر الجنوبي من الوطن. كما أن الجبهة الوطنية الديمقراطية اليمنية في الشمال، رفعت شعار نجران وجيزان وعسير أراضٍ يمنية، ودعمت القبائل الحدودية التي كانت تتعرض لهجمات سعودية حتى ذلك الحين. 
من المعروف تاريخيا، أن الحدود الجغرافية للوطن اليمني، تنتهي عند ميناء "الليث" في أقصى عسير تهامة، فكانت عسير السراة وعسير جزءاً لا يتجزأ من الوطن اليمني عبر التاريخ كله. 
إقليم عسير بجزأيه الجبلي والتهامي كان يشكل إحدى متصرفيات ولاية اليمن التركية، وقبل الإسلام كان إقليم نجران بواحاته المقروء عنها أحد الأقاليم اليمنية التابعة للدولة الحميرية اليمنية، والتي تسكنها جماعات من "يام" التابعة لقبيلة "همدان زيد" اليمنية.
تجدد النزاع اليمني السعودي مرة أخرى بعد الحرب العالمية الأولى (لم تكن إمارة نجد الوهابية قد ضمت الحجاز لها عقب الحرب العالمية الأولى، بل في 1926)، ففي هذه المرحلة ظهرت المطامع التوسعية السعودية في عسير ونجران وجيزان مباشرة، واستمر النزاع إلى عام 1934، وقد انتهى باتفاقية الطائف.
سجل عام 1934م لحظة ركود وتوقف عملية استعادة الرقعة الإقليمية للدولة الوطنية، ممثلة بالمملكة المتوكلية اليمنية. وكان توقف تمدد الدولة اليمنية واستعادة أجزائها التاريخية، على الاتجاهين: الشمالي على حدود ما كانت قد أصبحت تعرف بالمملكة السعودية، والجنوبي مع الاستعمار البريطاني، ففي ذلك العام انقطع خط السير نحو الوحدة اليمنية الكبرى. 
وقد شهد عام 1934م تعاوناً وثيقاً بين الامبراطورية الاستعمارية البريطانية والمملكة الوهابية السعودية التوسعية (الوهابية السعودية هي صنيعة محضة للاستعمار البريطاني منذ اعتناق مؤسسيها ابن عبدالوهاب ومحمد بن سعود في الدرعية، في 1703م)، انصب هذا التعاون الاستعماري التوسعي المعادي لليمن، من أجل تسديد ضربة مدمرة وقاتلة لحركة التوحيد اليمنية. 
وكانت الحرب الشاملة التي أعلنها ابن سعود ومن خلفه الإنجليز، مؤامرة دولية جوهرها تمزيق ما تبقى من جسد الدولة اليمنية وسحق شخصيتها الوطنية، وتحويلها إلى مجرد ملحق من مُلحقات نجد، وإسقاطها ضمن دائرة النفوذ الخارجي السعودي والبريطاني. وهذه المحاولات التي انكسرت، في 1934م، تعود اليوم مجدداً تحت مظلة العدوان السعودي الأمريكي، التي تحاول مسح الهوية اليمنية، وتفكيك وحدة التراب، وتمزيق البنية الاجتماعية والسياسية، وتحويلها إلى أقاليم مناطقية طائفية مُتحاربة.
وأحفاد الثوار اليمانيين الأوائل الذين طردوا البريطاني والعثماني، وتصدوا للتوسع السعودي، هم حاضرون اليوم للدفاع عن حياض الوطن اليمني، واستعادة حريته الوطنية، وتثبيت حقوقه التاريخية. 

التصدي اليمني للتوسع السعودي في 1934م 
تحت ضغط الثورة التحررية اليمنية، انسحب الأتراك من اليمن. وقد لعب القائدان التحرريان الإمام يحيى حميد الدين، والسيد محمد علي الإدريسي، دوراً تاريخياً هاماً، في توحيد قوى الشعب اليمني، وتنظيم انتفاضاته وتمرداته على الاحتلال العثماني، في ثورة تحررية جبارة، أثبتت أصالة الشعب اليمني وموروثه الحضاري وتوقه إلى الانعتاق والاستقلال عن الهيمنة الأجنبية، حتى سُميت اليمن مقبرة الغزاة. 
قاد الإمام يحيى حميد الدين الحرب التحررية على امتداد الهضبة الوسطى والمنطقة الشرقية من اليمن، وقاد السيد محمد علي الإدريسي الثورة التحرية في مناطق عسير السراة، وعسير تهامة، وجزء من تهامة إلى الحديدة.
فنشأت دولتان: دولة وطنية هي اليمن المتوكلية، وإمارة الإدريسي، وبدأ صراع لاهب بين الدولة اليمنية، وإمارة الإدريسي التي اتجهت لتصبح إمارة انفصالية على غرار إمارات وسلطنات الجنوب اليمني، وقد مهد هذا الصراع لعودة الأطماع السعودية الوهابية القديمة. 
حاول الشريف حسين، أمير مكة، مد نفوذه إلى عسير السراة من خلال أميرها الحسن بن علي بن عائض الذي تمرد على الإدريسي. وقد وجد الإدريسي نفسه بين نار الإمام يحيى والشريف حسين، فتوجه إلى الاستعانة بابن سعود، وفي المقابل تنازل الإدريسي عن عسير السراة لابن سعود بمقتضى ما سمي "معاهدة الصداقة" التي أبرمت بينهما في 31/8/1920. 
إلا أن قبائل عسير السراة لم تعترف بسلطة ابن سعود، ولم يتمكن الأخير من إخضاعها لسلطته إلا بعد حملات عسكرية متتالية استمرت إلى عام 1923، كان على رأسها الأمير فيصل الذي أصبح ملكاً في ما بعد. 
حاول الملك عبد العزيز الاتفاق مع الدولة اليمنية حول وضعية عسير السراة، غير أن الإمام يحيى ترك المسألة معلقة، وقامت اليمن بحملة عسكرية لانتزاع هذه المناطق من نفوذ الإدريسي، وبعد أن تمكن الجيش اليمني من انتزاع الحديدة وتهامة الجنوبية خلال عامي 1924 و1925، بادر الحسن بن علي الإدريسي، عام 1926، إلى عقد "معاهدة حماية" مع ابن سعود، طمعاً في الحفاظ على ما تبقى من إمارته، فكان أن ابتلعها ابن سعود في ما بعد! 
من أجل تخفيف وطأة المعاهدة السعودية الإدريسية، على الدولة اليمنية، أعلن الملك السعودي أن المقصود من المعاهدة مع الإدريسي ليس استعداء اليمن، ولكن "إبقاء عسير مستقلة كدولة وسط بين السعودية وبين اليمن، لتجنب نشوب الحرب". وادعى ابن سعود أنه لا يريد أكثر من أن تكون هناك في عسير حكومة يمنية محايدة بين حكومة اليمن وحكومة ابن سعود. 
ومنذ ذلك الحين دخل حاكم صنعاء وسلطان نجد في مفاوضات طويلة ومعقدة استمرت طيلة العشرينيات، لم تصل إلى حل.
 وإذ ضم السلطان الوهابي عام 1930 عسير تهامة إلى منطقة نفوذه، فقد غدت بقيام "المملكة العربية السعودية" في 22/9/1932، جزءاً من مملكة ابن سعود. 

أترك تعليقاً

التعليقات