أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
يمثّل صدور الاستراتيجية البحرية الجديدة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في نوفمبر 2025 نقطة تحوّل بارزة في تطور العقيدة البحرية الغربية؛ إذ تعود الدول الأعضاء إلى رؤية تستند إلى مفاهيم السيطرة على البحر، والاستعداد لصراعات واسعة النطاق، وربط الجاهزية العملياتية بالقدرة الصناعية على خوض حروب طويلة ومعقّدة.
ورغم أن الوثيقة لا تُشير صراحةً إلى البحر الأحمر أو اليمن، إلا أن القراءة التحليلية لبنيتها الداخلية تكشف عن أثر مباشر لهذه التحولات في الممرات البحرية الدولية الحساسة، وفي مقدمتها مضيق باب المندب. فقد تحوّلت هذه المنطقة خلال الأعوام الأخيرة إلى إحدى النقاط الساخنة لتفاعل القوى العالمية والإقليمية، وباتت مسرحاً عملياً لاختبار أدوات العقيدة البحرية الجديدة للناتو، بما في ذلك تصاعد الدور البحري الأميركي – الأوروبي، واتساع نطاق التنافس بين القوى الكبرى، وتزايد تداخل الأساطيل العسكرية مع شبكات التجارة والبنية التحتية البحرية.
ينطلق هذا التحليل من قراءة للاستراتيجية، ومحاولة تأويلها وإسقاط مضامينها على البيئة الجيوسياسية التي ينتمي إليها اليمن، بهدف فهم طبيعة التحديات والفرص التي قد تُنتجها هذه التحولات في السنوات المقبلة.
ويستند هذا التفسير إلى ورقة سياسية تناولت الاستراتيجية الأصلية بعنوان: «القوة البحرية الجماعية: استراتيجية الناتو البحرية الجديدة»، صادرة عن معهد أبحاث السياسة الخارجية في 10 نوفمبر 2025، للباحثة د. إيما سالزبوري، وهي خبيرة في برنامج الأمن القومي بالمعهد، وخبيرة في مركز الدراسات الاستراتيجية للبحرية الملكية البريطانية.

التحولات البنيوية في العقيدة البحرية للناتو
تعكس الاستراتيجية البحرية الجديدة خمسة تحولات مركزية تُعيد صياغة طريقة تفكير الناتو تجاه البيئة البحرية؛ يبدأ أولها بالانتقال من مفهوم «الردع عبر الانتشار الرمزي» إلى «الردع عبر القدرة»، وهو تحول نوعي يجعل الجاهزية القتالية فعلاً يجب إثباته ميدانياً، لا مجرد وجود شكلي أو دوريات تقليدية.
ويأتي هذا التحول ضمن رؤية عقائدية أوسع تمثل صياغة حديثة لعقيدة بحرية هجينة تجمع بين منطق الحرب بين القوى العظمى (عقيدة الحرب الباردة) ومرتكزات المدرسة الماهانية في السيطرة على البحر، مع دمج متصاعد لمفاهيم العمليات متعددة المجالات التي توحد الفضاء والسيبرانية والأنظمة غير المسيرة في البحر والجو، في إطار القتال البحري، وبذلك تتحول البحار -في تصور الناتو الجديد- إلى ساحات صراع استراتيجية تستوجب امتلاك قدرة حقيقية على خوض حرب واسعة وممتدة، وليس مجرد التعامل مع تهديدات محدودة، ما يجعل الاستراتيجية إعلاناً لعودة الغرب إلى عقيدة بحرية صلبة تستهدف في المقام الأول ردع روسيا واحتواء الصين والحفاظ على الهيمنة على الممرات البحرية الحيوية.
تؤكد الوثيقة بوضوح ضرورة أن تكون قوات الناتو قادرة على «القتال الليلة» و«الانتصار غداً»، ما يترجم إلى استعداد لعمليات بحرية واسعة وطويلة، وإلى تحديث تكاملي يجمع بين القوة البحرية التقليدية والقدرات السيبرانية والمسيرات البحرية والذكاء الاصطناعي.
التحول الثاني يرتبط بعودة مبدأ «السيطرة على البحر ومنع الوصول»؛ أي منع وصول سفن الخصم إلى المنطقة البحرية المعنية، بعدما هيمنت طوال العقد الماضي مقاربات «إدارة الأزمات» و»العمليات منخفضة الحدة»، هذه العودة ليست إجراء مؤقتاً، بل باتت جزءاً من العقيدة البحرية، إذ تشير إلى أن البحار لم تعد مجرد فضاء عبور، بل جبهة صراع رئيسية في التنافس بين القوى الكبرى.
أما التحول الثالث فيتمثل في إدماج البنية التحتية تحت البحر -وعلى رأسها الكابلات البحرية وأنابيب الطاقة- ضمن مفهوم الأمن القومي للدول الأعضاء في الناتو؛ فبعد سلسلة من الحوادث في بحر البلطيق، باتت هذه المنشآت تُعدّ أهدافاً قابلة للاستهداف العسكري والهجين، ما دفع الناتو إلى اعتبار حمايتها أولوية دفاعية.
التحول الرابع يرتبط بالطفرات التكنولوجية، إذ لم تعد الأنظمة غير المأهولة (المسيرة عن بعد)، أو الذكاء الاصطناعي، أو تقنيات معالجة البيانات، مجرد أدوات مساندة، بل أصبحت في قلب مفهوم القتال البحري المستقبلي.
وأخيراً، يتجسد التحول الخامس في إعادة إحياء الربط بين القوة البحرية والقدرة الصناعية؛ إذ ترى الاستراتيجية أن أي صراع بحري واسع لن يُحسم بالأساطيل الموجودة فقط، بل بسلاسل الإمداد، والطاقة الإنتاجية، واستدامة التصنيع الدفاعي.

البحر الأحمر ضمن الامتداد الطبيعي للعقيدة الجديدة
رغم عدم ذكر البحر الأحمر أو باب المندب بشكل صريح في الوثيقة، إلا أن منطقها الداخلي يجعل هذه المنطقة ضمن المدى الطبيعي لتطبيق الاستراتيجية؛ فالتهديدات التي تحددها الوثيقة -من السلوك الروسي والصيني، إلى «الأنشطة الإيرانية»، إلى التحديات المرتبطة بالبنية التحتية البحرية- كلها حاضرة بقوة في البيئة الأمنية للبحر الأحمر.
يمثّل باب المندب إحدى أهم نقاط الاختناق في العالم، حيث تمر عبره نسبة كبيرة من تجارة العالم والطاقة، وقد أظهرت العمليات البحرية اليمنية في معركة طوفان الأقصى 2023م-2025م أن هذا المضيق تحوّل إلى ساحة  حرب مباشر بين القوات الغربية والقوات اليمنية، مما جعله مختبراً فعلياً لقدرة الولايات المتحدة وبريطانيا في السيطرة وتأمين ملاحتهما وملاحة الكيان الصهيوني.
وبما أن الاستراتيجية الجديدة تؤكد على السيطرة على الممرات الحيوية وحماية البنية التحتية، فإن البحر الأحمر يدخل تلقائياً ضمن نطاق الاهتمام العملياتي للناتو.
إلى جانب ذلك، يشكّل البحر الأحمر مسرحاً لتنافس متصاعد بين القوى الكبرى؛ فالصين تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي، وتوسع نفوذها في موانئ القرن الإفريقي، بينما تسعى روسيا إلى صياغة حضور عسكري -بحري في السودان أو غيره من الدول، هذا يجعل المنطقة جزءاً من المشهد الاستراتيجي الذي تسعى الوثيقة إلى التعامل معه، باعتبارها مجالاً مرشحاً للتقاطع بين النفوذ الغربي والطموحات الصينية -الروسية.
كما أن البحر الأحمر يشهد نشاطاً واسعاً للوكلاء الإقليميين خصوصا الإمارات، ويشكّل بؤرة تماس بين مصالح الخليج وإيران والكيان الصهيوني، داخل شبكة معقدة تربط بين الأمن البحري والطاقة والتجارة الدولية، ومن ثم فإن أي رؤية بحرية للناتو ستأخذ هذا السياق في الاعتبار، ولو بصورة غير مباشرة.

الانعكاسات المباشرة للاستراتيجية على اليمن
تتأثر البيئة اليمنية بهذه التحولات في عدة مستويات، أول هذه الانعكاسات يتمثل في ازدياد الحضور البحري الغربي في البحر الأحمر (وتقود بريطانيا هذه الجهود في هذه المرحلة)، مع إمكان توسع الدور الأميركي -البريطاني الأوروبي (الناتو) تحت مبرر حماية الملاحة أو حماية البنية التحتية تحت البحر مثل الكابلات، وهذا يعني أن حركة المدمرات والغواصات والطائرات المسيّرة ستزداد قرب السواحل اليمنية، ما يرفع احتمالات الاحتكاك في أقل تقدير إن لم يكن العدوان ويعزز من فرص التوتر البحري.
ثانياً، ستتزايد الشراكات العملية بين دول الخليج والناتو، خصوصاً السعودية والإمارات، فهذه الدول تُعدّ «وكلاء وظيفيين» للتحالف الغربي في مشاريع  السيطرة على الممرات البحرية ومواجهة الأنظمة الوطنية الاستقلالية وقوى المقاومة ضمن شعار «مكافحة النفوذ الإيراني»، بدلا عن «مواجهة النفوذ الشيوعي» قبل تفكك المعسكر الاشتراكي.
وبالنظر إلى أن الحرب اليمنية السعودية الإماراتية لم تنته بل في حالة خفض وتصعيد، وأن عودة المواجهة اليمنية الصهيونية سواء رداً على عدوان صهيوني أو ارتباطاً بملف غزة، فإن هذا المسار يعني أن أي تصعيد عسكري في البحر قد يُقرأ غربياً من زاوية أمن الملاحة العالمية، ويدفع  الناتو ليكون جزءًا من صدامات كهذه.
ثالثاً، من المحتمل أن يتحول البحر الأحمر إلى ساحة اختبار للأنظمة البحرية غير المأهولة، واستراتيجيات «المحيط الرقمي»، والعمليات متعددة المجالات، وهو ما قد يضع اليمن أمام بيئة معقدة تقنياً يصعب التعامل معها بأدوات الرد التقليدي.
رابعاً، قد تسعى القوى الغربية إلى فرض صورة «تدويل ناعم» للبحر الأحمر من خلال ترتيبات مراقبة مشتركة، أو استخدام شركات أمن بحرية خاصة، أو تطوير شبكة مراقبة تحت البحر، وكلها مسارات قد تنتقص من قدرة اليمن على التحكم في مجاله البحري.
خامساً، ستتأثر منظومة الردع اليمنية نفسها بهذا التحول؛ فالناتو يصنّف القدرات اليمنية -من الصواريخ البحرية إلى الطائرات المسيّرة- كتهديدات «غير متماثلة» ينبغي احتواؤها.

خاتمة
تكشف الاستراتيجية البحرية الجديدة للناتو أن العالم يدخل مرحلة تتخذ فيها البحار موقع المركز في صراعات القوى الكبرى، وأن السيطرة البحرية لم تعد مضموناً غربياً كما كانت في العقود الماضية. وفي ظل هذا التحول، يُصبح البحر الأحمر وباب المندب مساحة بالغة الأهمية، ليس فقط للتجارة العالمية، بل لإعادة تشكيل موازين القوة الدولية.
إن اليمن، بحكم موقعه الجغرافي وقدراته العسكرية الصاعدة، يواجه تحديات معقدة لكنها تحمل فرصاً استراتيجية أيضاً، ويتوقف النجاح في التعامل مع البيئة المتغيرة على القدرة على بناء ردع محسوب، وتطوير بنية تحليلية وبحرية متقدمة، واستخدام الدبلوماسية والسيادة القانونية كأدوات موازية للقوة العسكرية.

أترك تعليقاً

التعليقات