أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
عطايا ثورة 26 سبتمبر أوسع من أن يحاط بها؛ فهي بسعة الحياة الجديدة للشعب مقارنة بما قبلها؛ إذ لها فضل في كل منجز تقدمي في تاريخ اليمن الحديث. لم تكن صدفة، بل ضرورة واحتياجاً، فاليمن بلد حضاري عريق، أسس نموذجه الديمقراطي قبل آلاف السنين (نظام المَزاوِد)، وما كان ليقبل باستمرار الحكم الملكي المطلق، وظروف الحياة البائسة التي يقوم عليها ويمدها عمرا.
القرن العشرون كان فاتحة جديدة في عمر شعوب المستعمرات، بما في ذلك اليمن، وهو أول بلد في آسيا وأفريقيا حقق الاستقلال عن الاستعمار، عقب الحرب العالمية الأولى لا عقب الحرب العالمية الثانية كبقية البلدان؛ إلا أنه لم يستفد من الاستقلال في التطور، بسبب تخلف النظام الملكي وتصادمه مع روح القرن العشرين ومع الحياة الجديدة التي تقوم على نظم جديدة في الاقتصاد والسياسة والإدارة.
في البدء من عام 1905 ناضل الشعب اليمني في شمال الوطن من أجل الاستقلال الوطني عن الإمبراطورية العثمانية، ثم ناضل لتوحيد المناطق التي خرج منها العثماني، ولم يتوقف عند هذا المنجز العظيم.
بداية من الأربعينيات، وعقب توحُّد شمال الوطن، وهزيمة «اليمن الملكي» في حرب 1936 أمام السعودية المدعومة بريطانياً، وبالتالي خسارة أقاليم نجران وجيزان وعسير، وتوقيع اتفاقية الطائف (التي جمدت وضع الحدود)، بدأ اليمنيون نضالاً جديداً من أجل سيادة الشعب وتحسين شروط الحياة، فأسقطوا نظام الحكم الملكي أخيراً في 26 أيلول/ سبتمبر 1962 بعد عدة محاولات تدخلت فيها أطراف دولية، وشاركت فيها عناصر من الأسرة الحاكمة، ومن النخبة الموالية للإمام والمشاركة في السلطة. وعقب تشكل المعارضة في الداخل والمهجر، وظهور التنظيمات السياسية والنقابية في شمال الوطن، وتبلور قوى اجتماعية جديدة ناضجة تحمل رؤية معاصرة للحياة ومستعدة للنضال وليست جزءاً من النظام الملكي وثقافة الحكم القديمة، كان ثوار سبتمبر مختلفين عن القوى التي تزعمت أحداث 1948 و1955.
أهم ما أسست له ثورة 26 سبتمبر هو الدستور؛ فقد كان الشعب والبلد يُحكم وفقاً للمزاج والرأي والاجتهاد الفردي وما يقوله الإمام، باعتباره سلطة تشريعية وتنفيذية في آن، وفي ظل نظم إدارية ومالية غير عادلة موروثة عن العثمانيين.
جاء الدستور بقواعد ثابتة مجردة واضحة، تعين حدود السلطات وحدود الفرد، والعلاقات بين هذه الأطراف، وقاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني»، وإقرار حق الشعب في ممارسة السلطة والتمتع بالثروة الوطنية، قواعد دستورية أعادت لمختلف فئات المجتمع اليمني مكانتهم الإنسانية، فكلهم مواطنون لهم حقوق وواجبات على حد سواء. هذه أهمية الدستور في حياة الشعوب، مع عدم تجاهلنا أنه وفي ظل الرأسمالية فالحقوق الدستورية مكفولة للجميع؛ إلا أن من يملك المال هو من يتمتع بها فعلا.
كان من أهم ما فتحته ثورة 26 سبتمبر من أبواب التقدم هو ظهور التعليم والصناعة في البلد، وبالتالي تطور علاقات الإنتاج وتحديث المجتمع؛ فقبل ذلك كان غالبية الشعب يعيشون يومياً خلف الحيوانات في حرث الأرض -دون أن يكفيهم ذلك للشبع- ولا يختلفون عن الحيوانات من ناحية الكدح والجهل، وفي ظل نظام «الطوائف الاقتصادي» (نظام الطوائف الاقتصادي لا علاقة له بالطائفية الدينية بل هو نظام اقتصادي كان سائدا على الصعيد العالمي قبل الثورة الصناعية، واستمر في بلادنا حتى القرن العشرين بسبب الاحتلال العثماني المغرق في التخلف والرجعية الاقتصادية)، ونظام الطوائف الذي كان سائدا في العهد الملكي حلقة مفرغة لا يمكن تجاوزها، إلا ما ندر. في ذلك النظام ابن الفلاح فلاح، وابن الحرفي حرفي، وابن الشيخ شيخ، وابن القاضي قاضٍ، وابن مالك الأرض -أكان «هاشمي» أم «قبيلي»- مالك للأرض، وابن المهاجر مهاجر، و«ابن الجزار جزار»، و«ابن الخادم خادم»، و«ابن الدوشان دوشان»... إلخ، نظام اقتصادي اجتماعي، يعيد إنتاج الجهل والتخلف والتفاوت الطبقي الظالم. هذا النظام لم يتحرر منه الشعب إلا بعد ثورة 26 سبتمبر (طبعا ما زال هناك بقايا منه)، مع عدم تجاهل أن الدولة في ظل اقتصاد المحسوبيات والطفيلية الرأسمالية والفساد تعيد إنتاج الفقر والتخلف في المجتمع؛ ولكن ليس على أساس الفئات سالفة الذكر، بل على أساس طبقي رأسمالي جديد ظالم أيضاً.
كان لثورة 26 سبتمبر دور مهم في التهيئة لحرب التحرير الشعبية ضد الاستعمار البريطاني، فبتحريرها للمجتمع في شمال الوطن من الأغلال المفروضة على النشاط السياسي الثقافي، وبمشاركة أبناء جنوب الوطن من سكان السلطنات في الثورة مع إخوتهم في الشمال -لبوزة أنموذجا- نضج الظرف الثوري للرابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر المجيد، مع العلم أن الثورة ضد الاستعمار في جنوب الوطن كانت ستتم وكانت حركة القوميين العرب تعد لها من قبل ذلك، لكن ثورة 26 سبتمبر كان دورها حاسما في اندلاع وانتصار ثورة 14 أكتوبر.
هذه المنجزات الاستراتيجية التي يعيش عليها المجتمع اليمني الحديث، فيما تفاصيل التغيير لا مجال لذكرها، ومن يقرأ مذكرات الأطباء والسفراء والرحالة الأجانب الذين كانوا في «اليمن الملكية»، وكذلك من يطلع على مذكرات عشرات الشخصيات اليمنية التي عاشت في ظل الحكم الملكي، يدرك حجم المنجز. الشعر والقصة والصحف التي تعود لذلك الوقت تكشف حجم التغيير الحضاري، ولا حاجة إلى الكتب الدعائية وكتب المزايدات السياسية التي كتبت بلغة عصبوية.
هناك ملابسات كثيرة أحاطت بالثورة وتاريخها والتاريخ السابق لها شوشت على فهمها، أوجزها بحسب فهمي في النقاط التالية:
• باعتبار الثورة استمراراً تاريخياً فلا يجب نكران نضال الإمام يحيى ضد العثمانيين وتأسيس الدولة الوطنية المستقلة، كما لا ننسى دور السيد الإدريسي في هذا النضال إلا أنه انحرف بتأسيس إمارة انفصالية تم تسليمها للسعودية وهي جيزان ونجران وعسير.
• باعتبار الثورة حدثاً سياسياً عنيفاً فلا يجب نكران ولا تبييض الصفحات السوداء من القتل والتنكيل بالأبرياء من فئة «السادة» و«القضاة»، والإعدام الميداني بدون محاكمات لمن عملوا مع النظام، ثم التنكيل اللاحق -في أحداث آب/ أغسطس 1968- بالضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة، وبأبطال حرب السبعين والمقاومة الشعبية الذين دافعوا عن الثورة بعد خروج الجيش المصري واستمرار الدعم الملكي للملكيين. وكانت حرب السبعين هي الإبداع الثوري الأعظم في تجربة ثورة 26 سبتمبر، إلا أن أبطالها تم القضاء عليهم.
• باعتبارها في بداية الأمر حدثا عسكريا باستيلاء الجيش على السلطة فلا يجب نكران أنها بدأت كانقلاب عسكري، ثم التفت حوله الجماهير، وفي محتواه هو انقلاب عسكري تقدمي هدف لتغيير السلطة لا الاستيلاء عليها كما هي ومواصلة الحكم القديم.
• وباعتبارها حدثاً إقليمياً، فلا يجب تجاهل أن مصر، التي دعمتها ضمن الاستقطاب الإقليمي الدولي، مارست الوصاية عليها وسجنت الحكومة الجمهورية سنة كاملة، حتى قال مناضل جمهوري كبير: «كنا نناضل من أجل حق القول، والآن نطالب بحق البول». ويجب تذكر الموقف السعودي الأمريكي البريطاني الصهيوني الرافض للثورة والداعم للمعسكر الملكي.
• وباعتبارها حدثاً اجتماعياً وصراعاً بين طبقات اجتماعية فلا ينكر أنها انتقلت من التوجه التقدمي الذي عبرت عنه طبقات العمال والفلاحين وصغار الجنود وبعض التجار، إلى التوجه الرجعي المتخلف، بعد أن سيطر عليها المشائخ وملاك الأرض وكبار التجار الاحتكاريين وبعض ضباط الجيش، وعودة بعض الملكيين، وهذه القوى استمرت في الحكم بدعم سعودي حتى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، ومجددا بعد حرب صيف 1994.
وفي كل الأحوال فإن كل هذه الأمور، التي أحاطت بالثورة، وكل السياسات الخاطئة التي قامت بها، لا تلغي ثورية الثورة بمعناها الأوسع باعتبارها القفزة الأعظم في طريق التطور اليمني.

أترك تعليقاً

التعليقات