أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
منذ بداية العمليات البحرية اليمنية دعماً للشعب الفلسطيني، عاد الملف الاقتصادي مجدداً إلى صدارة الأولويات الأمريكية في الضغط على اليمن.
في بداية العمليات البحرية قدمت الولايات المتحدة عروضا اقتصادية لصنعاء مقابل إيقاف العمليات البحرية. وبرفض صنعاء تقديم التنازلات، جرى تحويل المسألة إلى نقيضها: استخدام الملف الاقتصادي في الضغط والابتزاز.
مؤخراً أصدرت حكومة عدن، الموالية لتحالف العدوان، عدداً من القرارات الاقتصادية، تمثلت في إلزام البنوك التجارية بنقل مراكزها إلى عدن، وإصدار قائمة بالبنوك الممنوع التعامل معها، وكذا المطالبة بنقل مقرات المنظمات وحساباتها، وإلغاء العمل بالعملة المطبوعة قبل العام 2016، ونقل مقرات شركات الاتصالات، وحجوزات الخطوط الجوية اليمنية، وغيرها من القرارات ذات الطابع الاقتصادي.
هذه القرارات تعود جذورها لجولة حرب اقتصادية كانت أقل سخونة جرت في آذار/ مارس الماضي؛ حين دشنت الحكومة العميلة ما يسمى "الشبكة الموحدة" بإشراف وكالة التنمية الأمريكية، وهي شبكة موحدة خاصة بالتحويلات المالية في المحافظات المحتلة، منها تجني المال وتراقب الحركة المالية في آن.

جولة الحرب الاقتصادية الجديدة
في آذار/ مارس، أشرفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على وضع أنظمة جديدة للبنك المركزي في عدن، منها "الشبكة الوطنية الموحدة"، وهي نظام تحويلات مالية، وقام البنك المركزي في عدن بمطالبة البنوك وشركات الصرافة والتحويلات بالانضمام حصراً إلى ذلك النظام، وهو ما رفضه معظم البنوك التجارية وشركات الصرافة والتحويلات.
الشبكة الموحدة تمثل بالنسبة للحكومة اليمنية مصدراً لجني مليارات الريالات كرسوم استخدام لنظام الشبكة والعمولات على التحويلات المالية، وبالنسبة للولايات المتحدة فإن الشبكة الموحدة التي صممتها الوكالة الأمريكية الحكومية "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" تمكنها من الاطلاع على البيانات المالية والمصرفية والتحويلات المالية، لاستخدامها في مراقبة حركة الأموال والشركات في اليمن، بهدف فرض العقوبات باسم تنفيذ قرار تصنيف أنصار الله "جماعة إرهابية".
في 19 آذار/ مارس 2024، أصدر بنك عدن المركزي قرار إيقاف التعامل مع أكبر خمسة بنوك في مناطق سيطرته، فضلاً عن 13 شركة مصرفية في مأرب. المصارف التي تضمنها القرار تشمل: بنك التضامن الإسلامي، بنك اليمن والكويت، بنك الأمل للتمويل الأصغر، مصرف اليمن والبحرين الشامل، وبنك "الكريمي" للتمويل الأصغر الإسلامي. لكن تم التراجع عن القرار لاحقاً.
جاء التراجع بعد أن أصدرت جمعية البنوك اليمنية بياناً اعتبرت فيه أن هذا القرار يعد "تصعيداً خطيراً لا مبرر له"، ويهدف إلى جر القطاع المصرفي إلى أتون الصراع السياسي المحتدم في البلاد، ويُسبب المزيد من التعقيدات والعراقيل أمام وحدات النشاط الاقتصادي الساعية إلى الاستفادة من الخدمات المصرفية في تسيير نشاطها.
وأشارت إلى أن إيقاف التعامل مع البنوك الخمسة الكبرى سيجعل الوصول إلى الخدمة المصرفية أمراً أكثر تعقيداً وأعلى تكلفة، وهو ما سيؤثر سلباً على حركة النشاط الاقتصادي في البلاد، ويُسبب المزيد من المعاناة للمواطنين.
عقب قرار الحكومة العميلة بنقل البنوك للمرة الأولى وصفت جمعية البنوك اليمنية القرار بالتعسفي، مؤكدةً عدم وجود أي مبررات قانونية أو متغيرات اقتصادية تدفع إلى اتخاذ مثل هذا القرار.
وقال رئيس الجمعية، محمود ناجي، في تصريح صحفي، إن عوامل تتعلق بالتنازع بين البنكين المركزيين (في عدن وصنعاء) على النطاق الجغرافي لسلطاتهما الإشراقية والضغوط السياسية، دفعت الحكومة (العميلة) لإصدار ذلك القرار، الذي أكد أنه لا يراعي مصلحة القطاع المالي والمصرفي، ولا المصلحة العامة للبلاد.
وبحسب ناجي فإنه في حالة السوق اليمنية تقع مراكز غالبية الشركات التجارية والصناعية -وهي المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي، والعملاء الرئيسيون للبنوك- في العاصمة صنعاء والمحافظات التي تتبعها، وارتباط البنوك بعملائها الرئيسيين من الشركات والجمهور، وفق رئيس جمعية البنوك اليمنية، يحتم عليها اختيار صنعاء كموقع أمثل لمراكزها، نظراً لقربه من المراكز الرئيسية للبنوك.
لاحقاً في 30 آذار/ مارس 2024 صك البنك المركزي في صنعاء عملة نقدية فئة 100 ريال، وهو ما أثار جنون تحالف العدوان، ليصدر بنك عدن قراراً بنقل مراكز البنوك إلى عدن وإلا تعامل مع هذه البنوك الخاصة وفقاً لقانوني مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال.
عند سك عملة معدنية، توعدت حكومة المرتزقة بإجراءات عقابية ومؤثرة ضد صنعاء لإيقاف حربها الاقتصادية وعمليات تزوير العملة. وقال محافظ البنك المركزي، عدن أحمد غالب، في مقابلة تلفزيونية، إن الخطوات جاهزة وتم تأجيلها بطلب من المجتمع الدولي، الذي اتهمه بتدليل صنعاء أكثر من اللازم على أمل التوصل لاتفاق سلام.
في هذا المسار في 21 نيسان/ أبريل وقعت الحكومة العميلة مع وكالة التنمية الأمريكية اتفاقية اقتصادية تقوم بموجبها أمريكا بدعم "حكومة عدن" لمدة 5 سنوات. هذه الاتفاقية تأتي لتعويض الحكومة العميلة عن نقص المساعدات المقدمة من برنامج الغذاء العالمي، المحافظات المحتلة التي تعاني من أزمة اقتصادية، وجاء فيها: "إن الولايات المتحدة وحكومة اليمن لديهما شراكة مثمرة تدوم حتى في مواجهة التحديات غير المسبوقة التي نواجهها اليوم".
السفارة الأمريكية بدورها أكدت هذه السياسة الداعمة للحكومة العميلة، في بيان نشرته على موقعها الرسمي زعمت فيه أن هذه الشراكة تساعد اليمنيين في الحصول على الرعاية الصحية الأساسية، بما في ذلك مبادرات تعزيز الصحة الإنجابية وصحة الأم والطفل وتحسين التغذية للأطفال والنساء الحوامل وتعزيز نظام الرعاية الصحية في البلاد وزيادة الوصول إلى المياه الصالحة للشرب والمرافق الصحية وتحسين تقديم خدمات المياه والصرف الصحي.
وأوردت في البيان أن البرامج الإضافية تعمل على تحسين مهارات القراءة والحساب والكتابة في الصفوف المبكرة ودعم مراكز التعلم غير الرسمية والمناهج التصحيحية للأطفال خارج المدرسة ومساعدة الاحتياجات التعليمية للفتيات والأطفال ذوي الإعاقة وتعزيز التماسك المجتمعي والمصالحة وتعزيز قدرات بناء السلام للمؤسسات الحكومية المحلية والوطنية. هذه البنود تقوم بها اليونيسف، فمن غير المستبعد أن تقلص اليونيسف أنشطتها هذه.
وأشار بيان السفارة الأمريكية إلى أن برنامج النمو الاقتصادي التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية يعمل على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي في اليمن من خلال تحسين السياسة النقدية والمالية وتسهيل التجارة الدولية.
وتحدد هذه الاتفاقية كيف ستعمل المساعدة الإنمائية التي تقدمها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على تسريع النمو الاقتصادي في اليمن وتحسين الوصول إلى خدمات المياه والصحة والتعليم الأساسية وتعزيز الحكم والمصالحة، يبدو أنها مصالحة بين فصائل الطرف الآخر، لا مصالحة وطنية، فأمريكا لن تدعم أمراً كهذا!
وبحسب السفارة الأمريكية قدمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أكثر من 5.8 مليار دولار من المساعدات الإنسانية والتنموية لدعم الشعب اليمني (الحكومة العميلة) منذ العام 2015.

من البحر إلى البنك!
العجز عن حسم الحرب البحرية من قبل الأمريكي البريطاني يعني بالضرورة العودة إلى الحرب الاقتصادية والعقوبات من أجل الضغط على صنعاء، وسياسة الحرب الاقتصادية جزء رئيس من الجهود الأمريكية ضد خصومها، حتى مع الجهود العسكرية كما هو عليه الحال في أوكرانيا فهناك عقوبات اقتصادية على روسيا وجهود عسكرية داعمة للنظام النازي الأوكراني في آن.
ستواصل حكومة عدن بدفع من الولايات المتحدة نحو محاولة نقل البنوك الخاصة إلى عدن. مازالت البنوك الخاصة تشعر أن الخسارة ستكون أكبر من المصلحة، لكنها إذ ضمنت تسديد ديونها المستحقة للدولة من بنك عدن ومعها الفوائد المحتسبة وتم دعمها بالسيولة النقدية وتيسير العاملات الخارجية وطرح ودائع لديها من مبالغ المساعدات والمنح الأجنبية والمنظمات الدولية وإشراكها في مرحلة إعادة الإعمار، إذا حصلت على إغراءات كهذه فمن المحتمل أن تنقل مراكزها الرئيسة إلى عدن، وحكومة عدن العميلة عاجزة عن هذا الأمر. أما في الوضع الراهن فمازالت مصلحتها في صنعاء، بحكم ميزتين: الكثافة السكانية والوضع الأمني. والكثافة السكانية ونشاط الحركة الاقتصادية هي الميزة الأبرز، والتي لا يمكن تأمينها في عدن، فيما الوضع الأمني يمكن السيطرة عليه.

تأثيرات القرارات الأخيرة
واقعيا البنك المركزي اليمني بصنعاء لم يعد مرتبطاً بالسويفت العالمي، ولا تمر عبره الحوالات الخارجية. تأثير القرارات الأخيرة سيستهدف بصورة رئيسة البنوك التجارية الأكبر في السوق اليمنية، إذ تهدف القرارات إلى حرمانها من خدمتين: الأولى: الدخول في مزادات بيع الدولار التي يقوم بها بنك عدن ولم يعد بنك صنعاء قادراً على القيام بها، ما يعني تجفيف ما لديها من العملة الصعبة بمرور الوقت وتقلص علاقتها التجارية.
والمسألة الثانية: حرمان هذه البنوك من خدمة التحويلات الخارجية التي يوفرها بنك عدن المركزي، ما يعيق تعاملاتهم الاقتصادية من البنوك والشركات في السوق العالمية، وكذا المنظمات الدولية، وغيرها من المتعاملين مع هذه البنوك، وهو ما سيطيح بها اقتصادياً بمرور الوقت، ما سيؤثر في القطاع النقدي في صنعاء والحياة الاقتصادية عموماً.
بناءً على ذلك ومع عدم قدرة بنك صنعاء على تقديم الدولار للتجار، وعجز هذه البنوك عن توفير الدولارات، فإن التجارة الخارجية ستتجه نحو ميناء عدن على حساب ميناء الحديدة، وهو ما يحرم صنعاء من إيرادات الميناء.

الحل الواقعي للمشكلة الاقتصادية في اليمن
الحرب بين البنكين لا انتصار فيها. والحل المطلوب هو معالجة المشكلة الاقتصادية ذاتها، وليس المشكلة النقدية التي هي انعكاس عن أزمة الاقتصاد الملموس.
إذا حددنا المشكلة المالية اليوم في اليمن، في صنعاء وعدن معا، سنجد أنها مشكلة واحدة: قطاع النفط كان يغطي 80% من الموازنة العامة للدولة، وكان يسهم بـ90% من توفير العملة الصعبة لليمن. اليوم لا صنعاء ولا عدن تصدر نفطاً وتأتي بعملة صعبة من جهة، وتمول الموازنة العامة من جهة أخرى.
الحل في التفاوض على إعادة تصدير النفط وتخصيصه للرواتب والخدمات وفي مقدمتها الكهرباء، ودعم السلع الأساسية، كالقمح والنفط والغاز، وضع إيرادات النفط في بنكي صنعاء وعدن، لا في البنك الأهلي السعودي، بل استعادة ما لدى البنك الأهلي السعودي وتوجيهه للرواتب ودعم معيشة الشعب.
فنيا هناك إمكانية لوجود إدارة مشتركة. المشكلة ليست أنهم لا يعرفون كيفية إدارة الوضع النقدي بصورة مشتركة، بل عدم وجود إرادة سياسية.
وتظل هذه الحلول الاقتصادية مؤقتة، فالحل لليمن ليس التقاسم، بل الحوار والمصالحة والوفاق والشراكة الوطنية، وتشكيل سلطة وحكومة وحدة وطنية مستقلة تشرف على إعادة الإعمار والتعويضات التي يجب انتزاعها من دول التحالف. هذا هو الحل الحقيقي لكل المشاكل بما فيها الاقتصادية.

أترك تعليقاً

التعليقات