الاتفاقية الصينية الإيرانية .. آفاق استراتيجية
- أنس القاضي الأحد , 16 أغـسـطـس , 2020 الساعة 7:21:58 PM
- 0 تعليقات
أنس القاضي / لا ميديا -
الطبيعة الأساسية لهذه الاتفاقية تحددها الرغبة النابعة من مصالح الطرفين، ففيما الصين الصاعدة اقتصادياً في حاجة إلى الطاقة، فإيران المحاصرة في حاجة إلى تطوير القطاعات الإنتاجية المختلفة وتجاوز العقوبات الاقتصادية الأمريكية. ستثبت هذه الاتفاقية النظام السياسي الإيراني بما ستوفره من استقرار اجتماعي اقتصادي ونماء، وستغير من شكل إيران كلياً، وسترفع من وتائر التطور بشكل غير مسبوق. وهي مهمة بالنسبة لكل من الصين وإيران وروسيا أيضاً، لأنها أول نموذج لنجاح مبادرة الطريق والحزام الصينية، وأول سعي جدي نحو فرض نظام الأقاليم الاقتصادية والتعددية القطبية.
تاريخ العلاقات الصينية الإيرانية
تتمتع إيران والصين بعلاقات صداقة قديمة تعود إلى ما يقارب 200 قبل الميلاد، ظلت العلاقة المعززة بالتجارة والتداخل الثقافي الحضاري مستمرة في كل العهود ومع اختلاف الحكام والأنظمة المتعاقبة بين الإمبراطوريات القديمة والدول الوطنية الحديثة، ومن بعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية في 1979م حافظت كل من بكين وطهران على هذه العلاقة وصولاً إلى العهد الحالي، الذي يشهد تطوراً في العلاقة منسجماً مع تحولات النظام العالمي، حيث مصلحة كل من الصين وإيران في التطور المستقل في عالم متعدد القطبية لا تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
العلاقات الصينية الإيرانية الراهنة
العلاقات الإيرانية الصينية الراهنة مازالت في طور علاقات الصداقة والتعاون والتضامن والتوافق في القضايا السياسية، والمصلحة الاقتصادية هي العامل الحاسم في هذه العلاقة، ونتيجة لأن السوق الدولي ليس حراً ولا تجري التبادلات الاقتصادية بشكل طبيعي، فإن العامل السياسي أصبح مرتبطا بالتبادل التجاري بين البلدين، وهناك اليوم شعور مشترك بين كل من الصين وإيران بالتهديد الأمريكي، وعلى عكس بداية العلاقات بين الصين وإيران عقب الثورة الإيرانية حينما كانت الصين في علاقات جيدة مع أمريكا، فاليوم لم يعد الكابح الأمريكي موجوداً أمام العلاقة بين البلدين، بل إن شعور الطرفين بالتهديد الأمريكي حافز لتطوير العلاقة.
رغم اعتماد الصين على الطاقة الإيرانية إلا أنها ليست مستقرة فقد شهدت تقلبات خلال الأعوام الماضية صعودا وهبوطاً، ومن المحتمل أن هذه الاتفاقية إذا نفذت ستقوم بترسيخ هذه العلاقة وتطويرها بشكل مستدام.
في ذروة تصاعد خطورة فيروس كورونا استمرت الحركة بين كل من الصين وإيران، وتطورت العلاقات بين البلدين من خلال تبادل المساعدات ومن خلال الموقف السياسي الذي يحمل الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية خلف انتشار الوباء، وكان رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد باقري، أشاد بالدعم الصيني في مواجهة كورونا، وهذا يشير إلى أن كلاً من الصين وإيران قد اعتبرتا كورونا مسألة عدائية حربية لا مجرد مسألة بيولوجية.
تتلاقى التوجهات الإيرانية الصينية في المنطقة الأوراسية التي تتوسط البلدين، وهو اهتمام استوعبته مبادرة الطريق والحزام وإيران حجر الزاوية فيه شرقاً. وتتجه علاقة الصداقة والتعاون لتترسخ كعلاقة استراتيجية، ومثلت زيارة الزعيم الصيني شي جين بينغ، إلى طهران عام 2016م بداية لتطوير العلاقة على نحو استراتيجي، بل إن هذه الزيارة هي بذرة الاتفاقية المعلن عنها راهناً.
وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف كان قد أكد مؤخراً أن إيران تقيم أكثر العلاقات الدولية استراتيجية مع الصين، مُشيراً إلى أن الاتفاقيات التي جرت في العام 2016م تفتح عهداً جديداً من العلاقات الاستراتيجية بين البلدين ومن الرؤية الاستراتيجية الجديدة لإيران تجاه الصين. وبدوره أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي على أهمية العلاقات بين البلدين، مضيفاً أن زيارة الرئيس الصيني إلى إيران عززت العلاقات بين البلدين على نحو استراتيجي.
على عكس الكثير من الدول فإن الصين هي الأقدر على تحمل العقوبات الأمريكية جراء استمرار العلاقات الاقتصادية مع إيران، واقتدارها الاقتصادي يجعل من العقوبات الأمريكية قليلة مقارنة بالفوائد المشتركة لكل من الصين وإيران لاستمرار العلاقة كما هي محددة في التصريحات الرسمية للبلدين.
طبيعة الاتفاقية
وجود اتفاقية استراتيجية تمتد إلى 25 عاماً، هذه الحقيقة لم يعد من شك فيها، إلَّا أن كثيراً من المعلومات والمسودات المنشورة غير دقيقة، فحتى اليوم لم تصدر أية مسودة رسمية للاتفاقية، لكن عناوينها الرئيسية يمكن معرفتها من التصريحات الرسمية لقيادات البلدين ومن معرفة سير تطور العلاقة.
الإعلان عن الاتفاقية والإشارة إليها من قبل البلدين تأتي مع انتهاء المشاورات حولها التي استمرت لمدة 4 أعوام، كما يتزامن ذلك مع وجود توترات بين كل من الصين وإيران من جهة وأمريكا من جهة أخرى، ومع قرب الانتخابات الأمريكية التي ستحدد مصير الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب الذي صعد اقتصاديا وسياسياً ضد كل من الصين وإيران.
يُستنتج من مختلف التصريحات الرسمية أن الاتفاقية الراهنة ما هي إلا تطوير وبناء على اتفاقيات العام 2016م وإعلان عنها، فالاتفاقيات الجزئية التي وقعت آنذاك جمعت وقدمت كاتفاقية واحدة كُلية وأُعلنت كاتفاقية استراتيجية. بدوره وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف أقر في جلسة أمام البرلمان الإيراني أن الحكومة تناقش اتفاقاً استراتيجيا مع الصين يستمر لمدة 25 عاماً. كما أكد ظريف أن اتفاقية الشراكة التي اقترحها الزعيم الصيني شي جين بينغ خلال زيارته لإيران عام 2016، وافقت عليها حكومة الرئيس حسن روحاني، في يونيو الماضي، ما يُفيد بأن الاتفاقية المعلن عنها مؤخراً كاتفاقية استراتيجية إنما هي ذاتها اتفاقية العام 2016م.
بدوره الرئيس روحاني متحدثاً عن الاتفاقية الراهنة قال بأنها شراكة استراتيجية على المستوى الإقليمي على أساس قاعدة الكل رابح. وكان روحاني وجه رئاسة الوزراء الإيرانية بإجراء المفاوضات النهائية للاتفاقية.
الطبيعة الأساسية لهذه الاتفاقية تحددها الرغبة النابعة من مصالح الطرفين، ففيما الصين الصاعدة اقتصادياً في حاجة إلى الطاقة، فإن إيران المحاصرة والمعتمدة على نفسها في حاجة إلى تطوير القطاعات الإنتاجية المختلفة وتجاوز العقوبات الاقتصادية الأمريكية، هذه الطبيعة الاقتصادية الجوهرية للاتفاقية أكدها رئيس الغرفة التجارية الإيرانية رضا حريري الذي وصفها بتبادل متكافئ "فالصين من جانبها تبحث عن الطاقة التي يمكن أن تؤمنها إيران، وإيران من جانبها ستستفيد من التقنية الصينية".
إيران تفلت من المصير الكوري والكوبي
هذه الاتفاقية تعيدنا إلى الصراع القديم بين المعسكرين الشرقي والغربي، والذي انتهى بفوز المعسكر الغربي والتقهقر الاشتراكي، بعد التراجع الاشتراكي صمدت كل من كوريا الشمالية وكوبا وإيران، واضطرت للانغلاق على نفسها والتطور الذاتي المستقل، وفقاً لظروف الحصار.
احتكار الغرب للتقنية الحديثة أعاق نضوج هذه التجارب، فحافظ الغرب على تطوره فيما ظلت الدول التي تتخذ نموذجاً اقتصادياً وطنياً بعيداً عن الهيمنة، متخلفة مقارنة بالدول الغربية، هذه الاتفاقية التي بادرت إليها الصين سوف تحطم القيد الذي فرضه القطب الإمبريالي الغربي على النماذج الاقتصادية الوطنية.
ففيما لاتزال كل من كوريا الشمالية وكوبا تعاني من التخلف التقني مقارنة بتسارع تطور التقنية الغربية، فهذه الاتفاقية تنقذ إيران من هذا المصير، حيث ستضع الصين معارفها العلمية المعقدة الجديدة وتقنياتها المتطورة أمام إيران التي سوف تقوم بتطوير بنيتها التحتية ومختلف قطاعات الإنتاج كالبنية التحتية: طرق السيارات، سكك الحديد، وتكنولوجيا الاتصالات، والملاحة، وتطوير الأسطول التجاري والموانئ البحرية والبرية؛ فتزداد صلابة ونضوجاً في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
إيران الجديدة
الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ 41 عاماً وهي تبذل جهوداً مضنية للمحافظة على استقلالها وتلبية سوقها المحلي وتقدمها الاجتماعي، ومواجهة التدخلات الاستعمارية والصهيونية والعقوبات الاقتصادية، كل هذه الظروف أنهكتها وأعاقت تطورها الذاتي، ورغم أنها أكثر تقدماً من دول الخليج المجاورة في ظل هذه الظروف، فإن هذه الاتفاقية ستغير من شكلها كلياً وسترفع من وتائر التطور بشكل غير مسبوق، وستتيح لها تطوير القطاع العسكري بشكل أكبر.
هذه الاتفاقية ستنقذ إيران من مأزق التخلف التقني، وستثبت النظام السياسي بما ستوفره من استقرار اجتماعي اقتصادي ونماء، كما ستمثل مخرجاً لإيران من العقوبات الاقتصادية الأمريكية الغربية، وسوف تظهر طهران في المنطقة كنموذج جذاب يثبت إمكانية التطور والتقدم بالمحافظة على الاستقلاليين الاقتصادي والسياسي والتمسك بالموقف الوطني والأممي من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.
آفاق العلاقات الصينية الإيرانية
وضع الاتفاقية لمدة 25 عاماً يُشير إلى رغبة في شراكة اقتصادية متينة مستقبلية تنسجم مع تاريخ التعاون والصداقة بين البلدين، يتجاوز الحكومتين الحاليتين في كل من بكين وطهران، ويشير إلى ضخامة المبلغ المُستثمر وإلى عملية تنمية وتطوير تراكمية تمتد ربع قرن ستتوثق فيها العلاقات عاماً بعد عام، في حال تنفيذ هذه الاتفاقية سترتفع العلاقة بين البلدين من التعاون والصداقة إلى مستوى التحالف الاستراتيجي الذي يضاعف من المكانة الدولية والإقليمية للبلدين.
الاتفاق إذا نفذ سيوسع من نفوذ الصين في "الشرق الأوسط"، والصين عبرت عن رغبتها هذه بفتح مكتب عسكري لها في سوريا ووقوفها منع النظام السوري، ولطالما كانت هذه المنطقة من بعد انهيار المعسكر الاشتراكي حكراً على الولايات المتحدة الأمريكية. مازالت إيران حتى اليوم عضوا مراقبا في منظمة شنغهاي الاقتصادية العسكرية، وربما تكون إحدى ثمار هذه الاتفاقية أن تصبح عضواً رسمياً.
بداية الانتقال إلى نظام الأقاليم الاقتصادية
إذا نجحت التجربة ستمثل نموذجاً جذاباً لكثير من الدول التي تعاني من سياسات صناديق الإقراض الإمبريالية، فالصين صاحبة الاقتدار الاقتصادي المالي الكبير تستطيع أن تقدم مبادرات اقتصادية كهذه لأية دولة ترغب في نقل توجهها من الغرب نحو الصين، ومبادرة الطريق والحزام تشير إلى هذه المسألة.
الاتفاقية التي أُبرمت العام 2016م وجرى الإعلان عنها هذا العام، وضعت بشكل استراتيجي يستجيب للتغيرات الجارية في النظام الدولي، هذه الاتفاقية مهمة بالنسبة لكل من الصين وإيران وروسيا أيضاً، لأنها أول نموذج لنجاح مبادرة الطريق والحزام الصينية، وأول سعي جدي نحو فرض نظام الأقاليم الاقتصادية والتعددية القطبية، فالتغيرات الحاصلة في أحشاء النظام العالمي بحاجة إلى خطوات شجاعة تثبت الجديد على الصعيد العالمي، والصين وإيران هما أكثر دول العالم استعداداً لتنفيذ مثل هذا الأمر، ويدفعهما بحزم أكبر إلى تنفيذ هذه الخطوات الشجاعة، التصعيد الأمريكي بزعامة دونالد ترامب الموجه ضد كل من إيران والصين، ففي ظروف كهذه من الطبيعي أن يكون أول خروج على نظام القطبية الواحدة هو خروج الصين وإيران، والذي تؤيده روسيا، إلا أنها عجزت عن تنفيذ خطوة كهذه بسبب أزماتها الاقتصادية، فيما قاتلت دون هوادة على سوريا وجزيرة القرم ومضيق البوسفور، وكانت المناورة البحرية الثلاثية في الخليج الفارسي بمشاركة كل من روسيا والصين وإيران، تأكيداً على وجود روسيا كداعم لهذه الاتفاقية، خصوصاً أنها تجري برياً على حدودها وحدود الدول المجاورة لها في أو روسيا.
المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي