أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
شهدت الساحة اليمنية، خلال النصف الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، موجة مكثّفة من التحركات العسكرية والبحرية والدبلوماسية التي رافقت جهوداً أممية مستمرة للبحث عن مدخل إلى عملية سياسية جديدة، وقد اتسمت هذه الفترة بطابع مزدوج يجمع بين انفتاح دبلوماسي مُعلن من قِبل الأمم المتحدة ومساعيها لاستكشاف موقف الأطراف بشأن العودة للمسار السياسي، وبين حراك عسكري وأمني متصاعد في عدن يعكس استعدادات ميدانية متنامية لدى فصائل المرتزقة المدعومة من التحالف (السعودي -الإماراتي) ومن القوى الغربية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة.
ومن خلال الجمع بين الرصد الميداني وتحليل السياق الإقليمي والدولي، تبدو هذه التحركات جزءاً من إعادة تشكيل بيئة الصراع في اليمن، سواء عبر رفع جاهزية الوحدات العسكرية الداخلية، أو عبر بناء منظومة أمن بحري إقليمية جديدة تتعامل مع البحر الأحمر باعتباره مسرحاً استراتيجياً مفتوحاً، تهدف هذه الورقة إلى تحليل هذه الاتجاهات وفهم طبيعتها ودلالاتها ومآلاتها المحتملة، في لحظة تتداخل فيها الحسابات المحلية مع ترتيبات دولية أوسع.

التحركات العسكرية داخل اليمن
شهدت مناطق سيطرة حكومة عدن تحركات عسكرية كثيفة تمثلت في زيارات عملياتية متتابعة لقادة الأركان ومحاور القتال إلى جبهات تعز والجوف والضالع وشبوة، بالإضافة إلى نشاط ملحوظ في المناطق العسكرية الأولى والثالثة والسابعة.
جاءت هذه التحركات في سياق تفعيل شبكات القيادة والسيطرة داخل القوات الموالية للتحالف، حيث أُجريت اجتماعات لقيادات ميدانية وضباط عمليات تناولت آليات تحديث الخطط العسكرية ورفع مستوى الجاهزية.
وعلى مستوى التدريب، نُفِّذت برامج قتالية شملت تخريج دفعات جديدة، وتنفيذ تدريبات على الهجوم والدفاع والسيطرة على المواقع الاستراتيجية وتأمين المدن، وهو ما يعكس توجهاً لإعادة تأهيل القوات وتطوير بنيتها القتالية بعد فترة ركود طويلة.
ويترافق هذا مع نشاط ملحوظ في مراكز البحوث العسكرية في عدن التي عقدت فعاليات تتناول تهديدات إقليمية ومفاهيم «مكافحة الإرهاب»، ما يمنح هذا الحراك بُعداً أيديولوجياً يهدف إلى إعادة دمج الصراع اليمني في سردية إقليمية تتقاطع مع مصالح القوى الغربية، وتوحي مجمل هذه التحركات بأن الفصائل الموالية للعدوان تعمل على بناء جاهزية لا ترتبط فقط بتثبيت مواقع دفاعية، بل بتهيئة مسرح عمليات قابل للاستخدام سواء كورقة ضغط سياسي أو كخيار عسكري محدود ومدروس، بما ينسجم مع التحركات البحرية والدبلوماسية الموازية.

التحركات البحرية والدولية
تُظهر التحركات الدولية خلال هذه الفترة تركيزاً استثنائياً على البحر الأحمر وباب المندب، حيث برزت بريطانيا باعتبارها الطرف الأكثر نشاطاً عبر سلسلة من الزيارات التي قامت بها سفيرتها ووفودها الأمنية والعسكرية إلى عدن. وشملت هذه الزيارات تفقد جاهزية خفر السواحل، وبحث مجالات يسمونها بـ«تعزيز الأمن البحري» وتطوير قدرات الموانئ وتبادل المعلومات الاستخباراتية البحرية.
وتعكس هذه الخطوات توجهاً بريطانياً لإعادة ترسيخ نفوذها التقليدي في البحر الأحمر، من خلال بناء شبكة أمن بحري ترتكز على قوات محلية موالية لها وتعمل ضمن منظومة قيادة غربية.
إلى جانب ذلك، اتسع نطاق التحركات (الأمريكية -البحرينية -البريطانية) عبر اجتماعات مجموعة العمل الدفاعية في البحرين (C-SIPA) ومناورات «الموج الأحمر 8»، وهي فعاليات تُظهر رغبة هذه الأطراف في التعامل مع البحر الأحمر كمنطقة ذات حساسية استراتيجية تتطلب ترتيبات أمنية مستقرة طويلة الأمد.
وفي موازاة هذا الحراك، صعّدت وسائل إعلام غربية من خطابها حول «تهديد الحوثيين للملاحة الدولية»، وربطت بين نشاط القرصنة الصومالية وبين قدرات صنعاء البحرية، في إطار عملية صياغة بيئة سياسية تُسهّل حضوراً عسكرياً غربياً أوسع.
من منظور تحليل استراتيجي، تعكس هذه التحركات سعي القوى الغربية إلى إعادة هندسة الأمن البحري في البحر الأحمر عبر دمج قوات محلية جنوب اليمن بالعقيدة الأمنية الغربية، وتثبيت رواية تجعل اليمن محوراً لتهديدات بحرية عابرة للحدود، بما يشكل مبرراً دائماً لحضور عسكري دولي في هذه المنطقة الحيوية.

التحركات الدبلوماسية ذات الطابع العسكري
ترافقت التحركات الميدانية والبحرية مع نشاط دبلوماسي مكثف شمل لقاءات متعددة بين قيادات حكومة عدن العميلة ومسؤولين أمريكيين وبريطانيين وبحرينيين.
ففي هذه الفترة، التقت السفيرة البريطانية برئيس «مجلس الخيانة» في عدن وعدد من المسؤولين الأمنيين، كما عقد العرادة لقاءات مع القائم بالأعمال الأمريكي تناولت قضايا تتعلق «بالأمن والاستقرار»، فيما أجرى رئيس الأركان بن عزيز مباحثات متقدمة في البحرين ذات مضمون عسكري عدواني.
وبالنظر إلى الخطاب الصادر عن مسؤولي حكومة عدن العميلة، يتضح أنهم كانوا حريصين على تحميل صنعاء مسؤولية «تعطيل السلام» والمطالبة بتدخل دولي للضغط عليها، في سياق يتقاطع مع رغبة القوى الغربية في خلق مبررات سياسية للحضور العسكري البحري وتعزيز التعاون الأمني مع أدوات محلية. وتكشف هذه اللقاءات عن محاولة لإعادة إحياء تحالف (سياسي -أمني) يمنح الحضور الغربي في البحر الأحمر «واجهة محلية» تخفف من حساسية هذا الوجود وتجعله جزءاً من ترتيبات سياسية مفترضة.
الطابع العسكري لهذه اللقاءات، وربطها الواضح بملف الملاحة البحرية وإعادة تفعيل الجبهات، يشير إلى أن القوى الدولية تستخدم مسار السلام كأداة للضغط وليس كمدخل لتسوية، بينما تعمل حكومة عدن على استثمار هذا المسار لتوفير غطاء لتقدّمها العسكري والدبلوماسي.

تشكيل رواية صراع عابرة للحدود
إلى جانب التحركات الميدانية والدبلوماسية، شهدت الفترة نشاطاً ملحوظاً في مجال الحرب المعلوماتية، حيث برزت محاولة منهجية من وسائل إعلام غربية ومراكز بحثية لإعادة صياغة الصراع اليمني بوصفه جزءاً من تهديدات «الأمن البحري الدولي». وتركز هذا الخطاب على الربط بين عمليات القرصنة في القرن الأفريقي، وتهريب السلاح، واستهداف الملاحة، وبين صنعاء، بما يحول اليمن من حالة نزاع (محلي -إقليمي) إلى «نقطة ارتكاز» في معادلة أمنية دولية.
وفي السياق نفسه، ظهرت مبادرات إعلامية لتدريب المرتزقة مثل «إعلاميو السلام» التابعة لما يسمى «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب»، وهي مبادرات تسعى إلى إعادة تشكيل الرأي العام عبر سرديات تبرّر الحضور الغربي وتؤطر دور قوى العدوان ضمن خطاب مكافحة الإرهاب وحماية الملاحة.
يمكن القول إن هذه الأنشطة تعد جزءاً من عملية متكاملة تهدف إلى خلق بيئة (سياسية -إعلامية) مواتية لأي تحرك عسكري أو اقتصادي يستهدف اليمن، خصوصاً في المجال البحري.

الاتجاهات العامة
تشير مجمل الوقائع خلال الفترة المدروسة إلى أربعة اتجاهات رئيسية تتقاطع مع بعضها وتكشف ملامح المرحلة المقبلة:
الاتجاه الأول: احتمالية انتقال مركز الصراع من الجبهات البرية التقليدية إلى ساحة البحر الأحمر، بما يجعل الأمن البحري محوراً أساسياً في الاستراتيجية الغربية تجاه اليمن.
الاتجاه الثاني: يتمثل في بناء بنية عسكرية للمرتزقة قابلة للدمج في منظومة الأمن البحري التي تعمل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية على تثبيتها، ما يعني أن الجنوب والغرب والشرق المحتل يُعاد تشكيله ليكون قاعدة عمليات مستقبلية تخدم المصالح الدولية.
الاتجاه الثالث: تدويل الصراع، سواء عبر الخطاب الإعلامي أو عبر التحركات البحرية والدبلوماسية، بما يعيد تعريف اليمن ضمن سياق أوسع يتصل بتدفق التجارة والطاقة العالمية.
الاتجاه الرابع: يتعلق باستخدام «مسار السلام» كأداة ضغط، حيث يجري استثماره لإضعاف موقف صنعاء وليس للبحث عن تسوية حقيقية، وهو ما يظهر في خطاب حكومة عدن وطريقة تعاطي القوى الدولية معها.

تقدير الموقف الاستراتيجي
تكشف هذه التحركات عن استراتيجية متعددة المستويات تتبناها القوى الغربية بالتنسيق مع التحالف (السعودي -الإماراتي). جوهر هذه الاستراتيجية يقوم على إعادة هيكلة الأمن البحري في البحر الأحمر على نحو يضمن إعادة الهيمنة الغربية على خطوط الطاقة والتجارة، وفي الوقت نفسه يدفع باتجاه بناء جيش بحري من المرتزقة قادر على تولي هذه المهام الأمنية مباشرة بما يخفف العبء عن الحضور العسكري الغربي المباشر.
فيما يُستكمَل هذا المسار بحملة (سياسية -إعلامية) تستهدف تشويه دور صنعاء وتصويرها كمصدر تهديد دولي يبرّر استمرار التدخل.
وعلى الرغم من ارتفاع مستوى التهديد في المجال البحري، تظل لدى صنعاء فرص استراتيجية مهمة، من بينها توظيف التناقضات بين القوى الكبرى في البحر الأحمر، والعمل على تعزيز التعاون مع الدول المناهضة للهيمنة الغربية، كما أن الانقسامات داخل معسكر حكومة عدن تمنح صنعاء هامشاً إضافياً لإضعاف أي مشروع لإقامة جيش بحري موحد للمرتزقة يعمل كذراع أمنية للقوى الغربية.

أترك تعليقاً

التعليقات