أنس القاضي

أنس القـاضي / لا ميديا -
تشهد العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية مرحلة جديدة من الحراك الدبلوماسي، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، وتكثّف الاشتباك السياسي حول الملف النووي الإيراني. ففي أبريل 2025، عُقدت جولتان من المفاوضات غير المباشرة بين البلدين: الأولى في العاصمة العُمانية مسقط بتاريخ 12 أبريل، والثانية في العاصمة الإيطالية روما بتاريخ 19 أبريل، وذلك بوساطة سلطنة عُمان، وبمشاركة دبلوماسية رفيعة المستوى من الطرفين.
عند تحليل الجولة الأولى من المفاوضات في مسقط، توقّعنا أن تفتح المحادثات الباب أمام مسار تفاوضي متماسك، وأن يتم البناء عليها عبر صياغة إطار تفاهم أولي دون اختراق مباشر، وهو ما تأكد تماماً في الجولة الثانية، حيث جرى تثبيت آلية الحوار، والاتفاق على خطوات فنية لاحقة، وأُعلن رسمياً عن جدول زمني للجولات المقبلة. كما أشرنا حينها إلى أن رفع العقوبات، وملف التخصيب، وضمانات عدم الانسحاب الأمريكي، ستكون المحاور المركزية للمفاوضات، وهو ما تكرّس بالفعل في محادثات روما.
تعكس هذه المفاوضات -رغم كونها غير مباشرة- رغبة متبادلة في اختبار فرص التهدئة؛ لكنها في الوقت ذاته تبرز الفجوة العميقة في الثوابت التفاوضية بين طهران وواشنطن، ما يجعل أي اتفاق مستقبلي رهيناً بإرادة سياسية صلبة، وقدرة الوسطاء، لاسيما سلطنة عُمان، على اجتراح صيغ وسطية توازن بين الأمن والسيادة.
ورغم أن الدخول في مرحلة اللجان الفنية يُعد تطوراً مهماً، إلا أن أي تغير في الإرادة السياسة في المرحلة القادمة -مع انعدام الثقة والأهداف التكتيكية لكل طرف من الأطراف- سينعكس في خلافات حول جزئية فنية مُعينة من شأنها أن تعطل المضي في الاتفاق مقدماً.
استبعاد الملفات الإقليمية كان شرطاً إيرانياً، فإيران لا تريد ربط ملفاتها الوطنية بالمعارك الإقليمية بحسب الدعاية الأمريكية التي تصور ما يجري في الإقليم كجزء من مؤامرة إيرانية. هذا الاستبعاد يحتمل أمرين: الأول: قد تكون هناك تفاهمات غير مباشرة على تهدئة في هذه الملفات، والآخر: استبعادها تماماً بدون أي تفاهمات، ما يعني استمرار حرية التصرف الإيراني والأمريكي في آن، ما يعني أن ملف البحر الأحمر اليمني وملف غزة سوف يستمر كملف ساخن، وأي تغيرات فيه -سلباً أو إيجاباً- ستكون بناءً على الوقائع الجديدة، وليس على تفاهمات مسبقة مرتبطة بجولتي المفاوضات.

الجولة الأولى
انطلقت الجولة الأولى في مسقط (12 أبريل 2025) في أجواء هادئة، حيث ترأس الوفد الإيراني وزير الخارجية، عباس عراقجي، بينما ترأس الوفد الأمريكي المبعوث الرئاسي، ستيف ويتكوف. ركزت المحادثات على ملف التخصيب النووي، ورفع العقوبات، وتقديم ضمانات بعدم الانسحاب مجدداً من أي اتفاق مستقبلي. وأكد الطرفان تمسكهما بمواقفهما المبدئية: إيران تصر على رفع العقوبات بالكامل مقابل الشفافية النووية، بينما تشترط واشنطن التزامات صارمة بشأن التخصيب مقابل تخفيف تدريجي للعقوبات.

أبرز ما ميّز الجولة الأولى:
- استبعاد الملفين الصاروخي والإقليمي رسمياً.
- أجواء إيجابية مع تحفظات متبادلة.
- تأكيد دور الوساطة العُمانية.
- تمهيد الطريق لجولة ثانية.

الجولة الثانية
بعد أسبوع من انطلاق الجولة الأولى في مسقط، انتقلت المفاوضات الإيرانية - الأمريكية إلى العاصمة الإيطالية روما، حيث عُقدت الجولة الثانية من المحادثات غير المباشرة في 19 أبريل 2025، برعاية سلطنة عُمان. شارك في هذه الجولة مجدداً كل من وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والمبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، مع تأكيد استمرار اعتماد آلية الحوار غير المباشر، أي عبر وسطاء عُمانيين يتنقلون بين قاعتين منفصلتين.
ورغم المخاوف التي سبقت الجولة، نتيجة التهديدات العسكرية المتكررة من إدارة ترامب، ومع التصعيد الإقليمي المتمثل في قصف ميناء رأس عيسى في اليمن، إلا أن اللقاءات في روما اتسمت بهدوء نسبي وأجواء بنّاءة (حد تقدير الأطراف)، واستمرت المحادثات أربع ساعات، تم خلالها التوصل إلى تفاهمات أوّلية حول "عدد من المبادئ والأهداف" وفقاً لتوصيف الجانبين.

أبرز محاور الجولة الثانية:
الاتفاق على الانتقال إلى مرحلة فنية أعمق، فقد تم الاتفاق على عقد جولة جديدة من المحادثات على مستوى الخبراء في مسقط يوم 23 أبريل، يعقبها اجتماع سياسي في 26 أبريل على مستوى الوفود العليا، لتقييم مدى التقدم وتحديد إمكانية صياغة مسودة اتفاق أولي.
كما تم التوافق على استمرار تخصيب اليورانيوم داخل إيران. فوفقاً لتقارير أمريكية (موقع "أكسيوس" و"بلومبرغ")، وافقت واشنطن على السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة لا تتجاوز 3.67% لأغراض سلمية. وبالنسبة للإدارة الأمريكية يُعدّ هذا تنازلاً منها، خاصة بعد تخلّيها -بحسب مصادر "إسرائيلية"- عن مطلب "صفر تخصيب" أو تفكيك كامل للبرنامج النووي، فيما تتمسك إيران بحقها السيادي في امتلاك برنامج نووي سلمي.

اتسمت الجولة الثانية بلهجة دبلوماسية مرنة، مع غياب التصريحات التصعيدية التي رافقت الجولة الأولى، حيث وصف عراقجي الجولة بأنها "جيدة وتتقدم إلى الأمام"، مؤكداً أن "لا سبب للتفاؤل المفرط؛ لكن لا مكان للتشاؤم"، في إشارة إلى انفتاح على المسار دون أوهام حول سهولة التوصل إلى اتفاق نهائي، فمازالت التحديات قائمة.

جددت طهران، عبر المتحدث باسم الخارجية إسماعيل بقائي، التأكيد أن البرنامج النووي "سلمي بالكامل"، وألا مجال للتفاوض بشأن القدرات الدفاعية أو العقيدة الأمنية. كما أعلن الحرس الثوري -المصنف على ما تسمى لائحة الإرهاب الأمريكي- صراحة أن الدفاع والأمن القومي خطوط حمراء غير قابلة للنقاش. فقد كان الأمريكي يُريد أن يجعل من ملف الصواريخ الباليستية جزءاً من المفاوضات، فيما تعتبر إيران برنامجها الصاروخي خطاً أحمر.
على مستوى التطور الاقتصادي الداخلي، شهدت الأسواق الإيرانية استجابة مباشرة للمناخ الإيجابي للمفاوضات، حيث ارتفعت قيمة العملة الإيرانية (التومان) إلى نحو 84,500 تومان للدولار، بحسب الأخبار المتداولة، ما اعتُبر مؤشراً إلى تفاؤل داخلي بشأن إمكانية رفع العقوبات جزئياً أو تخفيف الضغوط.
كشف علي شمخاني، مستشار المرشد الإيراني، أن الوفد الإيراني يتفاوض على أساس تسعة مبادئ، أبرزها: رفع العقوبات، تقديم ضمانات، رفض نموذج نزع السلاح كما جرى في ليبيا، تسهيل الاستثمار، ومواجهة محاولات التخريب من قبل الكيان الصهيوني.

الرسائل الإقليمية والدولية
رسالة عُمان: عبّر وزير الخارجية العماني، بدر البوسعيدي عن قناعة بأن "ما كان غير محتمل أصبح ممكناً"، في إشارة إلى حدوث تحول نوعي في أجواء المحادثات. وقد أصدرت الخارجية العُمانية بياناً رسمياً يؤكد الاتفاق على "الانتقال إلى مرحلة جديدة من المحادثات تتيح الوصول إلى اتفاق متوازن يضمن استمرار التخصيب السلمي مقابل رفع العقوبات".

القلق "الإسرائيلي": ترافقت الجولة مع تقارير عبريّة كشفت عن حضور وزير الشؤون الاستراتيجية الصهيوني، رون ديرمر، إلى روما، لمتابعة المفاوضات، في تعبير عن قلق "تل أبيب" من مسار تفاوضي قد يُنتج اتفاقاً مرحلياً لا يحقق مطالبها، ويُنظر إليه كـ"تنازل أمريكي".

الدور الأوروبي الصامت: رغم أن روما كانت مسرحاً للمفاوضات، إلا أن الحضور الأوروبي اقتصر على استضافة غير مُعلنة رسمياً، ما يدل على رغبة أمريكية في جعل هذه المفاوضات ثنائية، وهي حتى الآن غير مباشرة.

الجولة الثانية من محادثات روما لم تُحدث اختراقاً؛ لكنها ثبّتت الأرضية التفاوضية، وأنتجت تفاهماً على التدرج، وترتيب جدول واضح للتفاوض الفني والسياسي. ونجحت في تخفيف منسوب التوتر، وتحويل المسار من "جسّ نبض" إلى "صياغة إطار عام".
الكرة الآن في ملعب الجولة الثالثة المرتقبة في مسقط، والتي ستكشف ما إذا كان الطرفان قادرين على تجاوز الحذر والشكوك، والاقتراب من تفاهم مرحلي يخفف حدة التوتر في منطقة "الشرق الأوسط"، ويؤسس لمعادلة أمنية جديدة أكثر توازناً.

النتيجة العامة للجولتين
جولتا المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة -في مسقط (12 أبريل) وروما (19 أبريل)- أسفر عنهما تقدّم حذر في المسار التفاوضي دون تحقيق اختراق جوهري بعد؛ لكن مع تبلور إطار أولي يمكن البناء عليه في جولات مقبلة.
أجواء المفاوضات كانت بنّاءة وهادئة، خالية من التصعيد اللفظي، وعكست رغبة سياسية من الطرفين في استكشاف إمكانية التوصل إلى تسوية.
تم التوافق على أهداف ومبادئ عامة، مثل أحقية إيران في تخصيب سلمي (بنسبة 3.67%)، وضرورة رفع العقوبات؛ لكن دون التوصل إلى اتفاق تفصيلي حتى الآن.

تمسك الطرفين بثوابتهما: إيران ترفض المساس ببرنامجها الصاروخي وأمنها القومي، وتطالب بضمانات ضد الانسحاب الأمريكي، بينما تصرّ الولايات المتحدة على شفافية كاملة وضمانات رقابية صارمة.
عودة المحادثات الفنية إلى مسقط تمثل تطوراً مهماً في استمرارية العملية. وتُعد الجولة الثالثة المقررة في 26 أبريل اختباراً فعلياً لإمكانية الانتقال من "تفاهمات عامة" إلى "صيغة اتفاق مرحلي".

في الختام
تشير الجولتان إلى وجود نوايا متبادلة لاستكشاف إمكانية الحل، دون أن يعني ذلك أن التفاهم بات وشيكاً. المفاوضات ما تزال تدور حول الإطار وليس التفاصيل الدقيقة؛ لكن الاتفاق على جولات فنية مقبلة يعطي انطباعاً بوجود مسار تفاوضي متماسك قيد التشكل.
التحدي الأساسي لا يزال متمثلاً في قدرة الطرفين على بناء الثقة وسط تهديدات مستمرة، وضغوط إقليمية من أطراف لا ترغب في نجاح هذا المسار، وعلى رأسها الكيان الصهيوني.
تبقى سلطنة عُمان هي الحاضن الدبلوماسي الأكثر توازناً. وتبدو الجولة الثالثة في مسقط (26 أبريل) اختباراً حاسماً لقياس مدى جدية الطرفين في تجاوز خطوطهما الحمراء نحو اتفاق مرحلي أو جزئي قابل للبناء عليه.
المفاوضات لم تصل إلى مرحلة "اختراق"، لكنها لم تفشل أيضاً. بل وضعت الطرفين على سكة تفاوضية جدّية، وسط إدراك متبادل بأن لا بديل عن الحوار. ويظل المسار هشاً، إذ يمكن لأي تصعيد أو تدخل خارجي - خاصة من قبل "إسرائيل" - أن يعطّله، لكن حتى الآن، المسار قائم، والمفاوضات مستمرة، وإمكانية التوصل إلى اتفاق مرحلي باتت واردة.

أترك تعليقاً

التعليقات