الأزمة المالية في الولايات المتحدة حاضر ومستقبل الدولار
- أنس القاضي الأحد , 21 أغـسـطـس , 2022 الساعة 8:09:50 PM
- 0 تعليقات
أنس القاضي / لا ميديا -
يعاني الدولار الأمريكي في الوقت الراهن من أزمات عدة وهي سياسة التسيير الكمي، وتتلخص هذه السياسة في قيام الولايات المتحدة الأمريكية بطباعة المزيد من أوراق الدولار للتداول المحلي وتصديرها للعالم. وعجز الموازنة العامة وتفاقم الديون. وتتلخص هذه الأزمة بتزايد عجز الموازنة العامة للولايات المتحدة وزيادة نفقاتها على مداخيلها، الأزمة الثالثة مرتبطة بهذه الأزمة، فمع تفاقم الديون الأمريكية هناك خشية من تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها المالية وعدم تسديد الديون، وأزمة تراجع وضع الدولار كعملة احتياط عالمية حيث بدأت بعض البنوك العالمية باستبدال الدولار بعملات أخرى، كما أن ظهور التكتلات الاقتصادية الجديدة كالبركس وشنغهاي وقبلهما منطقة اليورو كل هذا يؤدي إلى مزيد من التعاملات بالعملات المحلية، كما أن هناك تباطؤا في تعافي الاقتصاد الأمريكي وتوالي الأزمات، من أزمة السبعينيات ثم أزمة الرهن العقاري 2008م ثم أزمة كورونا 2020م ثم أزمة الحرب في أوكرانيا 2022م.
في هذه الظروف الاقتصادية المأزومة تشتد العدوانية الأمريكية، وتتجه نحو إشعال النيران في بؤر التوتر العالمية الراهنة، وتخلق الجديدة في مسعى منها إلى زرع الفوضى في العالم وضرب الاستقرار عالمياً لتنتقل رؤوس الأموال إليها، ورغبة أيضاً في قيام حلفائها بالحروب بالنيابة عنها وتحمل التكاليف فيما تحضر هي لجني الثمار كما فعلت عقب الحرب العالمية الثانية.
سابقاً، كان التنسيق بين المراكز الرأسمالية الثلاثة (أمريكا ـ اليابان ـ الاتحاد الأوروبي) كبيراً من أجل تجاوز الأزمات الرأسمالية وفي مقدمتها أزمة الركود العالمي، إلا أن تجليات قانون التطور اللامتفاوت، والمنافسة الاقتصادية، والحروب التجارية، وظهور النزعة الشعبوية في الغرب الأمريكي الأوروبي والانقسام في المسائل الاقتصادية، كما في الوضع الراهن من الخلافات حول العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران وروسيا وفنزويلا وغيرها..، هذا الأمر يجعل من المراكز الإمبريالية العالمية أقل قدرة على التنسيق من أجل تفادي الأزمات، رغم أنها تدرك مدى أهمية التنسيق والتكامل للمحافظة على الهيمنة الاقتصادية عالميا وإبقاء بلدان جنوب الكرة الأرضية دولاً مستعمرة.
ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن الأزمة النقدية الأمريكية والعالمية، ليست قائمة في ذاتها في نمط السياسة المالية فيمكن تجاوزها بتعديل هذه السياسات، فالأزمة المالية إنما هي نتيجة الأزمة الهيكلية في اقتصاد الرأسمالية، حيث بلغ التمركز الاحتكاري أقصى مستوياته، فهناك 500 شركة تتحكم بالاقتصاد العالمي، هذا الإفراط في التمركز يدفع هذه الاحتكارات إلى الاندفاع نحو الاستثمار في المجال المالي على حساب النشاط الاقتصادي الحقيقي عبر المضاربات المالية، وهو ما يخلق فقاقيع مالية تتفجر على شكل أزمات مالية.
نشأة النظام النقدي "بريتون وودز" و"صدمة نكسون"
الدولار الأمريكي، السرقة والخديعة الاقتصادية الأكبر في تاريخ البشرية، رغم أن الدولار مجرد عملة ورقية لا تغطيها قيمة موازية من الذهب، إلا أن هذه العملة فرضت وجودها في التعامل المالي، فباتت خطراً يتهدد الاقتصاد العالمي؛ فالعملة الأمريكية تسللت إلى عمق الاقتصاد العالمي، بشكل يجعل من الصعب على دول العالم التخلي عنها بسهولة، وفي حال سقطت هذه العملة فستسقط معها الكثير من المؤسسات والأنظمة الاقتصادية في العالم.
ما بين عامي 1794م و1795م بعد الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا، اعتمد "الآباء المؤسسون" لأمريكا عملة معدنية موحّدة سموها "الدولار"، كانت العملة آنذاك مرتبطة بالذهب، ومع قيام الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب، التي أدت إلى استنزاف الاقتصاد الأمريكي، لجأت الحكومة الأمريكية في عام 1862م لإنشاء العملة الورقية الخضراء المعروفة اليوم، مستغنية عن الذهب والفضة في صناعتها.
رسخ الدولار الأمريكي هيمنته عقب الحرب العالمية الثانية؛ فقد خرجت الولايات المتحدة الأمريكية منتصرة فيها، ولم تتكبد خسائر مالية فادحة كالخسائر التي تكبدتها الحكومات الأخرى المشاركة، وقد تسيد الدولار بعد اتفاقية "بريتون وودز" في سنة 1944م.
أفضت اتفاقية "بريتون وودز" إلى تنظيم التجارة العالمية الدولية باعتماد الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر العملات الدولية، كما اشترط النظام المالي العالمي الجديد أن تربط كل دولة عملتها إما بالذهب أو الدولار. وعززت الولايات المتحدة الأمريكية مكانة الدولار في النظام الاقتصادي العالمي الجديد عبر نظام الصرف الأجنبي وإنشاء كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية وغيرها، وهكذا سيطر الدولار على اقتصاد العالم.
تم بموجب اتفاقية "بريتون وودز" تثبيت سعر الذهب بـ35 دولارا للأوقية الواحدة وكان يستطيع الفرد أو أي دولة وبنك أن تستبدل بالدولار ذهباً في الولايات المتحدة بضمانة الدولة.
منذ خمسينيات القرن الماضي وسعت الولايات المتحدة الأمريكية من استثماراتها الخارجية وطباعة الدولار، وبدأ العجز يظهر في ميزان المدفوعات الأمريكية إلى أن تجاوزت الدولارات الموجودة في بلدان العالم مخزون الذهب الأمريكي الذي يمثل غطاءً للأوراق النقدية (الدولارات) عندها بدأت معدلات تحويل الدولار إلى ذهب ترتفع لدى وزارة الخزانة الأمريكية، وبدأت بذلك أسعار الذهب بالارتفاع في الأسواق الخاصة، ووصلت إلى حدود 40 دولاراً للأوقية الواحدة، في العام 1961م نتيجة المضاربات في عملية الشراء تدخلت الدول الصناعية في إطار ما عرف بمجمع الذهب في نهاية السنة ذاتها للدفاع عن السعر الرسمي للذهب المحدد في إطار اتفاقية بريتون وودز بـ35 دولاراً للأوقية، فتراجع انخفاض الدولار مقابل الذهب وانسحب المضاربون مؤقتاً(1).
استمرت الثقة العالمية بالدولار حتى وقوع ما سمي بصدمة نيكسون في سبعينيات القرن الماضي، كأحد تداعيات الحرب العدوانية الأمريكية على فيتنام.
خاضت الولايات المتّحدة الحرب على فيتنام من العام 1956م حتى 1975م، وقد احتاجت واشنطن إلى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، لكن الذهب الموجود في الولايات المتحدة لم يعد كافياً ليغطّي الدولار الأمريكي، وبالتالي فلم يعد بمقدور واشنطن طباعة المزيد من الدولارات، فقامت الحكومة الأمريكية بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب بشكل سري.
مع استمرار العجز في ميزان المدفوعات الأمريكية حيث زاد عن 29 مليار دولار في العام 1971م تزايد الضغط من قبل الدول الصناعية الغربية على الولايات المتحدة لتنفيذ التزامها بتحويل الدولار إلى ذهب، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى الأزمة الكبرى ونهاية النظام النقدي "بريتون وودز" وقاعدة ربط الدولار بالذهب، وكانت تلك صدمة نيكسون.
ففي عام 1971م صرح الرئيس الأمريكي نيكسون بالتراجع عن قاعدة ربط الدولار بالذهب، عرف العالم الرأسمالي آنذاك واحدة من اضطراباته التي حدّت لمدة طويلة من نمو الاقتصاد العالمي والتعاملات المالية والتجارية، أعلن نكسون حينها البرنامج الاقتصادي الجديد لحكومته وكان هدفه الأساسي إنقاذ الدولار على حساب الشركاء التجاريين للولايات المتحدة من جهة، وعلى حساب الطبقة العاملة الأمريكية ودافعي الضرائب من جهة أخرى.
ألغت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أحادي الجانب التزامها باستبدال دولارات البنوك المركزية الأجنبية بالذهب، وكان يعني ذلك ضرب النظام النقدي الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، كما أدخلت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أحادي الجانب خرق اتفاقيات عديدة عندما أدخلت رسماً إضافياً قدره 10% على كل الواردات من البضائع، فضرب هذا الرسم الإضافي أولاً السلع الصناعية المستوردة من أوروبا الغربية واليابان وكندا، وكذلك العديد من البلدان النامية، وبسبب هذه الإجراءات أصبحت السوق الأمريكية شبه مغلقة على بضائع عدة، كما أصدر نيكسون مرسوما بـ"تجميد" الأسعار والأجور لمدة 90 يوماً.
نجحت هذه الإجراءات في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي من الانهيار لكنها لم تتجاوز الأزمة الحقيقية، ومازالت آثار أزمة السبعينيات مؤثرة على الاقتصاد الأمريكي والعالمي حتى اليوم.
اتخذت أزمة الدولار سنة 1971م طابعا حاداً وكان مفاجئاً للعالم المنقسم آنذاك بين معسكر رأسمالي ومعسكر اشتراكي، قيام الولايات المتحدة بإجراءات اقتصادية لتعافي عملتها على حساب حلفائها وشركائها في المعسكر الرأسمالي، حيث قامت الولايات المتحدة بضرب شركائها وظهر القلق والسخط في عواصم بلدان عديدة، فمن أجل احتواء الأزمة أعلنت الولايات المتحدة حرباً اقتصادية على حلفائها.
عملياً، دفعت الولايات المتحدة الأمريكية دول الغرب إلى شراء الدولار الأمريكي بسعر أعلى لإنقاذه، حيث أعطت الولايات المتحدة موافقتها على تخفيض سعر صرف الذهب بالدولار بنسبة بسيطة 8% زادت قليلاً أسعار صرف الذهب بعملات ألمانيا الاتحادية واليابان وبعض البلدان الأخرى، بينما أسعار عملتي بريطانيا وفرنسا لم تتغير، فكانت عملياً قد زادت أسعار صرف الدولار بعملات كل البلدان الرأسمالية المتطورة بصورة جزئية، كما رفعت الولايات المتحدة أسعار الذهب وكانت نتيجة هذه التغيرات إقامة بنية جديدة للعلاقات بين العملات.
أصول الأزمة
لم تكن هذه الأزمة النقدية غريبة عن طبيعة النظام الاقتصادي للرأسمالية الاحتكارية وطابع قانون التراكم المتفاوت الذي يحكمها، فقد عبرت هذه التغيرات في العلاقات النقدية عن التناقضات بين الإمبرياليين، فهي نتيجة رئيسة للنظام غير المتوازن للقوانين الدولية، الذي فرضه مؤتمر "بريتون وودز" سنة 1944م، وغياب توافقه مع التوزيع الجديد للقوى في المعسكر الرأسمالي، فبموجب المؤتمر، أصبح الدولار الأمريكي العملة الأساسية في العالم الرأسمالي، لكن قانون التطور المتفاوت للرأسمالية قد قضى بهيمنة الولايات المتحدة في العالم الرأسمالي.
كان تصعيد الحرب في فيتنام وزيادة النفقات المالية الأمريكية لتمويل التوسع الاستعماري العسكري أحد أسباب تفجر الأزمة، أجبرت الحرب الولايات المتحدة من أجل تمويل الحرب المفتوحة في فيتنام على طبع المزيد من العملة بدون احتياطي ذهبي، مما أدى إلى إنهاكها، وهو ما حدث سابقاً مع بريطانيا؛ ففي الحالة البريطانية ضعفت الليرة الإسترلينية بوصفها عملة احتياط بسبب العبء الزائد للنفقات العسكرية للمستعمرين الإنجليز التي وجهت نحو قمع حركات التحرر الوطني في بلدان الإمبراطورية وتصدير الرساميل بشكل توظيفات خاصة في البلدان التابعة، وقد سبب هذا الأمر عجزاً دائماً في ميزان المدفوعات البريطانية، وهذه الأزمة تعاني منها الولايات المتحدة في العصر الراهن ومازالت مستمرة منذ السبعينيات.
في فترة الستينيات ازداد توسع انتشار القواعد العسكرية الأمريكية و"الحروب الصغيرة" التي كانت متواصلة منذ 25 سنة وقد تحولت إلى حرب واسعة في الهند الصينية، وكانت الحرب في فيتنام ثم في كمبوديا ولاوس النقطة الأخيرة التي أطاحت بميزان المدفوعات الأمريكي.
إضافة إلى الحروب كان هناك إنفاق أمريكي يذهب إلى صيانة التوسع الاستعماري والأنظمة العميلة في العالم، عبر ما تسمى المنح والمساعدات والقروض والإعانات التي اضطرت الولايات المتحدة تقديمها لحلفائها وأتباعها في العالم، من أجل مواجهتهم للقوى الثورية خدمة لمصالحها.
التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية
منذ ظهور نظام التجارة السلعية والنقود، كانت الأسعار ترتفع من حين لآخر ويؤدي ذلك إلى اضطرابات اجتماعية كبيرة، ويشار عادة إلى هذه المسألة بالتضخم، وهو في أبسط معانيه تراجع كمية السلع التي يمكن شراؤها بوحدة نقدية معينة عما كانت عليه سابقاً.
يؤدي التضخم نتائج عكسية، فهو من جهة ينهك الجماهير الشعبية لصالح قسم من البرجوازية، حيث إن السرقات الضخمة التي تتم عبر التضخم تطال ضمانات العجزة والمعاقين والعاطلين عن العمل والعمال ذوي الرواتب المنخفضة أو أولئك الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور.
وترتفع الأسعار في الولايات المتحدة منذ أوائل السبعينيات بشكل أسرع مما في الدول الرأسمالية المتقدمة الأخرى، ويعني أنه أصبح أكثر صعوبة تدريجياً بيع البضائع الأمريكية في الخارج وبات أسهل بيع السلع الأجنبية في السوق الأمريكية، وهي المشكلة الأبرز التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية اليوم مع السلع الصينية وغيرها التي تدخل البلاد، ونتيجة لقيام الصين بتخفيض قيمة عملتها أمام الدولار، وهو ما حدث في 11 أغسطس 2015م، حين خفض البنك المركزي الصيني قيمة اليوان الصيني ثلاث مرات متتالية مطيحاً بأكثر من 3% من قيمته، وتكرر الأمر لاحقاً في الصراع التجاري الأمريكي الصيني في العام 2019م(2).
يؤدي التضخم إلى انخفاض في الصادرات بالنسبة للواردات وبالتالي عدم قدرة الحصول على العملات الأجنبية الضرورية لمتابعة العمليات الأمريكية في الدول الأخرى بما فيها العمليات العسكرية العدوانية.
تباطؤ تعافي الاقتصاد الأمريكي
يعيش الاقتصاد الأمريكي حالة ركود منذ سبعينيات القرن الماضي ثم تزايد من بعد أزمة 2008م وتضاعفت هذه الأزمة مع جائحة كورونا 2020م، فالاقتصاد الأمريكي الذي هو في حالة مرض لم يستطع تجاوز علاته والتعافي، وكلما حاول الخروج من أزمة وقع في أخرى، منذ السبعينيات حتى اليوم، ومع اندلاع الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا 2022م تفاقمت هذه الأزمة، ونلاحظ توالي الأزمات الاقتصادية التي تكبح نهوض الاقتصاد الأمريكي وتعيده إلى التضخم والركود كلما انتعش، بين هذه الأزمات يشهد الاقتصاد الأمريكي حالة ارتفاع في النمو لا يتوقعها الاقتصاديون لكنه لا يؤثر على العجلة الكلية في الاقتصاد أي لا يقدم حلولاً لأزمة عجز الموازنة وأزمة الديون ولا يُعيد للدولار هيمنته على الصعيد العالمي.
يتضح هذا الركود في الميزان التجاري الأمريكي فمنذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تستهلك الولايات المتحدة أكثر مما تنتج، وعجزها التجاري الخارجي آخذ في الازدياد، حيث بدأت دول أخرى في إطعام وكساء الولايات المتحدة الأمريكية وتزويد السيارات الأمريكية بالوقود، حيث ينتكس مؤشر الميزان التجاري وهو في حالة هبوط من الستينيات حتى الوقت الراهن. وعندما شن دونالد ترامب حربا تجارية مع الصين 2019م، كان العجز التجاري الأمريكي مع الصين 250 مليار دولار، وهو يساوي الآن 450 مليار دولار.
رغم أن البنك الدولي إحدى أذرع الإمبريالية العالمية ويسترشد بفكر الاقتصاد السياسي البرجوازي، إلا أن بياناته وتوقعاته تؤكد التحليل الماركسي عن الأزمة الرأسمالية عالمياً وأزمة الولايات المتحدة خصوصاً.
ففي تقرير للبنك الدولي يونيو 2022م، توقع أن يصل التضخم إلى ذروته في منتصف عام 2022م ثم يتباطأ، لكنه يرى أن مخاطر التضخم مصحوبة بركود اقتصادي، كما كان الحال في السبعينيات.
ومن بين أسباب تباطؤ النمو الاقتصادي هذا العام، يشير البنك الدولي إلى جائحة فيروس كورونا وكذلك الوضع في أوكرانيا وزيادة أسعار السلع الأساسية وارتفاع مخاطر تعطل سلاسل الإمدادات.
خفض البنك الدولي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة للفترة 2022-2023، ويتوقع البنك نمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 2.5% في 2022م، بعدما كان يتوقع في السابق نموا عند 3.7%.
وفي العام 2023، يتوقع أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 2.4% بدلا من 2.6% كان يتوقعها في السابق، وفي العام 2024م يتوقع البنك نمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة عند 2%.
ومن الأسباب التي أسهمت في تراجع التوقعات الاقتصادية بالولايات المتحدة، أشار البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار الطاقة(3).
وفي المقارنة بين توقعات البنك الدولي لنمو الإنتاج الأمريكي والإنتاج الصيني، توقع البنك الدولي أن يكون معدل الإنتاج الأمريكي في العام 2024م 2%، فيما توقع للاقتصاد الصيني أن ينمو في نفس العام 5.1%.
ومن قراءة هذه الأرقام نستنتج أن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تلعب دوراً إمبراطوريا عالمياً يفوق طاقتها الاقتصادية، فلا يمكنها تحمل أعباء هذا الدور، ويُعد انسحابها من العراق وأفغانستان والاعتماد على الأموال الخليجية في التدخلات العسكرية مؤشراً على عجزها عن الاستمرار في لعب هذا الدور، وسبق ظهور عجزها هذا في السبعينيات وهي اليوم أشد عجزاً من ذلك الوقت، ولم تكن مصادفة أن صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن في قمة جدة 16 يونيو 2022م أن "عهد الحروب في المنطقة انتهى"، وهو يقصد الحروب الأمريكية على النمط القديم كما في نموذج احتلال أفغانستان والعراق.
مستقبل الدولار كاحتياطي عالمي
تظل تجارة النفط أحد أهم الأسباب الداعمة لثبات الدولار الأمريكي عالمياً، ولهذا وضعت أمريكا جل جهدها في الهيمنة على هذا السوق، بتفجير الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وتحويل الخليج العربي إلى بحيرة أمريكية حتى تضمن السيطرة على منابع النفط والإبقاء على استقرار نسبي لقيمة الدولار، كما أن الدولار تحدد به سعر السلع الاستراتيجية كالغاز والحبوب، وهناك دول ربطت عملتها بالدولار في عقود المشتريات والتصدير والاحتياطيات المالية الاستراتيجية.
وبالإضافة إلى النفط فإن سر هيمنة الاقتصاد الأمريكي القوة العسكرية العدوانية في المقام الأول، حيث يستمد الدولار قدراً كبيراً من قوته من قوة الولايات المتحدة كدولة إمبراطورية عالمية.
ظلت دول العالم مستعدة لقبول المزيد من الدولارات استناداً إلى الاعتقاد بأن هذه الدولارات شكل من أشكال سندات الخزانة الأمريكية الأكثر أمانا، والتي يمكن قبض قيمتها نقداً، إلا أن هذه الثقة تنهار.
بصورة عامة لا تريد دول العالم وقف التعامل بالدولار، لأن ذلك سيعني خسارتها لمخزونها من الدولارات في بنوكها كعملة احتياط والتي تعاملها الدول كما تعامل الذهب، أي أنها تستخدمها لدعم عملاتها وكوسيط لتسوية الحسابات الدولية، ومع نمو الاقتصاديات القومية وتوسع التجارة العالمية تزداد الحاجة إلى النقد الاحتياطي.
ثمة سبب آخر في تواطؤ الدول على قبول الدولار وهو أن التضخم في الاقتصاد الأمريكي يخدم إلى حد بعيد صادرات الدول الغربية إلى السوق الأمريكية الحليفة للولايات المتحدة وغير الحليفة كالصين، وثمة سبب ثالث أيضا وهو أن رأسماليي الدول الغربية والخليجية والصهاينة لا يعارضون النفقات والنشاطات العسكرية الأمريكية (التي تسهم في التضخم والعجز في ميزان المدفوعات)؛ فطالما أن هدف آلة الحرب الأمريكية هو الحفاظ على نظام الهيمنة والأحادية الغربية وسحق حركة التحرر، فلا عجب إذن من تسامح الدول الرأسمالية الأخرى مع الدولار الأمريكي، لكن المؤكد أن مراكمة الدولارات لا يمكن أن يستمر إلى الأبد خاصة مع معدلات التضخم الراهنة في الولايات المتحدة.
أظهرت بيانات وزارة الخزانة الأمريكية أن اليابان والصين خفضتا استثماراتهما في سندات الخزانة الأمريكية على مدى الأشهر الـ12 الماضية، كذلك قلصت هذه الاستثمارات السعودية والإمارات.
وأشارت البيانات إلى أن استثمارات الصين في هذه السندات بلغت في شهر مايو 2022 مستوى 980.8 مليار دولار بعد أن كانت في شهر أبريل 2022 عند 1003.4 مليار دولار، أي أن الاستثمارات تراجعت بنحو 22.6 مليار دولار.
وللمقارنة بمايو 2021 فقد انخفضت استثمارات بكين في سندات الخزانة الأمريكية بواقع 97.6 مليار دولار، من 1078.4 مليار دولار إلى 980.8 مليار دولار، وهو أدنى مستوى في نحو 12 عاما الماضية، بحسب خبراء.
كذلك تعمل اليابان على خفض استثماراتها في سندات الخزانة الأمريكية. فعلى الرغم من عدم وجود خلافات سياسية عالمية مع الولايات المتحدة، فقد تراجعت استثمارات طوكيو في السندات الأمريكية في شهر واحد بواقع 6 مليارات دولار، من 1218.5 مليار دولار في أبريل 2022 إلى 1212.8 مليار دولار في مايو 2022، وهو أدنى مستوى منذ بداية العام.
وفي ما يتعلق بالدول العربية، أظهرت البيانات أن السعودية أيضا قلصت هذه الاستثمارات من 127.3 مليار دولار في مايو 2021 إلى 114.7 مليار دولار في مايو 2022. أما الإمارات فقد خفضتها من 57.3 مليار دولار إلى 38.3 مليار دولار في نفس الأشهر(4).
بلغت معدلات التضخم الأمريكية هذا العام 2022م أعلى معدل لها منذ 40 عاماً مع زيادة أسعار الطاقة والغذاء، وقالت وزارة العمل الأمريكية إن معدل التضخم السنوي ارتفع إلى 8.6% في مايو، بعد أن تراجع في شهر أبريل. كما فرض ارتفاع تكلفة المعيشة أعباءً كبيرة على كاهل الأسر وضغوطاً على صنّاع السياسات للسيطرة على الوضع، وكان البنك المركزي الأمريكي قد رفع أسعار الفائدة منذ مارس، وأعرب الخبراء الاقتصاديون عن أملهم وقتها في أن يفضي التحرك إلى تحسين النشاط الاقتصادي وتخفيف ضغوط الأسعار، لكن الصراع الروسي الأوكراني، الذي أدى إلى ارتفاع أسعار النفط والسلع الغذائية مثل القمح، وعطل حركة الصادرات بين البلدين، جعل معالجة المشكلة أكثر صعوبة(5).
منذ سنوات بدأت بوادر تهديد عرش الدولار، وإمكانات تحقق ذلك اليوم أكبر مما كانت عليه في الأمس، فالأصوات الداعية لاعتماد العملات التجارية بدلاً من الدولار، الأصوات التي صدرت من تركيا وإيران وروسيا والصين وفنزويلا، سيكون لها تأثيرات مستقبلية، على هيمنة العملة الأمريكية على التجارة الدولية، وخاصة إذا ما انضمت مزيد من الدول إلى هذا التوجه الجديد في الاقتصاد العالمي.
في سبتمبر من العام 2018م أكدت الصين وروسيا، سعيهما لزيادة التبادل التجاري بينهما بالعملات المحلية، والابتعاد عن التعامل بالدولار، وفي ذات العام اتفقت الحكومة الإيرانية مع نظيرتها الصينية على استخدام العملات المحلية للبلدين، بدلاً من الدولار في التبادلات التجارية الثنائية، بحسبما أعلن وزير الاقتصاد الإيراني عقب عودته من بكين برفقة الرئيس حسن روحاني، وجرى الاتفاق على هامش قمة شنغهاي، وفي مارس 2021م وقعت كل من إيران والصين اتفاقية تعاون استراتيجية لمدة 25 عاماً.
في مطلع العام 2022، وتحديدا شهر مارس، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أن الرياض تجري مشاورات مع بكين لتسعير بعض من صادراتها النفطية باليوان، ومن شأن ذلك أن يهدد نظام "البترودولار"، وذات التوجه اتخذته فنزويلا ببيع نفطها بعملة غير الدولار، وهو توجه صرح به الرئيس الفينزويلي في العام 2017م، وقال مادورو في حديث تلفزيوني: "لقد قررت البدء ببيع النفط والغاز والذهب والمنتجات الأخرى التي تصدرها فنزويلا بعملات جديدة من بينها اليوان الصيني والين الياباني والروبل الروسي والروبية الهندية وغيرها".. وأضاف: "إقامة نظام اقتصادي متحرر من الإمبريالية الأمريكية أمر ممكن التحقق"(6).
ولعل أكثر التوجهات خطورة على مستقبل هيمنة الدولار، هو ما صرح به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن العمل جار على إنشاء عملة احتياط دولية على أساس سلة عملات "بريكس"(7)، وهو توجه يختلط فيه الاقتصادي مع الصراع السياسي والعسكري الراهن بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، مختلف هذه المؤشرات تذهب بالتحليل إلى أن سيادة الدولار، لم تعد ممكنة.
أزمة الديون في الاقتصاد العالمي واقتصاد الولايات المتحدة
تواجه الرأسمالية العالمية مشكلة ديون خطيرة تُعد من أبرز أزماتها، وهي لصيقة بأزمة التضخم حيث تشترك أزمة الديون بكثير من الخصائص مع أزمة التضخم، والأزمتان معاً هما من الأزمات النقدية التي تعاني منها الرأسمالية العالمية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مرتبطة بالأزمة الهيكلية للرأسمالية.
أزمة الديون أحد إفرازات النظام الاستغلالي والربوي الرأسمالي فهي ظاهرة قديمة، إلا أنها اليوم ترتبط بعناصر اقتصادية مختلفة، ويمكن تلخيصها بعجز دولة ما عن تسديد ديونها لأن نفقاتها أكبر من مواردها، وهو ما يدفعها إلى الاقتراض مجدداً وتضاف إلى القروض الفوائد، ومع الركود أو انكماش الإنتاج وزيادة الإنفاق يصبح من غير الممكن اللحاق بالديون وتسديدها، وهذا هو حال الولايات المتحدة الأمريكية، التي تزداد ديونها بصورة دورية مع زيادة إنفاقها إثر توسعها الاستعماري في العالم.
الأزمة الخطيرة الراهنة، وصفها البنك الدولي في تقرير هذا العام 2022م بأنها "الأوسع قاعدة" بين أزمات الديون خلال الخمسين عاما الماضية، وكانت آخر أزمة عالمية هي الأزمة المالية وأزمة الرهون العقارية التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية 2008م ثم عمت العالم، وقبلها كانت أزمة التضخم في العام 1970م قد بدأت من الولايات المتحدة ثم عمت العالم، ومازالت تداعيات أزمة السبعينيات وأزمة العام 2008م مستمرة حتى اليوم في الاقتصاد العالمي، فيما يدخل العالم اليوم أزمة جديدة، والأزمات في الرأسمالية دورية فهي جزء من آلية عملها.
في أزمة الديون الراهنة ارتفع الدين العام للدول الرأسمالية المتقدمة نحو 70% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2007م إلى 124% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2020م، كما تنمو ديون الاقتصادات النامية والناشئة التي تمثل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، والتي كانت تعاني حتى من قبل جائحة كورونا.
ومع بلوغ الديون العالمية للدول المتقدمة والمتخلفة -معاً- ما نسبته 353% من إجمالي الناتج المحلي العالمي بدا واضحاً أن الأزمة لا تتعلق فقط بالديون الحكومية أو تلك التي تعرف بالديون السيادية، بل يمتد الأمر ليشمل القروض الشخصية وتلك الخاصة بالشركات والهيئات، وهي نتيجة تراكمية فقد أدت أزمة جائحة كورونا (كوفيد 19) إلى زيادة المديونية الإجمالية إلى أعلى مستوى لها في 50 عاماً وجعلت مستوى الديون الحكومية لتلك البلدان يعادل أكثر من 250% من الإيرادات الحكومية(8)، فجائحة كورونا تجاوزت طبيعتها الصحية وأصبحت تحدياً اقتصادياً فعلياً، وفي هذه الفترة كانت نحو 60% من بلدان العالم الأشدّ فقراً إما في حالة مديونية حرجة بالفعل أو معرضة لمخاطر عالية، وبلغت أعباء خدمة الديون في البلدان متوسطة الدخل أعلى مستوى لها في 30 عاماً، مع ارتفاع أسعار الطاقة بصورة مطردة، وزيادة أسعار الفائدة في مختلف أنحاء العالم(9).
هذه الحقيقة لم تعد نظرية، فسريلانكا التي تواجه أزمات اقتصادية حادة وصراعا طبقيا حادا يهدد بحرب أهلية، أعلنت عجزها عن دفع الديون والفوائد المترتبة عليها، ومن المتوقع أن تنضم لها دول أخرى إذا استمر التدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ النمو وزيادة الفوائد وفاقمته الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا، فقد زاد الدين العالمي بمقدار 10 تريليونات دولار خلال العام الماضي، ليسجل مستوى قياسياً جديداً عند 303 تريليونات دولار، مع صعود ديون الأسواق الناشئة والنامية.
أزمة ديون الولايات المتحدة
تعمل الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة على تضييق الهوة بين دينها وناتجها الإجمالي، ولهذا تضع حداً اقصى وسقفاً لديونها يمنع تجاوزه، وفي كل مرة يجري رفع السقف، وصولاً إلى العصر الراهن حيث تفوق دين الولايات المتحدة الأمريكية على ناتجها الإجمالي، وهو ما يُشير إلى أزمة اقتصادية حادة في الولايات المتحدة، ويُدرك ذلك من تتبع محطات رفع الولايات المتحدة لسقف ديونها.
قبل عام 1917م، كان الكونجرس يأذن للحكومة باقتراض مبلغ ثابت من المال لفترة محددة، وعندما يتم سداد القرض لا يمكن للحكومة الاقتراض مرة أخرى ما لم يُسمح لها بذلك، تغير هذا بعد أن تم تشريع قانون جديد في عام 1917م وضع سقفا للديون وسمح بتمديد مستمر لعملية الاقتراض دون موافقة الكونغرس.
سن الكونغرس هذا الإجراء بالسماح للرئيس آنذاك "وودرو ويلسون" بإنفاق الأموال التي اعتبرها ضرورية لخوض الحرب العالمية الأولى.. ومع ذلك، لم يرغب الكونغرس في كتابة شيك على بياض للرئيس، لذلك حدد الاقتراض بـ11.5 مليار دولار، واشترط أن يكون هناك تشريع جديد في حال الرغبة بزيادة المبلغ.. ومنذ ذلك الحين، تم رفع سقف الدين عشرات المرات، وتم تعليق العمل به في عدة مناسبات، كان آخرها في أغسطس 2019، عندما علق الكونغرس الحد الأقصى حتى 31 تموز/ يوليو 2021(10).
تقوم الولايات المتحدة بالاستدانة بتقديم سندات خزينة عبر وزارة الخزانة الأمريكية وينظر إلى سندات الحكومة الأمريكية على أنها من بين أكثر الاستثمارات أماناً وموثوقية في العالم، وتعد الصين الشعبية الدائن الأول للولايات المتحدة بمقدار 3 تريليونات دولار.
تعيد أزمة المديونية الأمريكية الحالية، الأزمة المالية العالمية التي حدثت عام 2008، والتي بدأت من الولايات المتحدة واجتاحت العالم وأفلست في طريقها بـ19 بنكاً أمريكياً وأنقذت غيرها من أموال دافعي الضرائب أي من مدخرات الشعب.
منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي هناك صعود في هرم الدين الأمريكي، والذي وصل اليوم (2022) إلى ما يقرب من 30.6 تريليون دولار.
أثيرت مسألة تجاوز السقف القديم للاستدانة المحدد بـ28.4 تريليون دولار في سبتمبر من العام 2021 حين أوشكت الولايات المتحدة على الاقتراب من خطوة وقف تسديد الديون، ففي سبتمبر من ذلك العام، طالبت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، الكونغرس برفع سقف الدين، لافتة إلى ضرورة ذلك لتجنب "أزمة مالية تاريخية". وهذا السقف هو الرسمي للاستدانة فيما واقعياً الديون أكبر من ذلك.
ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن جانيت يلين قولها إن "الولايات المتحدة لطالما رفعت سقف الدين قبل تجاوز حده الأقصى"، مؤكدة أن "واشنطن لم تتخلف عن السداد قط ولا مرة".
وحذرت أن من شأن التخلف عن السداد أن يؤدي -على الأرجح- إلى أزمة مالية تاريخية، كاشفة أن "بإمكان التخلف عن السداد أن يؤدي إلى رفع معدلات الفائدة وتراجع أسعار الأسهم بشكل حاد، وغير ذلك من الاضطرابات المالية"، حيث أعيد تطبيق سقف الدين، الذي لا يمكن إلا للكونغرس زيادته، بعد تعليقه لسنتين، إذ إن سقف الدين آنذاك كان يحظر على الولايات المتحدة استدانة أكثر من الحد الأقصى حينها البالغ 28.4 تريليون دولار.
وفي مقالها الأخير بالصحيفة، لفتت يلين إلى "قائمة من الكوارث المالية المحتملة التي قد تلحق بالبلاد" في حال لم يرفع سقف الدين ولم تتمكن الولايات المتحدة من سداد ديونها مع حلول المهل المحددة، موضحة أنه "في غضون أيام، سيفتقر ملايين الأمريكيين إلى النقود.. وقد تنقطع شيكات الضمان الاجتماعي عن نحو 50 مليون مسن، وقد تتوقف رواتب الجنود"، مضيفة أن "الولايات المتحدة ستخرج من هذه الأزمة كأمة أضعف مؤقتا"(11). وهو تقييم موضوعي، إن لم تكن قد قللت من التداعيات.
في نهاية المطاف وافق مجلس النواب الأمريكي الذي يسيطر عليه الديمقراطيون على مشروع قانون أقره مجلس الشيوخ لرفع حد الاقتراض الحكومي مؤقتا إلى 28.9 تريليون دولار، مما يحول دون خطر التخلف عن سداد الديون حتى مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2022 وأقر بذلك المجلس زيادة 480 مليار دولار في سقف الدين.
سيكون لتخلف الولايات المتحدة عن السداد ورفض رفع سقف الدين في أي أزمة دورية مستقبلية عواقب مدمرة على الاقتصاد الأمريكي والعالمي، فسيؤدي عدم رفع سقف الدين إلى احتمال عدم دفع رواتب موظفي الحكومة أو المقاولين المتعاقدين معها، وكذلك قد تتوقف عن منح القروض للشركات الصغيرة أو طلاب الجامعات، والتوقف عن دفع الفواتير الحكومية.
كما يتوقع أن يتسبب التخلف عن السداد في انزلاق الولايات المتحدة إلى ركود اقتصادي، وسيؤدي ذلك أيضاً إلى فقدان ملايين الوظائف والإلقاء بهم إلى رصيف البطالة كما حدث في السبعينيات، أما على الساحة الدولية فسيكون للتخلف عن السداد تداعيات اقتصادية خطيرة، إذ سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض قيمة الدولار مقابل العملات العالمية وزعزعة الاستقرار الاقتصادي العالمي الذي قد يذهب إلى الركود، فدول العالم تعرف بالتجربة أن الأزمة التي تتفجر في الولايات المتحدة تأخذ معها بقية دول العالم الرأسمالي، بداية منذ أزمة الكساد العظيم في الثلاثينيات وصولاً إلى أزمة الرهن العقاري والفقاعة المالية في العام 2008.
سيدفع الركود إلى تخفيض التبادلات التجارية الخارجية، مما يعني خسارة البلدان الناشئة التي تعتمد اقتصادياً على التصدير للولايات المتحدة، كما أن التضخم سيزيد من كلفة استيراد الولايات المتحدة من الخارج، وهو ما يعني ركودا في التبادلات التجارية العالمية.
من جهة أخرى ستؤدي خسارة الدولار لقيمته إلى ضرب احتياطات النقد للبلدان الأخرى، وضعف قدرتها الشرائية.
أما المخاوف المحدقة للولايات المتحدة الأمريكية، فهي المتعلقة بصراعها التجاري مع الصين الشعبية، التي باتت أكثر قدرة على التأثير في الاقتصاد الأمريكي، وتنافسها العسكري مع روسيا، ففي حالة تخلفها عن تسديد الديون سيضعف إنفاقها العسكري لتخسر أمام روسيا، وسيضعف إنتاجها المحلي لتخسر أمام الصين، فهي في موقف صعب؛ فعدم رفع سقف الدين وتسديدها مشكلة خطيرة، والاستمرار في رفع سقف الدين مشكلة أخطر على المدى الطويل، فكلما اتسعت الهوة بين الناتج المحلي الإجمالي وبين الدين العام كانت الولايات المتحدة أقرب إلى الإفلاس.
وهناك شك اليوم في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الاستدانة، فأكبر من يستثمر في سندات الخزانة الأمريكية هم حلفاؤها الغربيون؛ اليابان وأوروبا، وهذه المراكز الغربية مع حالة الركود لم يعد لديها فائض من المال لاستثماره في سندات الخزانة الأمريكية، كما أن الصين التي هي في حالة صراع مع الولايات المتحدة خفضت من استثمارها في سندات الخزانة الأمريكية وكذلك الدول الغربية والعربية كما بينا سابقاً.
في هذه الظروف الاقتصادية المأزومة تشتد العدوانية الأمريكية، وبحسب تعبير المحلل السياسي الروسي نازاروف: "تحولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى آكلة للحوم البشر، تأكل حلفاءها، كطريقة وحيدة لتأجيل الانهيار لفترة أطول قليلا، بإغراق العالم المحيط في فوضى دموية، بحيث تهرب رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم إلى الولايات المتحدة، التي لايزال كثيرون يعتبرونها ملاذا آمنا".
لكن هذا هو الآخر مجرد تأجيل، فالولايات المتحدة الأمريكية محكوم عليها بالانهيار، واقتصادها غير قابل للحياة. ومع ذلك، لا يعني ذلك أن الأمر سيكون سهلا على بقية العالم، فالحديث يدور حول انهيار اقتصادي عالمي. إلا أن لدى الولايات المتحدة الأمريكية فرصة للنجاة بتدمير كل مراكز القوة البديلة والاقتصادات الكبيرة، لربما تمنحها هذه المحاولة فرصة لبدء الدورة مرة أخرى. "الولايات المتحدة الأمريكية كلب مسعور، يتعين إطلاق النار عليه، قبل أن يقتل العالم كله!"(12).
فهي مستعدة لزعزعة الاستقرار عالمياً مادام نظام الأحادية القطبية لم يعد في صالحها، ومادامت أزمتها الاقتصادية تكاد تطيح بها، فالحروب العالمية تنقذ الرأسمالية من أزماتها بإعادة الاستقرار إلى السوق العالمية وحل التناقضات الاقتصادية بصورة عنيفة، عبر إزالة الديون بالقسر، وتفجير الفقاقيع المالية وانهيار البورصات وإتلاف واستهلاك فائض البضائع الكاسدة، ووضع اليد على ثروات الشعوب، وتقديم القروض والاستثمار في إعادة الإعمار عالمياً، وتاريخياً ظهرت الولايات المتحدة أقوى اقتصادياً عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، عندما خرج الخصوم والأصدقاء أضعف اقتصادياً مما أتاح لها التوسع الاقتصادي.
من قراءة التطورات الدولية الراهنة التي تتسم بالنزعة العسكرية، فربما يتصور الأمريكيون أنهم قادرون على إشعال حرب كهذه عبر حلفائهم وأتباعهم وبين هذه الدول في النقاط الساخنة من العالم، فيما يظلون في منأى عن التداعيات ويحضرون في الوقت المناسب للحسم وجني الثمار! إلا أن إمكانات ونتائج حدوث ذلك غير مضمونة.
هوامش:
(1) مجلة البحوث والدراسات الإنسانية "التحديات الاستراتيجية التي تواجه الدولار الأمريكي: قراءة تحليلية في حاضر ومستقبل الدولار الأمريكي"، (معزوز لقمان، العدد 9 2014م)، ص176.
(2) بي بي سي، "لماذا تعمدت الصين تخفيض قيمة عملتها؟"، (16 أغسطس 2019م).
(3) روسيا اليوم، "كيف سيكون أداء الاقتصاد العالمي 2022؟ ماذا سيحل بالتضخم؟.. توقعات حديثة من البنك الدولي"، (7 يونيو 2022م).
(4) روسيا اليوم، "خبير: خصوم وحلفاء يتخلصون من سندات الخزانة الأمريكية.. فما السبب؟"، (5 أغسطس 2022م).
(5) بي بي سي عربي، "التضخم: الولايات المتحدة تسجل أعلى معدل منذ 40 عاما مع زيادة أسعار الطاقة والغذاء"، (11 يونيو 2022م).
(6) فرانس 24، "فنزويلا ستبيع النفط بعملات غير الدولار"، (9 سبتمبر 2017م).
(7) روسيا اليوم، "بوتين: العمل جار على إنشاء عملة احتياط دولية على أساس سلة عملات "بريكس" (22 يونيو 2022م).
(8) العين الإخبارية، "قنبلة ديون تهدد اقتصاد العالم.. الأكبر في التاريخ"، (2022/4/19).
(9) الديون العالمية أزمة تتفاقم، مصدر سابق.
(10) روسيا اليوم، "خلافات "سقف الدين" في أمريكا تهدد العالم بكارثة اقتصادية"، (20.09.2021).
(11) فرانس برس "أزمة مالية تاريخية مرتقبة في الولايات المتحدة ووزارة الخزانة تناشد الكونغرس"، (20/9/2021).
(12) ألكسندر نازاروف، روسيا اليوم، "لماذا تشعل الولايات المتحدة الأمريكية النار في العالم الآن؟ (باق من الزمن عام على انهيار أمريكا)"، (2 أغسطس 2022).
المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي