أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

ظهر فيروس كورونا «ديمقراطيا»، في إصابته الجميع من مختلف الطبقات والشعوب، إلا أنه ليس كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، فواقع الحال أن الفيروس أخذ طابع عنصرية الرجل الأبيض تجاه السود في هذا البلد.
يفتك الفيروس بالسود في أمريكا أكثر من نظرائهم البيض، ويُعيد إلى الأذهان سؤال المواطنة في هذا البلد دعي الديمقراطية الذي ينتصب فيه تمثال الحرية. موروث العنصرية الأمريكية تجاه العرق الأسود التي لم تنته حتى الآن، يجعل من السود هم ضحايا كورونا في المقام الأول، ففي الولايات الأمريكية ذات الأغلبية من السكان البيض أغلبية المصابين هم من السود، وفي الولايات ذات الأغلبية من السود همُ غالبية المصابين أيضاً.
العنصرية ليست قائمة في التكوين البيولوجي للإنسان ذي البشرة السوداء تجعله أشد عرضة للمرض، وليست كائنة في تركيبة الفيروس حتى يفضل المواطن من أصول أفريقية ومن المهاجرين، عن البيض ذوي الأصول الأوروبية الأنجلو ساكسونيين الذين ينتمي إليهم ترامب.
العنصرية التي طبعت فيروس كورونا بهذا الطابع الخاص في الولايات المتحدة الأمريكية هي عنصرية السياسة الأمريكية والمجتمع الأمريكي والإرث التاريخي العنصري المستمر حتى اليوم. يتحمل الإنسان الأمريكي من أصول أفريقية نتائج السياسة العنصرية التي تمارس عليه اليوم والتي مورست على آبائه وأجداده، فجعلته اليوم وأولاده أشد عرضة للإصابة بفيروس كورونا.
تداعيات فيروس كورونا ستعمل على فتح ملف العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بلغت أعلى مستوياتها في القرن الواحد والعشرين مع صعود ترامب إلى البيت الأبيض. مدينة «فيرغسون» في ولاية «ميزوري» الأمريكية كانت قد شهدت اضطرابات وأعمال عنف عقب مقتل الشاب ذي الأصول الأفريقية «مايكل براون» في التاسع من أغسطس 2014، وأصبحت المدينة بؤرة لتجدد الجدل حول قضية العنصرية والاختلاف الطبقي والاقتصادي في المجتمع الأمريكي.

وفيات السود الأعلى في أمريكا 
يؤدي وباء كورونا إلى وفيات أكثر في صفوف الأمريكيين السود بشكل غير متكافئ مع نظرائهم من البيض. ومرد هذا الأمر إلى القهر الطبقي الذي يعاني منه السود، متجسداً في انعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية وفرص الحصول على الرعاية الصحية، وهي مشاكل يعاني منها السود في هذا البلد تاريخياً.
في ولاية إيلينوي يمثل السود 14% من السكان، لكنهم 42% من الوفيات، وفي شيكاغو 72% من إجمالي الوفيات من السود، رغم أنهم أقل من ثلث السكان، وهو ما وصفه رئيس بلدية المدينة بتفاوت «مقلق جداً». في ولاية ميشيغان، حيث يبلغ عدد سكان الولاية 14% من السود، شكل الأمريكيون الأفارقة 35% من الإصابات و40% من الوفيات، وبدأت العديد من المدن مثل شيكاغو ونيوأورليانز ولاس فيغاس وولايتي ماريلاند وكارولينا الجنوبية في الكشف عن بيانات الضحايا الذين كان أغلبهم من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية.
موقع «بروبابليكا» الأمريكي، الذي يعرف نفسه بأنه «نافدة أخبار غير ربحية»، نشر مؤخراً تحقيقاً مطولاً تناول فيه واقع تفشي الوباء في مجتمع الأمريكيين من أصل أفريقي في جميع الولايات والمدن الأمريكية، حيث تظهر البيانات المبكرة في هذا التحقيق أن الأمريكيين السود قد مرضوا وتوفوا بسبب فيروس كورونا بمعدل ينذر بالخطر.
وأفاد شهود عيان للموقع بأن بعض السود المصابين بأعراض الفيروس مُنعوا من دخول المشافي وتمت إعادتهم إلى منازلهم وطُلب منهم العلاج الذاتي، وبعضهم توفوا حتى قبل حصولهم على نتائج اختباراتهم، فهناك تأخر في استعادة النتائج في المستشفيات وصلت إلى أسبوعين في بعض المختبرات الخاصة، ما يفسر يسبب عدم ثقة بعض أفراد مجتمع السود بالرعاية التي قد يتلقونها في المستشفيات.
ويتطرق التحقيق إلى قضية الإسكان، وهي مرتبطة بجائحة كورونا. فغالبية المواطنين من أصول أفريقية لا يملكون منازل خاصة بهم، وهم أكثر لجوءاً للاستئجار، مما يضع المستأجرين السود تحت رحمة الملاك الذين يمكنهم طردهم إذا لم يتمكنوا من الدفع خلال الأزمة الاقتصادية والدعوات إلى الحجر المنزلي. وعندما يتعلق الأمر بالتأمين الصحي، فمن المرجح أن يكون السود غير مؤمن عليهم، عكس نظرائهم من الفقراء البيض.
من جانبها أكدت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن وباء كورونا يصيب ويقتل الأمريكيين من أصول أفريقية بمعدل مرتفع مثير للقلق، وفقا لتحليل أجرته الصحيفة على البيانات الأولية من مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.

العنصرية القاتلة مستمرة
شروط الحياة القاسية التي يعيشها السود في المجتمع الأمريكي جعلتهم أكثر عرضة للإصابة بكورونا، وأضعف مقاومة للوباء، بفعل انتشار أمراض الربو والقلب والسكري والبدانة وارتفاع ضغط الدم في أوساطهم، نتيجة للانقسام الطبقي الحاد في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمثل السود فيه الحلقة الأضعف في المجتمع.
«عندي حلم بأنه في يوم من الأيام سيعيش أطفالي الأربعة في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم». هذا الحلم الإنساني للثائر الأمريكي السلمي «مارتن لوثر كينج» لم يتحقق منذ اغتياله في ستينيات القرن الماضي، فمال تزال العنصرية القاتلة قائمة حتى اليوم في الولايات المتحدة.
منظمة «هيومن رايتس ووتش» أشارت إلى الطبيعة العنصرية للولايات المتحدة الأمريكية ضد السود، التي تضاعفت مع مجيء ترامب، فقد وثق التقرير العالمي للعام 2018 الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية بعض ألوان من العذاب والعنصرية تجاه السود، جاء فيه: «تتخلل الفوارق العنصرية كل أجزاء نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة، بما فيها إنفاذ قوانين المخدرات. يشكل السود 13% من السكان و13% من جميع البالغين الذين يتعاطون المخدرات، ولكن 27% من الموقوفين في قضايا متعلقة بالمخدرات. يُسجن السود بنسبة نحو 6 أضعاف البيض.
لا تزال الشرطة تقتل السود بأعداد لا تتناسب مع نصيبهم الإجمالي من عدد السكان. يشكل احتمال قتل السود مرتين ونصف احتمال قتل البيض من قبل الشرطة. يشكل احتمال مقتل أسود غير مسلح 5 أضعاف احتمال مقتل أبيض غير مسلح من قبل الشرطة.
أعربت إدارة ترامب عن تأييدها غير المشروط تقريبا لامتيازات القوات الأمنية، أو تقليص آليات الرقابة الشرطوية أو إزالتها تماما. بدأت وزارة العدل الأمريكية بوقف التحقيقات ورصد إدارات الشرطة المحلية التي تفيد بأن لديها أنماطاً وممارسات مفرطة في القوة وانتهاكات دستورية.
ألغت الإدارة أمرا من إدارة أوباما يحد من حيازة أسلحة عسكرية هجومية من قبل إدارات الشرطة المحلية. في خطاب ألقاه الرئيس ترامب في يوليو/ تموز 2018، شجع عناصر الشرطة على استخدام القوة غير الضرورية ضد المشتبه بهم. قدم الكونغرس «قانون مساندة الأزرق» (في إشارة إلى لون بزات الشرطة) الذي سيقيد بشدة حقوق المدنيين في مقاضاة رجال الشرطة الذين يؤذونهم بصورة غير مشروعة».
ما أوردته منظمة «هيومن رايتس ووتش» لم يشمل كل العنصرية في الولايات المتحدة. الكاتب اA273;يطالي «جوفاني» قام بتحقيق جاد عن العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، محولاً هذه العنصرية إلى بيانات رقمية، استقاها من عدة مصادر أمريكية رسمية، وموثقة لمعرفة الحقيقة، منها مكتب الإحصاء الأمريكي، والمركز الفيدرالي لإحصاءات التعليم، ومكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العدالة، والمركز الفيدرالي لإحصاءات العمل، فكانت النتيجة كما يلي:
«ـ بلغت نسبة الأطفال السود الذين يعيشون في فقر 37% من أطفال أمريكا، ويأتي الأطفال الإسبان في المرتبة الثانية بنسبة 27%، يليهم الأطفال الآسيويون حيث يعيش 11% منهم في فقر، ويأتي قي المؤخرة الأطفال البيض، حيث يعيش 10% فقط منهم في فقر.
ـ يبلغ عدد العاطلين السود عن العمل ضعف عدد العاطلين البيض، وحتى السود الذين يعملون يتقاضون مرتبات وأجوراً أقل مما يتقاضاه البيض بنسبة 20%.
ـ تغلظ العقوبات القضائية التي تصدرها المحاكم الأمريكية ضد السود بنسبة 20%، مقارنة بالأحكام التي تصدر ضد البيض في التهم نفسها.
ـ يتعرض التلاميذ والطلاب السود للفصل من مدارسهم أكثر مما يتعرض الطلاب البيض بـ3 أضعاف.
ـ في مدينة فيرغسون (التي قام فيها أحد رجال البوليس البيض بقتل الشاب مايكل براون الأعزل بـ6 طلقات، منها اثنتان في الرأس) تبلغ نسبة السود 67% من السكان، وفي المقابل 94% من رجال البوليس هم من البيض».

تداعيات كورونا
تداعيات فيروس كورونا ستعمل على فتح ملف العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي بلغت أعلى مستوياتها في القرن الـ21 مع صعود ترامب إلى البيت الأبيض. فحتى الآن ما زال واقع الولايات المتحدة الأمريكية مبهما، إلا أن أعداد المصابين التي تقترب من حاجز المليون إنسان تتضاعف بشكل خطير، في ظل رداءة الخدمات الصحية في الولايات المتحدة ونفاد المخزون الاستراتيجي من المستلزمات والأجهزة الصحية. وفي حال انفتاح الوضع في الولايات المتحدة على احتمالات كارثية فسيكون ملف العنصرية الذي يستهدف السود في المقام الأول ثم يشمل المهاجرين غير الأوربيين والآسيويين، أحد أبرز وأخطر التحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة الأمريكية.

أترك تعليقاً

التعليقات