أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

جندي متوحش يُسدد بندقيته إلى صدر طفل بريء! هذه هي الرواية الدائمة لكل حادثة يظهر فيها طفل مضرج بدمائه في مدينة تعز مناطق المرتزقة. تُحمل قوات الجيش واللجان الشعبية المسؤولية وتصدر ضدهم الأحكام الإعلامية السياسية بدون إجراء أي تحقيقات علمية لا من جهةِ محايدة ولا حتى من أطراف المرتزقة على كثرتهم. ولأن الأسس الموضوعية عادة ما تتنافى مع هذه الرواية يتم اللجوء إلى اختلاق حيثيات متوهمة تخدم هذه الرواية، وأبرزها القول بأن القناص المنسوب للجيش واللجان الشعبية قام بهذه الجريمة المزعومة، لأن الطفل ذنبه الوحيد أنه من أبناء تعز!
مؤخراً ظهرت صور توثق جريمة بشعة وحادثة مؤسفة فيها طفل يسحب طفلة مصابة في رأسها، في شارع يقع بمنطقة الروضة تعز (مناطق سيطرة الطرف الموالي للتحالف الأجنبي). انتشرت الصورة في وسائل التواصل الاجتماعي ومعها تهمة جاهزة ارتقت إلى مستوى الحكم البات بأن "قناص حوثي قام بهذه الجريمة"، مع العلم بأن طلقة القناصة تفجر رأس من تصيبه فيما الطفلة أجريت لها إسعافات أولية ومازالت على قيد الحياة - والحمد لله، والأرجح في مقياس العقل أن ما أصاب الطفلة ليس قناصا مترصداً، بل رصاصة عائدة من السماء من إطلاق الأعيرة النارية في الأعراس أو طائشة من مواجهات المرتزقة فيما بينهم.
معرفة سبب إصابة الطفلة ليس أمراً مستحيلاً، فيُمكن للطبيب الشرعي والخبير العسكري التحقق منها من منطقة دخول الرصاصة ونوعها وعمق المسافة التي دخلت فيه إلى الجمجمة والجهة الجغرافية التي جاءت منها ووضعية الطفلة في الشارع مع استجواب الشهود وبالتالي فتحقيق علمي من هذا النوع يمكن له أن يحدد الجهة المسؤولة عن إصابة هذه الطفلة، لمن كان يريد الحقيقة لا الاستغلال الإعلامي السياسي وتحميل الخصم المسؤولية.

لماذا الأطفال والأبرياء دون العسكريين؟!
لماذا قد يقوم قناص تابع لسلطة صنعاء بقتل طفل أو مدني بريء فيما هذا القناص المُفترض في حالة حرب مع فصائل عسكرية متعددة تابعة للطرف الأخر في مدينة تعز؟! لماذا ينتقي من الشارع الطفل والمدني الأعزل ويترك في الشارع نفسه المركبات العسكرية والمسلحين الخصوم؟! عدم وجود إجابة منطقية لهذا السؤال تدفع إلى إيجاد إجابة عاطفية متوهمة.
ومن يجيب على هذا السؤال في سياق تحميل الجيش واللجان الشعبية المسؤولية طرفان: طرف وسائل إعلام المرتزقة وناشطيهم وهؤلاء لهم سياسة إعلامية محددة مسبقاً تحمل السلطة الوطنية في صنعاء مسؤولية كل سوء يحدث في اليمن، أما الطرف الثاني فهم أناس عاديون معظمهم ليس مشتغلاً في السياسة، واقعون تحت تأثير الخطاب الإعلامي التابع للمرتزقة. هذان الطرفان خطابهما واحد، يلجأ إلى تفسير هذه الجرائم وفق تصورات متوهمة.

التصورات المتوهمة للإجابة على السؤال 
التصور الأول: تم قنص الطفل لأن الطفل من أبناء تعز والقناص حاقد على أبناء تعز.
التصور الثاني: تم قنص الطفل لأن القناص معاد للحياة والجمال وللطابع المدني الثقافي في تعز.
التصور الثالث: تم قنص الطفل لأن الجيش واللجان الشعبية قوات عسكرية لها طبيعة إجرامية.
ثلاثة تصورات تشمل مختلف التصورات والتفسيرات التي تجيب على سؤال: لماذا يقوم قناص الجـــــــيش واللجان الشعبية بقنص طفل أو مدني في شارع من مدينة تعز وترك المسلحين والمركبات العسكرية المعادية؟!
 التصور الأول باطل لأنه يستند على أساس أن قوات الجيش واللجان الشعبية "قوات احتلال مناطقية" قادمة من صعدة وصنعاء وذمار وعمران، تابعة لسُلطة مناطقية، وتحارب على هذا الأساس. وهذا التصور غير واقعي لأن تركيبة قوات الجيش واللجان الشعبية من مختلف المحافظات اليمنية بتنوعها القبلي العرقي المذهبي، ومعظم قوات الجيش واللجان الشعبية في تعز هي من تعز، وهذا الأمر معروف وتثبته صفقات تبادل الأسرى بين الطرفين، فمعظم أسر أفراد الجيش واللجان الشعبية في تعز هم من أبناء تعز. كما أن هذا التصور باطل لأن سلطة صنعاء تحكم مديريات كثيرة من تعز وليس هناك أي جرائم مماثلة، كما لن تحدث أي من عمليات تصفية مناطقية في صنعاء ولا صعدة ولا ذمار ولا عمران، فلا يوجد أي حادث يثبت أن هناك نزعة مناطقية إجرامية تحملها سلطة صنعاء وقواتها العسكرية ضد أبناء تعز.
 التصور الثاني باطل أيضاً لأنه يقوم على أساس أن هناك حروباً حضارية ما بين مدينة تعز الثقافية المتحضرة وما بين صنعاء ومحيطها "المتخلف". وهذا التصور ليس له أساس من الصحة، فلا تعز تحتكر التمدن والثقافة في اليمن، ولا ما سوى تعز غابة متوحشة وجماعات إنسانية متخلفة بدائية أو بدوية لها نزعة مضادة للتمدن والثقافة. وفي الواقع التاريخي نجد أن سحل القتلى والتمثيل بالجثث والقتل والتهجير على أساس مناطقي ومذهبي وسلالي كل هذه الجرائم حدثت حصراً في مدينة تعز عبر المرتزقة ضد من هم من صنعاء وصعدة وذمار ومن هم زيدية أو من أُسر هاشمية كما هو عليه حال الجرائم المرتكبة بحق بيت الرميمة، هذه الجرائم التي تقوم وفق أشكال متخلفة سابقة لمفهوم المواطنة، قامت بها أطراف المرتزقة في تعز. وأنا هنا لا أتهم أهالي تعز بها ولا أثبت هذه النزعات عليهم بل أطراف المرتزقة عملاء العدوان الذين يريدون تمزيق النسيج الاجتماعي اليمني والوحدة الشعبية اليمنية.
التصور الثالث باطل أيضاً، فقوات الجيش واللجان الشعبية التي تقاتل في تعز هي ذاتها التي تقاتل في نجران ومأرب والبيضاء والحديدة وميدي وغيرها من الجبهات، لها ثقافة واحدة وقيادة واحدة، وهذه القوات العسكرية طوال فترة العدوان من 62 مارس 2015 حتى اليوم لم تعدم أسيراً، ولم تسحل جثة ولم تمثل بها، ولم تنهب منزلاً، ولم تقم بأي استهداف مناطقي أو مذهبي، بل على العكس من ذلك تداوي الجريح وتكرم الأسير، وتتيح للمرتزق أن يهرب بلباس امرأة، فلم تهتك حجاباً، ويعيش في مناطق سيطرتها التعزي والعدني والحضرمي، الزيدي والشافعي والإسماعيلي والعلماني، السلفي والصوفي، الجعفري والمؤتمري والاشتراكي والناصري والإصلاحي والحراكي... وهذا الواقع معاش ولا يُمكن إنكاره. هذا الطابع العام في حكم سلطة صنعاء وقواتها في مختلف المناطق والجبهات هو ماثل أيضاً في تعز، فالسلطة ذاتها والقوات ذاتها والثقافة ذاتها.

لماذا نحمل الطرف الآخر المسؤولية؟ 
وعلى النقيض من ذلك فإن التهم بأن الطرف الآخر الذي يقاتل مع التحالف الأجنبي الاستعماري التوسعي هم من يقومون بهذه الجرائم تهم موضوعية، فلدى المرتزقة كل الفائدة من القيام بهذه الجرائم، على عكس الجيش واللجان الشعبية الذين ليس لهم أي فائدة من قنص طفل بريء. كما أن جماعات المرتزقة لها ممارسات شبه يومية تنتمي لهذا الصنف من جرائم قتل المدنيين على عكس قوات الجيش واللجان الشعبية. أما ما يجنيه المرتزقة من هذه الجرائم فهو كالتالي:
الفائدة الأولى: تأجيج العواطف وإثارة العصبيات المناطقية التعزية من أجل تجنيد الشباب على هذا الأساس ومن أجل صياغة حاضنة اجتماعية نابذة للجيش واللجان الشعبية.
الفائدة الثانية: جعل ملف تعز ملفاً سياسياً للطعن في سُلطة صنعاء، وكثيراً ما وقعت جرائم القنص وسقوط القذائف بالتزامن مع جلسات المشاوارات والاجتماعات الأممية المتعلقة بشأن اليمن. وسبق للمرتزقة عبر حكومة هادي رفض وجود لجنة تحقيق محايدة في جرائم الحرب في اليمن عموماً وتشكيل لجنة تحقيق من طرفهم، وهم وتحالف العدوان جزء من الصراع. 
الفائدة الثالثة: إعادة توجيه الرأي العام في مدينة تعز ضد الجيش واللجان الشعبية، كلما تفاقمت جرائم المرتزقة وأصبح هناك ميل اجتماعي وانحياز نحو الجيش واللجان الشعبية، وكلما ترسخ في أذهان الناس تناقض النماذج ما بين واقع الحوبان ووسط المدينة.
الفائدة الرابعة: حرف الرأي العام اليمني عوماً والنشاط الإعلامي عن تقدمات الجيش واللجان الشعبية ضد المرتزقة في محافظات أخرى وعن العمليات الاستراتيجية ضد دول العدوان وفي المناسبات المرتبطة بالصمود وعن جرائم المرتزقة والجماعات الداعشية المتحالفة معهم، فعادة ما تحدث هذه الجرائم في مناسبات كهذه. 
أما الجرائم المماثلة التي تجعل من جماعات المرتزقة مدانة فهي كالتالي:
أولاً: ارتكاب جرائم قتل وتهجير على أساس الهوية المناطقية الأسرية المذهبية.
ثانياً: قتل الأسرى وسحلهم وسلخهم والتمثيل بهم في الشوارع العامة.
ثالثا: الاقتتال وسط المدينة وفي الشوارع والأحياء المدنية وسقوط عدد من المدنيين ضحايا لهذه الاحترابات.
رابعاً: تعدد فصائل المرتزقة وعدم وجود قيادة واحدة وثقافة واحدة تدير حركتهم العسكرية وتضبط سلوكهم.
خامساً: جرائم الاغتصابات بحق الأطفال والنساء وإيجاد الكثير من الجثث لا يُعرف من قام بقتلها.
على هذه الأسس الموضوعية من حيث الفوائد ومن حيث طبيعة المرتزقة فالأقرب إلى المنطق أنهم من يرتبكون هذه الجرائم.

ثوابت مبدئية
كل جريمة من هذه الجرائم مدانة، أياً كان مرتكبها، وهذا ما تجمع عليه الشرائع والقوانين.
تبرئة الجيش واللجان الشعبية من هذه الجرائم من باب أن سلوكهم العام وسلوك سلطة صنعاء وتوجهها العام الراسخ هو نقيض هذه الجرائم، وهذا لا ينفي احتمالات وجود أخطاء عسكرية واختراقات استخباراتية في صفوف قوات الجيش واللجان الشعبية قد تقوم بهذه الجرائم، بالإضافة إلى قيام المرتزقة بهذه الجرائم خدمة لقوى العدوان، فهذا أمر شائع في الحروب، وإن وجدت فستكون محدودة، لأن هناك أمناً وقائياً واستخبارات عسكرية مركزية شديدة الانضباط منتشرة بين قوات الجيش واللجان الشعبية تقوم بمهمة حماية الجيش واللجان الشعبية من الاختراقات.
المطالبة بلجنة تحقيق موحدة محايدة يمنية أو دولية أو لجنة مختلطة يمنية دولية من غير محور العدوان للتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة في مختلف المحافظات اليمنية، مثل هذه اللجنة مطلوبة، وكل مرتكب لجريمة حرب من طرف يمني أو دولي يجب أن يُعاقب ويتحمل المسؤولية، ويجب أن يكون هناك لاحقاً لهذه المرحلة قانون عدالة انتقالية، وهذه قضية مبدئية ثابتة. وهذه اللجنة سبق وقامت الحكومة العميلة برفض تشكيلها واستعاض تحالف العدوان بدلاً عنها بلجنة شكلها من قواته العسكرية وهي طرف في الحرب وغير محايدة.

أترك تعليقاً

التعليقات