حديث الوعّاظ والقفازات المهترئة
 

محمد ناجي أحمد

إذا كان (الرئيس المؤمن) كما كان يحب أن يُنادى (أنور السادات) رئيس جمهورية مصر سابقاً، قد قام بزيارة مفاجئة إلى الكنيست الإسرائيلي، معلناً استعداده للتوقيع على اتفاقية خنوع للكيان الصهيوني، منفرداً عن شركاء حرب 1973م، واستعداده للذهاب إلى أبعد ما يتصوره الإسرائيليون، فإن أدعياء اليسار والقومية في اليمن قد ذهبوا إلى عاصمة الكيان السعودي، لا ليوقعوا على اتفاقية تعترف بهم كطرف، بل ليتحولوا إلى أبواق إعلامية في خدمة هذا الكيان الوظيفي، الذي أسسته بريطانيا بداية عشرينيات القرن العشرين، كي يكون شوكة في خاصرة الوطن العربي، التوّاق حينذاك لدولة عربية واحدة بقيادة الشريف حسين، في ما عرف وقتها بالثورة العربية الكبرى، ابتداء من عام 1918م، رغم الوعود البريطانية الكاذبة بالوقوف مع مشروع الدولة العربية الواحدة، إلاّ أنها وفقا لاتفاقية سايكس بيكو مع فرنسا، كانت قد أضمرت وعدا بتأسيس كيانين هما السعودية وإسرائيل، كسهمين في خاصرة الأمة العربية، وقفاز بيد الغرب يؤديان دور ووظيفة شرطي المنطقة، الذي يعمل على تمزيق الأمة واستمرار الهيمنة الغربية!
حين تحرك محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر، وفق مقتضيات الأمن القومي المصري، ليمدّ نفوذه جنوبا إلى الحجاز وباب المندب والمخا، وشمالاً إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى أبواب الأستانة... تكالب عليه الغرب الرأسمالي في أربعينيات القرن ليحاصروه ويسقطوه أرضاً، بجعله يرضخ لبنود اتفاقية تعيده محجماً في مصر، وتخفيض جيشه ليكون جيشاً للداخل، لا لحماية الأمن القومي، وإغلاق المصانع والمدارس الفنية، وإلغاء الضرائب الجمركية على سلعهم المصدرة إلى مصر، وتحويل مصر إلى زراعة المواد الأولية التي تتطلبها الصناعة الغربية كزراعة القطن! لكن رضوخ باشا مصر للتوقيع والانكفاء نتيجة تكالب بريطانيا وفرنسا وروسيا وتركيا، كان خياراً قهرياً، ومع ذلك لم يذهب إلى الأستانة أو بريطانيا أو فرنسا ليتلو بيان الرضوخ، واكتفى بالحفاظ على قاعدة انطلاقه، أي مصر. لكن السادات فرط في مصر، وجعلها سوقاً مفتوحة ضمن توجهه في السبعينيات نحو اقتصاد السوق، في بلد يستهلك ويفتح أبوابه دون أن تكون هناك ضوابط للصادرات ورسومها الجمركية! بلد مشرع دون هوية تجعله يتماسك! 
لم يذهب الباشا ليتلو بيان الخنوع، كما ذهب السادات إلى الكنيست، بل عقد اتفاقية مع عدوه الغربي مباشرة، ولم يذهب كاليساريين والناصريين إلى الرياض كي يصبح قفازاً بيد آل سعود، بل ظلت الدولة السعودية الأولى تعلن خضوعها وولاءها للباشا رغم انسحابه من الحجاز!
لقد سقط الناصريون في اليمن في مفهومهم للناصرية وفهمهم لكارزمية جمال عبد الناصر، قبل أن يسقطوا بدحرجتهم نحو الرياض!
لا يحتاج زعيم وقائد عروبي تحرري وحدوي كجمال عبدالناصر، أن نلجأ إلى لغة الوعّاظ في الاحتفاء بعيد ميلاده، كأن ننقل على لسان رجل استخبارات أمريكي أن جمال عبد الناصر (بلا رذيلة... فلا خمر ولا نساء ولا رشوة...) لذلك عجزوا عن النيل منه!
ما هي الرذيلة؟
شرب الخمر وحب النساء! وكأن المجتمع الغربي مجتمع للرذيلة، مما يجعل قائل هذه الشهادة من المؤمنين بزوال القادة والأمم نتيجة هذه الرذائل!
الغرب لم يستطع النيل من زعامة جمال عبد الناصر، لأنه جسد مطالب العربي في التحرر، وأسهم في تمتين النسيج والمشاعر العربية، وراكم تاريخاً من الآمال والأعمال التي يطمح لتحقيقها العربي بأمته ووحدته... لأنه حقق الاستقلال السياسي والاقتصادي، نهج طريق الإصلاح والاستصلاح الزراعي والتحول الصناعي، جعل من مصر دولة بحجم الأهداف وغايات الوطن العربي... وظّف الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة، مما جعل من مصر رقماً هاماً في التوازنات الدولية طيلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين...
لم تكن عظمة جمال عبد الناصر لزهده في متع الحياة، فهذه من أخلاقيات النسّاك وقناعات وميول الأفراد... كانت عظمته بتماهيه مع حرية وسيادة هذه الأمة من محيطها الهادر إلى خليجها الثائر، وليس الخانع والتابع، والعمل على استقلال وتراكم مقدراتها وسيادة قرارها!
عظمة عبد الناصر في دوره التحرري والبناء العروبي في مصر وسوريا وفلسطين والعراق واليمن والجزائر وتونس وليبيا والجزيرة العربية، في مواجهته للرجعية العربية في الحجاز والأردن والمغرب... في دعمه لحركات التحرر الأفريقي والآسيوي وأمريكا اللاتينية... في إيمانه بحرية الإنسان، ورفضه لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان...
دون ذلك هو حديث الوعّاظ والنساك والقصاصين ودراويش الأضرحة الذين انتهى بهم المطاف سقوطاً في أحضان الكيان السعودي!

أترك تعليقاً

التعليقات