ذاكرة المرايا وغربة الذات 2-2
 

محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

في كتابه (مرايا الأزمنة) تنساب المدن بلغة متخففة من التصنع، هامسة تتشكل ذاكرة أنور العنسي الشاعر والإعلامي في (مرايا) تلتقط الانطباعات عن الجغرافيات والشعوب، المدن والوجوه، السلام وبعض من الدمار.
لغة الكتاب الهامسة في قراءة المدن والناس، نثرا وشعرا وانعكاساً بصريا، مع قدر من الولوج إلى غير المرئي المنغمس بانتمائه القروي يظل في غربة وبحث دائم عن ذاته في المدن فيزداد شتاتا «بالفعل لقد كنت أبحث عني هنا وهناك في مدن شتى في كل جهات وحضارات الأرض، سكنني بعض تلك المدن، لكنني لم أجد نفسي يوما لأعيش وأستمتع بفلسفة العيش في أي منها مثلما يحدث لي في لاهاي». هنا كانت لاهاي شبيهته، في غربة اليابسة المحاصرة بالبحار.
يذكر المؤلف في مراياه أن الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، حين كان حاكما لذمار في عهد الإمام أحمد، كان جارهم في السكن، ولا ينسى أن يربط بين سفره إلى الكويت وعمره تسعة عشر عاما، ولم ينته بعد من الثانوية العامة وبين مقتل الحمدي 11 أكتوبر 1977م، كان وقتها قد التحق بالعمل مذيعا في التلفزيون بصنعاء. وهنا يمكننا أن نفهم هذا الربط كما فهمنا انتماءه للحزب الديمقراطي الثوري؛ أي إعطاء انطباع بيساريته...
يصف صاحب (المرايا) الرئيس علي عبد الله صالح بالديكتاتور، ويماثله بصدام حسين، وهذا التوصيف -من وجهة نظري- نوع من التبييض السياسي لإعلامي يقدم نفسه بسيرة مختلفة عما كانت عليه في قربها المتين من نظام الرئيس علي عبد الله صالح في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، بل إن دوره الإعلامي في حرب 1994م، في الترويج والحرب النفسية، وبث الإشاعات عن دموية الطرف الذي يمثله نائب الرئيس علي سالم البيض، كان دورا معلوما. ومن ذلك المقابلات المفبركة والمختلقة مع من قدمهم تلفزيون الفضائية بصنعاء على أنه تم تعذيبهم وإدخال قوارير المشروبات الغازية في أدبارهم! ويومها ظهر أنور العنسي بمقابلات مع بعض الأسرى، وكأنه يستخدم العنف معهم أثناء التحقيق الصحفي المتلفز والممنتج معهم، ومع ذلك كان يبدو الترهيب مع أولئك الأسرى!
تتراءى عدن في (مرايا) العنسي بالجهة العدنية للمباني اليمنية، وفي اليسار والساحل وخليط السكان من يمنيين وانجليز وصومال وهنود، وسينما وجرائد وموسيقى: «لم أعش كثيرا في عدن غير أن هذه المدينة سكنت مبكرا في داخلي وأقامت ملكوتها ولا تزال تكتب أساطيرها في مناخات روحي» (ص43).
يتكرر المتخيل المزعوم بيساريته، لكنه حين شاهد عدن بفقرها وتخلفها عاد له الوعي ببؤس الواقع ووهم المثال: «منذ ذلك اليوم أدركت أنني بقيت طويلا فتى يساريا مخدوعا بجنة الاشتراكية في عدن» (ص44).
تجيء السنون
وتذهب 
وأمضي إليها 
أفتش في عدن عن عدن
وبين البريقا وبحر العرب
أسأل عني وعنها البلاد
بلادي التي ضيعتني 
وضاعت
وكل الرفاق الذين
على راحتيها استراحوا
ثم راحوا 
يبيعون في مدن النفط أسماءهم
ومن عدن إلى حضرموت تواصل المرايا سياحتها عبر الأزمنة، قارئة جماليات المكان الشبامي، بمبانيها الطينية ذات الطوابق العديد، بعضها ستة طوابق وبعضها تسعة. بناء بيوت الطين المرتفعة، بمعايير ودرجات تهوية تلائم الصيف والشتاء، وبزوايا ومداخل ومخارج تجعل البيوت المتلاصقة كأنها بيت واحد «فكل البيوت متصل ببعضه ولها مداخل خاصة متعددة بين جميع البيوت» (ص50). «هي شبام وحضرموت كلها لا شيء فاتن أكثر من ذلك السحر الذي يشع من تلك العيون الموشاة بكحل الأحلام وببرق الحكايات الحضرمية، تلك الحكايات التي لا تقال حتى حين تُقال» (ص51).
لا تستمر التخيلات اليسارية المزعومة لدى صاحب (المرايا)، فمصر أرسلت جيشها ليضحي بعشرات الآلاف في جبال اليمن ووديانها في حرب لم تكن ضرورية، وهي التي غزت طفولته بـ «ما هو أكبر من جيشها الذي جاء لنصرة الثورة اليمنية في ستينيات قرن مضى، وضحى بالآلاف من رجاله في حرب لم تكن من وجهة نظر عديدين ضرورية لو أن جمال عبد الناصر اكتفى بمد اليمن بالمال والسلاح». وكأن مصر عبد الناصر لم تكن تفقه ذلك، ولم ترسل في البداية السلاح متصورة أن الثورة في اليمن ستحسم بكتيبة وسلاح يمد بها الثوار، فإذا بها تفاجأ أن الحرب في اليمن حرب مع الرجعية العربية والاستعمار، وليست حربا لإسقاط نظام المملكة المتوكلية! حربا أريد لها أن تكون مستنقعا لهزيمة مصر والقومية العربية في جبال ووديان وصحارى وبحار اليمن!
تتساءل (المرايا) عن سبب حميمية الكويت والكويتيين نحو اليمن طيلة عقود عديدة مضت، ثم يجد تفسير ذلك في موقف الإمام أحمد ورفضه الاعتراف بالكويت دولة مستقلة، فهو ـ أي الإمام -يرى الكويت جزءا من العراق، كما يرى جنوب اليمن المحتل جزءا من اليمن.
حين أصبحت الكويت دولة مستقلة، أرسل أميرها عبد الله الثالث السالم الصباح حينذاك مبعوثا إلى الإمام أحمد برسالة تعرض فيها الكويت تمويل عدد من المشاريع التنموية التي يحتاجها اليمن، لكن الإمام استنكف أن يتلقى المساعدة من دولة ناشئة، فلم يكلف نفسه عناء الرد برسالة مماثلة، وكان جوابه مجرد سؤال مهين قصير، خطه أعلى رسالة أمير الكويت جاء فيه: «حياكم الله، منذ متى كنتم دولة؟!» (ص71). ولهذا السبب يرى المؤلف اندفاع الكويت لدعم اليمن الجمهوري بالمشاريع التعليمية والصحية الخ، إلاَّ أن موقف الكويت تغير بعد عام 1990م. «من سوء الحظ أن كل شيء تغير بعد ذلك، فعندما اعتقدت الكويت أن الديكتاتور اليمني السابق علي عبد الله صالح غدر بها بوقوفه إلى جانب ديكتاتور العراق الراحل صدام حسين بعد غزوه الكويت 1990م، فقد اعتبر الكويتيون أن جرحهم اليمني كما جرحهم العراقي يحتاج إلى زمن طويل وعمل كثير لمداواته!!» (ص71).
المفارقة العجيبة، أن يصدر هذا التوصيف ممن كان له حظوة واسعة لدى الرئيس على عبد الله صالح، وحظوة لدى نظام صدام حسين! لكنها مهازل التاريخ، و(مرايا الأزمنة)!
هي المدن تتكشف للقارئ في هذه المرايا حيوات عديدة، وسمات وخصائص مميزة لكل مدينة يرتحل إليها غريب المدينة والمدن، قارئا لبعض خصائصها البارزة، من شاي المغرب إلى صبر أبناء السودان ولازمتهم (الدنيا دايرة صبر) إلى ياسمين تونس وتوجس الأثيوبي من اليمن الذي ينازعه التاريخ وملكة اسمها بلقيس، وحضارة سبأ. و(أكسوم) التي يوحي كل شيء فيها «أن نصفه الآخر هناك في اليمن» (ص106). من أسماء الأمكنة إلى أحرف اللغة الأمهرية المتماثلة مع خط المسند في نقوش اليمن القديم إلى (هرر) خليط القوميات والأجناس والأديان. تلك العاصمة التاريخية لأقدم مملكة إسلامية في أثيوبيا. عاش فيها الشاعر الفرنسي رامبو ما يزيد على عشر سنوات، وابتنى لنفسه فيها منزلا جميلا، (هرر) القات، والضباع، التي تجيء من مخابئها إلى أطراف المدينة، وامتزاج روائح الحنطة بفلافل الهند وعطورات المشرق، والتعصب العرقي للهوية...
هكذا هي (مرايا) المؤلف، منبع يفور مدنا من اللغة، فهذه كينيا بفساد مؤسساتها ولصوصها وروعة مناخها، وهذه نيروبي، وتلك «مربعات الموت في مقديشو» وشواطئها التي تستقبل المدى الواسع للمحيط الهندي. وهذه جيبوتي، الجغرافية التي ليس فيها زرع ولا ثمر ولا معادن، وإنما قواعد عسكرية للفرنسيين والأمريكيين وأخيرا الصين. وخليط عجيب من البشر «هنود ويمنيون وصوماليون وغيرهم امتزجوا في هذه الأرض. جغرافية تعيش على استثمار موقعها الجيوسياسي».
وتستمر (المرايا) في رحلتها المكانية شعرا ونثرا، مارة بطوكيو بما يعمق من غربة الرائي «وحيدا في أقاصي الأرض» (ص131). ومن طوكيو المزروعة. بمئات الأبنية الزجاجية والمعدنية العالية، وحدائقها الساحرة، وازدواج الشخصية «المطرقة والوردة» أو الورشة والبستان. (ص133)، إلى نيويورك علامة التفوق الأمريكي ومركز التجارة العالمي «رمز كبرياء أمريكا وعقلها المالي والاقتصادي الجبار» (ص139).نيويورك «عاصمة الثروة والفقر، صانعة التخمة والجوع، ومدينة المليارديرات والصعاليك» (ص140).
وفي أوروبا تتحرك (المرايا) مصورة باريس الحي اللاتيني، باريس المتخيلة سرديا، وباريس نهر السين والمتاحف والقصور والمسلات المنهوبة من مصر والمزرعة في غير أرضها، والأبنية القديمة والشوارع المزدحمة ببشر ذوي ملابس متنوعة الألوان وروائح عطر مختلف النكهات، إنها «الغواية ذاتها تسير على قدمين في هذه المدينة». (ص146).
ولأن (المرايا) تلتقط الصورة من زوايا مختلفة، فإن «لكل مدينة وجهها الآخر الذي لا ينكشف نهارا إلاَّ في شوارعها الخلفية، لكنه قد يظهر جليا في الساعات المتأخرة من الليل في كل أرجاء المدينة» (ص149).
وها هي روما «فاصل بين تاريخين وعالمين.. تاريخ العالم بأسره، وتاريخي وعالمي الشخصي أيضا» (ص152).
لا تتوقف (المرايا) في أثينا فقط، بل وفي قبرص، وانقسام هويتها بين اليونان والأتراك، والخط المرسوم على الإسفلت كانعكاس لانقسام مدينة بين هويتين!
ومن قبرص إلى ميونخ في ألمانيا، وأشباه اليمنيين «البافاريون هنا يشبهون اليمنيين وبعض العرب» (ص164).
ورحلة الصحفيين والكتاب اليمنيين إلى خمس مدن ألمانية، وتهريج مسرحي يجيده عز الدين سعيد وهو يتحدث للألمان عن وجود متحف في اليمن للشاعر الشعبي اليمني (علي ولد زايد) في مدينة الجراحي، مماثل لمنزل الأديب والكاتب المسرحي برتولت بريخت في أوجسبورج، لينتزع ابتسامة فكهة من ألماني يعرف اليمن، ويضحك من هذه المفارقة التي اختلقها صحفي يجيد نسج الحكايات السمجة، ولو على بلاده!
ومن ألمانيا إلى (قرطبة وآلام التاريخ) والبكاء على ملك توارى وتسرب من بين لهو وشهوات العرب واستمتاعهم ببهجة الأندلس وغابوا في نعيمها. لتبقى زفرة أبي عبد الله الأخيرة، معبرة عن هذا الشجن الحزين، لفقدان غنيمة سيف ظلت لقرون ثمانية، وتسربت من بين مخادع أمراء الطوائف في لحظات، تاركة سيلا من اللامنتمين، المرميين خارج الهويات، داخل محاكم التفتيش عن الضمير والمعتقد والانتماء!
لم تنته (المرايا) من التقاطها لملامح المدن من زوايا ومنظورات مختلفة، فهذه لاهاي (زنبقة البحر) وإخلاص وتفاني الهولندي في عمله ومهنته. وهذه ليفربول (ضمير الدنيا الجريح) وآلام المهاجر اليمني، ومعركة الاندماج، وتأكيد الحضور في المجتمع البريطاني، دون التنازل عن ذاتها وهوياتها الأصلية! إلى (أيام مانشستر) وجدار عنصريتها العالي «يفصل قطاعا من مجتمعها الانجليزي عن تلك المجموعات العرقية الملونة» (ص184).
إلى منتهى (المرايا) وأزمنتها في لندن (الكبرى) وأسئلة الذات وصراع الهوية.
هي حكايا الأرصفة، وغربة الأزمنة، وسُمّ الحنين، ونار الغياب، يختزلها شعرا في قوله:
كل يوم 
أذرع ذات الطريق 
أوزع عمري على الأرصفة 
أبيع الحكايا
وأمضي إلى زمن ليس لي
هو حزن الغريب وازدواجية الذات المغتربة، أراد المؤلف بـ(مرايا الأزمنة) أن يواريه بالهروب من مدينة لأخرى، لكنه خط ملامحه وترك أثره في كل زاوية، وفي كل ضوء وعتمة، ليبقى وحيدا يلازمه الحزن والظل:
يا لحزني وحيد 
ليس لي غير ظلي 
فأبكي 
وأبكي 
وتبكي نوافير لندن 
مثلي
نبع حزن أو نافورة اغتراب الظل عن ضوئه، وأزمنة من الوحدة الهاربة إلى أحضان المدن، علها تجد ذاتها، لكن الذات تحتاج إلى رحلة داخلية نحو الروح وفضاءاتها، لا إلى مدن اتسع فيها الحزن بأوسع مما كان، وصارت الضياع متعدد (المرايا والأزمنة). 

*(مرايا الأزمنة) الصادر عن 
دائرة الثقافة والإعلام - الشارقة 2016م  

أترك تعليقاً

التعليقات