محمد ناجي أحمد

في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) يقارن عبد الرحمن الكواكبي بين المجتمع الغربي الذي استفاد من الحضارة الشرقية، ليحدث تطوره السياسي، وبين المجتمع الشرقي الذي انقطع عن مساره الحضاري، لينحط ويسقط في (طبائع الاستبداد)، فالشرق والغرب هنا سياق وتحولات تاريخية اجتماعية واقتصادية وثقافية، وليست جهات جغرافية لا تلتقي بحسب مقولة (الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان).
(الغربي: مادي الحياة، قوي النفس، شديد المعاملة، حريص على الانتقام، كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق. فالجرماني مثلاً: جاف الطبع، يرى أن العضو الضعيف من البشر يستحق الموت، ويرى كل فضيلة في القوة، وكل القوة في المال، فهو يحب العلم، ولكن لأجل المال، ويحب المجد، ولكن لأجل المال، وهذا اللاتيني مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الإطلاق، والحياة في خلع الحياء، والشرف في الترف، والكياسة في الكسب، والعز في الغلبة، واللذة في المائدة والفراش).
وأما أهل الشرق فهم عاطفيون، يغلب عليهم ضعف القلب وسلطان الحب، والإصغاء للوجدان، والميل للرحمة في غير موقعها، واللطف ولو مع الخصم، ويرون العزَّ في الفتوة والمروءة، والغنى في القناعة والفضيلة، والراحة في الأنس والسكينة، واللذة في الكرم والتحبب، وهم يغضبون، ولكن للدين فقط، ويغارون، ولكن على العرض فقط). وهو لا يستطيع تقليد الغربي ولو تكلف ذلك، واهتمامه بظالمه ينحصر بالشخص الظالم لا باجتثاث الظلم من جذوره ومسبباته. ولهذا يُسقط ظالماً ليقع في حبائل ظالم آخر (فيعيد الكرة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية).
ويستمر الكواكبي في عرض الفروق بين الشرقيين والغربيين، فالشرقي فردي، والغربي اجتماعي وجماعي (وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي)، فالغربي يستحلف أميره على الالتزام بالقانون والصدق في خدمة الناس، والشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة!
الغربيون يمنون على ملوكهم بما ينفقونه عليهم، والشرقيون حكامهم يتكرمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات.
الغربي له حقوق واجبة على أميره، والشرقي أميره له على الرعية حقوق وليس لهم عليه واجبات. الغربي يضع قانوناً لأميره، يلزمه اتباعه، والشرقي يسير وفق مشيئة أميره. الشرقي ينطلق من يقينيات، والغربي من فلسفة الشك. الغربي غيرته على حريته واستقلاله، والشرقي غيرته على العرض والفرج (وكأن شرفه كله مستودع فيها). الشرقي حريص على قشور وشكليات الدين والرياء فيه، والغربي حريص على أسباب القوة والمتعة واستجلاب المزيد منها (والخلاصة أن الشرقي ابن الماضي والخيال، والغربي ابن المستقبل والحد!).
هو مسار زمني تاريخي تتابعي، يفصل بين الشرقي والغربي (فالحكماء المتأخرون الغربيون ساعدتهم ظروف الزمان والمكان، وخصوصية الأحوال لاختصار الطريق فسلكوه، واستباحوا ما استباحوا، حتى إنهم استباحوا في التمهيد السياسي تشجيع أعوان المستبد على تشديد وطأة الظلم والاعتساف بقصد تعميم الحقد علي
 وبمثل هذه التدابير القاسية نالوا المراد أو بعضه، من تحرير الأفكار وتهذيب الأخلاق وجعل الإنسان إنساناً).
والفرنسيون مؤسسو جمهورية الفرنسيس نقحوا دينهم وجددوه (وجعلوه صالحاً لتجديد أخلاق الأمة)، فما أحوج المسلمين والشرقيين عامة إلى تجديد الدين، ما أحوجهم (إلى حكماء لايبالون بغوغاء العلماء المرائين الأغبياء، والرؤساء القساة الجهلاء) يجددون الدين (من حيث تمليك الإرادة ورفع البلادة من كل ما يشين، المخفف شقاء الاستبداد والاستعباد، المبصر بطرائق التعليم والتعلم الصحيحين).
فالأمم المنحطة تحصر أسباب انحطاطها بالتهاون بأمور دينها (حتى صارت لاتعرف للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدهما المشروع أضرُّ على الأمة من نقصهما)، فالناس لا يحفلون بالدين إلاَّ إذا وافق أغراضهم، ولذلك (ما أجدر الأمم المنحطة أن تلتمس دواءها من طريق إحياء العلم وإحياء الهمة مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه).
رقي الغربي على الشرقي سببه العلم والثروة والمتعة، ولهذا يضغط على الشرقي ليبقى (وراءه شوطاً كبيراً... وكذلك شأن كل مستعمر).
لقد مضى على الهولنديين في الهند وجزرها زمن طويل، ولم يخدموا العلم والعمران هناك، وكذلك صنع الفرنسيون في الجزائر (ولم يسمحوا بعد لأهلها بجريدة واحدة تقرأ. نرى الإنكليز في بلادنا يُفضل قديد بلاده، وسمك بحاره، على طري لحمنا وسمكنا).
إنه (الدهر) الذي غير طباع الشرقي بعد أن كانت أرضه (منبت العلم والعرفان) ومصدر الأنوار ومهبط الحكمة والأديان. والسبب في ذلك عند الكواكبي هو (الاستبداد) لا الطباع والجهات (وقاتل الله الاستبداد، بل لعن الله الاستبداد، المانع من الترقي في الحياة، المنحط بالأمم إلى أسفل الدركات. ألا بعداً للظالمين).
التاريخ الطبيعي أعظم مدرسة، والاستقراء أقوى برهان في ترقي الانسان -بحسب الكواكبي - من مرحلة التوحش (دور الافتراس) إلى الحالة البدوية (دور الاقتناء) والتملك والزراعة، ثم التصرف في المادة والصناعات والحرف.
الاستبداد لدى الشرقي سببه (الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة، معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم)، فإن من طبيعة احتكار القوة الاعتساف (ولأن القوة لا تقابل إلاّ بالقوة).
ولهذا يدعو الكواكبي إلى عدة مباحث لنهضة الأمة، ابتداء من مبحث: الأمة أي الشعب، والحكومة والحقوق العامة والمساواة في الحقوق واحترام وتقديس الحقوق الشخصية، ونوعية الحكومة التي يجب أن تكون مقيدة، ورئاسة انتخابية مؤقتة إلى أجل، ويجب أن تكون وظائف الحكومة مقيدة بقانون موافق لرغبات الأمة، والحكومة لا تتصرف بالثروة إلا وفقاً لمشيئة الأمة المنوطة بذلك. وصولاً إلى إرادة الأمة التي تترجمها الحكومة، فالأمة من تقرر النفقات اللازمة، وتعين موارد المال وطرق جبايته وإنفاقه، ويجب أن يكون الجيش منفذاً لرغبة الأمة (تكون القوة منفذة رغبة الأمة لا رغبة الحكومة)، وللأمة حق مراقبة الحكومة، والسيطرة عليها ومساءلتها، وواجب الحكومة حفظ مصالح الناس، وتنحصر السلطة بالقانون. والعدل هو ما يراه القضاء المصون (المتحرر من ضغط حتى ضغط الرأي العام). 
ويستمر الكواكبي في سرد مباحث نهوض الأمة وتحررها من الاستبداد، وذلك في بداية القرن العشرين (1902م): في توزيع الوظائف على الناس لا على القرابة والعشيرة. وضرورة التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم، والترقي في العلوم والمعارف والتوسع في الزراعة والصناعة والتجارة، والسعي في العمران، وأن رفع الاستبداد مناط بعقلاء الأمة وسراتها، حتى لا يترك مجالاً لعودته.
هي 25 مبحثاً يسردها الكواكبي في غرة القرن العشرين، ويوجهها (تذكرة للكتاب ذوي الألباب، وتنشيطاً للنجباء على الخوض فيها بترتيب).

أترك تعليقاً

التعليقات