محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد

الوحدة تعبير عن تطور في مسار المجتمعات، وانتقال من (سيادة العلاقات القبلية والصراعات الدموية بين القبائل شبه المستقرة، لم يكن ممكناً وجود وحدة بينها، وقيام دولة توحد أقاليمها غير المحددة المعالم، وتضع حداً لقانون الثأر والثأر المضاد الذي يسود بينها)، بحسب الدكتور محمد علي الشهاري في كتابه (جدل حول الثورة والوحدة اليمنية ودور عبد الله باذيب) الصادر عن مكتبة مدبولي، 1990م ص12. وإذا كان الاستعمار قد اتبع سياسة التفريق كي يسود، ثم سياسة التجميع ومعالجة الثارات كي يسود أيضاً، ثم قامت الجبهة القومية، والتنظيم السياسي الموحد والحزب الاشتراكي، بمعالجة جذرية للثارات القبيلة، ومحو الأمية من خلال إنشاء مدارس البدو، وصهر الجميع في إطار الدولة، إلاّ أن العلاقة بين شطري اليمن شمالاً وجنوباً ظلت في صراع  مبنية 
على الثأر والثأر المضاد، بلافتات أيديولوجية، تواري التخلف الاجتماعي، وتعكس قشور الحداثة باسم (الله) وباسم (الاشتراكية العلمية) بدعاوى التقدمية ودعاوى (الرجعية) في مجتمع متماثل ثقافياً واقتصادياً وفي أنساقه الاجتماعية المتخلفة.
عبَّرت الحركة الوطنية بفصائلها القومية واليسارية عن مطلب الوحدة اليمنية، وقرنته بمطلب التحرر والديمقراطية (وكانت صياغة عبد الله باذيب، وبلورته لها في شعاره المعروف (نحو يمن حر ديمقراطي موحد)، هي أقوى وأرصن الصياغات المعبرة عن رؤية الطبقة العاملة تجاهها) (المرجع السابق، ص17].
لقد أصبح جلياً أمام الحركة الوطنية أن توحيد اليمن مرتبط بالتحرر من الاستعمار والاستبداد، وعلى ذلك كان نضال ونهج الحركة الوطنية منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين (وإنما غدت قضية الحركة الوطنية منذ ميلادها في منتصف الخمسينيات، وقضية الطبقة العاملة التي رفعت لواءها، وهتفت بشعاراتها، وسكبت من أجلها دماءها، قرنتها بشعارات التحرر الوطني من الاستعمار، والتحرر السياسي والاجتماعي من الاستبداد والإقطاع والبرجوازية الطفيلية الضالعة مع المستعمر) [المرجع السابق، ص18-19].
لم تطرح قضية الوحدة اليمنية لدى الحركة الوطنية اليسارية (باعتبارها قضية وطنية فقط، وإنما أيضاً قضية اجتماعية، من حيث إن تحقيقها لن يتم بعملية جمع حسابية، وإنما بعملية طرح حسابية، تستبعد القوى الاجتماعية والسياسية التي تتناقض مصالحها مع إقامة دولة يمنية وطنية ديمقراطية موحدة متحررة) [المرجع السابق، ص22].
كانت الوحدة اليمنية كقضية تحرر وطني، والقضية الاجتماعية متلازمتين وحاضرتين بوعي في ميثاق الجبهة القومية، الذي أقره المؤتمر الأول للجبهة القومية المنعقد في تعز ما بين 22 و25 يونيو 1965م (والذي مثل أول وثيقة برنامجية معلنة، يتضح جلياً هذا الحس النضالي المعادي ليس للاستعمار فحسب، وإنما أيضاً للإقطاع والبرجوازية، والنابض بقيم الثورة الوطنية والثورة الاجتماعية، إلى حد الحديث عما سماه (الاشتراكية الثورية)، بحسب تعبير الشهاري في كتابه سابق الذكر، ص22. فالميثاق الوطني للجبهة القومية يؤكد أن إعادة وحدة شعبنا العربي في إقليم اليمن شماله وجنوبه، سير نحو وحدة عربية متحررة، مطلب شعبي وضرورة تفرضها متطلبات الثورة، ويجب أن تتم على أسس شعبية وسلمية. والبيان السياسي الصادر عن القيادة العامة المنتخبة في مؤتمر الجبهة القومية الرابع في زنجبار، بتاريخ 9 مارس 1968م، نص على أنه (بالرغم من أننا حققنا طرد المستعمر، والقضاء على النظام السلاطيني شبه الإقطاعي في جمهوريتنا، إلاَّ أنه يجب ألاّ يغرب عن بالنا أن تحررنا الوطني لن يتحقق بشكله السليم إلاَّ بانتصار ثورتنا في الشمال، وتحقيق وحدة الإقليم اليمني ليتحمل مسؤوليته التاريخية تجاه الخليج العربي، وعموم الجزيرة العربية، في القضاء على الامبريالية العالمية والرجعية) [المرجع السابق، ص24، نقلاً عن كتاب (أزمة الثورة في الجنوب اليمني)، نايف حواتمة].
ومما أضافه المؤتمر التوحيدي للتنظيم السياسي –الجبهة القومية، في تقريره السياسي عام 1975م، هو تأكيده على (أن الوحدة اليمنية هي التعبير الأمين والصادق للمصالح المادية والروحية لأوسع جماهير شعبنا اليمني. إنها التعبير الصادق والأمين لمبادئ وأهداف مواصلة العمل الدؤوب لتوفير الأجواء الصحيحة لتحقيقها بواسطة الطرق السلمية، وبمضامين وطنية ديمقراطية) [جدل حول الثورة والوحدة اليمنية، محمد على الشهاري، ص26].
كل ثوري حقيقي لا يقف على النقيض من قضية الوحدة، كونها في جوهرها قضية ثورية تحررية ديمقراطية. وكل أدبيات الجبهة القومية والتنظيم السياسي الموحد والحزب الاشتراكي اليمني ظلت تراكم من بصر وبصيرة الثورة والوحدة (ولأن قضية الوحدة اليمنية جزء لا يتجزأ من قضية الثورة اليمنية المعاصرة، فإن صدق المؤمنين بها يتجلى في مدى التحامهم بهذه القضية الأعم، وفي مدى وقوفهم إلى جانب المناضلين الثوريين قولاً وعملاً) [جدل حول الثورة والوحدة، ص13]. فالوحدة ظلت (أمانة ومسؤولية الحزب الاشتراكي) في ترابطها العضوي مع الجماهير الشعبية وبينها وبين الديمقراطية والتقدم الاجتماعي.
سعى الحزب الاشتراكي كي تكون الوحدة اليمنية وحدة شعبية متينة وصلبة، رافضا للطرق (التي تؤدي إلى تعزيز مواقع القوى الرجعية، على حساب تضحيات الشعب اليمني ومنجزاته) [المرجع السابق، ص28].
يمكننا أن نصف الحكم المتوكلي بالعاجز عن تحقيق منجز الوحدة اليمنية، إزاء خصوم وتحديات تمثلت بالسعودية والاستعمار البريطاني، ورضوخه لمطالبهم في اتفاقية الطائف بعد حرب شنها الطرفان السعودي والبريطاني بغرض تركيع المملكة المتوكلية اليمنية، وإجبارها على توقيع اتفاقية 1934م معهما، إلاَّ أن الموقف من وحدة اليمن الطبيعية ظل ثابتاً، واستمر التعبير عنه رسمياً بعد تلك الهزيمة، والتوقيع على اتفاقية الطائف مع السعودية لمدة 20 عاماً، ومع الاستعمار البريطاني لمدة 40 عاماً. فقد رفض مندوب المملكة المتوكلية في الجامعة العربية واعترض (على محاولات سلطان لحج الانضمام إلى الجامعة، على اعتبار أن الجنوب اليمني كله جزء لا يتجزأ من اليمن، كما كان يعترض على محاولات رابطة أبناء الجنوب تمثيل هذا الجزء من اليمن في المؤتمر الآسيوي –الأفريقي لذات الحجة) [المرجع السابق، ص43]. إضافة إلى بعض الدعم الذي كان يقدمه الإمام لبعض القوى القبلية المتمردة على الحكم البريطاني...
إن التحولات التاريخية، ومنها مطالب الشعوب، تتحقق وتظهر إلى حيز الوجود حين تتوفر الشروط المادية لتحقيقها، وأزعم أن وحدة 22 مايو كانت نتيجة لتلك الشروط الموضوعية، وذلك المسار الثوري نحو الوحدة، الذي حملته على أكتفاها الحركة الوطنية اليمنية.

أترك تعليقاً

التعليقات