حتمية التغيير في السعودية
 

محمد ناجي أحمد

لم تعد مقولة عبد العزيز بن سعود للسفير الأمريكي (سنستخدم حديدكم لكن اتركوا إيماننا بحاله)، صالحة في طبيعة العلاقة بين السعودية وأمريكا، فالتغيير ينبغي أن يشمل إعادة بناء المناهج الدراسية، بما يساعد الغرب في تفكيك التعصب الديني الذي كان يستخدمه في مواجهة القومية العربية، والشيوعية، وكذلك بما يساعد الكيان السعودي في التحرر من عبء الوهابية التي استخدمها في تأسيس المملكة، وفي حروب الوكالة ضد القوميين والشيوعيين.
إشكالية التغيير في توجه الحكم السعودي يفرض الانتقال من سياسة التوازن بين علمانية السياسة ووهابية المجتمع العشائري.
يحتاج النظام السعودي إلى تجديد بناء ومسار المملكة، لهذا يأتي تغيير لائحة الأسرة المالكة، وتشبيب الحكم بانتقال الملك من الأب إلى الابن، كي يفي بمتطلبات بقاء المملكة واستمراريتها من خلال إعادة البناء في منظومة الحكم، مما يكفل مشاركة سياسية نسبية، مستفيدة من ذبول المجتمع العشائري، والسيطرة المذهبية خلال العقود المنصرمة، بسبب كمية التعليم الدنيوي، الذي تلقاه الآلاف من أبناء الأسرة الحاكمة ومن أبناء آل الشيخ، فكل أبناء الأسرة الحاكمة، وجل أبناء آل الشيخ تلقوا تعليماً بعيداً عن التعليم المذهبي التقليدي. وتفكك عرى المجتمع العشائري بدمج البدو في الدولة، ومنحهم الأراضي الزراعية، وضمهم للحرس الوطني، كل ذلك يساعد على التغيير.
كانت المعارضة في السعودية طيلة العقود الماضية ضعيفة وهشة، سواء أكانت معارضة خرجت من معطف الأسرة الحاكمة في الستينيات، الذين أسسوا مع ضباط في القوات الجوية (الأمراء الأحرار) أسوة بـ(الضباط الأحرار) في مصر واليمن والسودان إلخ، والذين طالبوا بملكية دستورية، وكان على رأسهم الأمير طلال بن عبد العزيز، الذي عاد بعد ذلك إلى حظيرة الملك في السبعينيات، أو كانت معارضة بعثية، أو ماركسية لم يتجاوز عدد ناشطيها العشرات، فكلها كان نطاق حركتها خارج المملكة، ونشاطها السياسي لايتجاوز المنشورات السياسية المنددة بالحكم السعودي، وأما الداخل السعودي فلم يكن يلتفت لها، وقد قامت السعودية في الستينيات بالقبض على عدد من اليمنيين وإعدامهم بتهمة القيام بأعمال تخريبية! لكن المجتمع السعودي لم يكن يتفاعل مع هذه الأشكال من المعارضة، خاصة وأن العمالة الأجنبية كانت هي الأكثر نسبة من العمالة السعودية، والمثقفون مرتبطون بمؤسسة الحكم، والقوات المسلحة أغدقت على ضباطها برواتب ومزايا عالية تجعل فكرة التمرد والمعارضة طيشاً لايرد في أذهانهم.
لهذا يأتي التوجه السياسي الجديد على يد ولي العهد محمد بن سلمان سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بما يخدم ويلبي استمرار العرش وشرعيته.
ما هو مؤثر في المملكة هو المعارضة الدينية الشيعية. فالمعارضة الوهابية قد تم تهجينها عبر العقود السابقة، ابتداءً من معارضة (فيصل الدويش) التي اعتمدت على قبائل نجد عام 1929م، و(الإخوان) المطاوعة الذين ثاروا عام 1930م، فتم تسريحهم من المستوطنات التي أسسها ابن سعود لهم، وأصبحت بالمئات عند تأسيس المملكة، ووصولاً إلى حركة (جهيمان العتيبي) و(المهدي المنتظر محمد عبد الله القحطاني) التي اقتحمت الحرم المكي، واستولت عليه في 20 نوفمبر 1979م، وقد انتهت الحركة بقتل أفرادها، بالاستعانة بقوات خاصة فرنسية وأمريكية، وإن قيل وقتها إن الأمريكيين لم يتدخلوا! وذلك بضخ المياه إلى الحرم، وصعق من فيه بالكهرباء، ويقدر عدد من قاموا بالاستيلاء على الحرم المكي بـ400 شخص، مع اصطحاب البعض لعوائلهم من نساء وأطفال. وكان معظم المقتحمين للحرم المكي من نجد، مع مشاركة 10 مصريين و3 من الكويت و6 من المحافظات اليمنية الجنوبية وواحد من صعدة هو مقبل الوادعي وواحد من السودان وكذلك من العراق.
لكن المعارضة الإسلامية الشيعية في الإحساء والقطيف هي الأقوى عدداً، والمتماسكة مذهباً، والمحددة لرؤيتها الإصلاحية. فلقد حددت منذ الثمانينيات موقفها المعارض لنظام الحكم السعودي، بالمطالبة بوقف الاعتقالات العشوائية، وإدانة ديكتاتورية بني سعود، والمطالبة بدستور إسلامي لتأمين الديمقراطية للشعب، ورفض السياسة الطائفية، بإثارة السنة ضد الشيعة، والمطالبة بالحفاظ على الثروة النفطية، وتخفيض معدل إنتاجه، وإلغاء المعاهدات مع الولايات المتحدة الأمريكية. لكن النظام السعودي لم يغير من نهجه باستخدام العنف المفرط، وإصدار أحكام الإعدام لرموز المعارضة في القطيف والإحساء.
تستند شرعية بني سعود على مزيج من المبادئ الدينية والعشائرية القبلية، والتي أصبحت في حالة ذبول، لهذا تسعى المملكة لخلق شرعية مغايرة من خلال النهج الاقتصادي والسياسي والتربوي الذي يتبناه ولي العهد محمد بن سلمان.
فالمملكة وهي تستخدم الوهابية عكازاً لها لتوسيع وتعضيد الحكم في العقود الماضية، لم تتسامح مع أي نشاط ديني مستقل عنها، خشية مزاحمتها على كسب ولاء الشعب، سواء أكان ذلك مع حركة (الإخوان) الوهابية، أو حركة (الإخوان المسلمين)، فقد استخدمتهم في تعزيز ولاء الرعية للحاكم، وفي المقررات التربوية والمساجد والإرشاد، والتعليم في المدارس والجامعات، لكنها لم تتح لهم الاستفراد بتوجيه المجتمع بما يغاير رغباتها وأهدافها، وإنما كان نشاطهم ضمن أهدافها كموظفين يؤدون عملاً بمقابل المال والولاء للمملكة.
ولأن الدولة محتكرة للسلطة والموارد، فقد بسطت سلطتها على النشاط الديني، واستخدمت القيادات الدينية موظفين داعمين لأهداف المملكة. أي أنها انطلقت من استراتيجية أساسها: توظيف القيم الدينية، لتقوية سلطتها وشرعيتها. ولم تتردد في استخدام القمع بأعلى سقف له تجاه من يعترض ويتحدى سلطتها.
وظف ابن سعود تعاليم الوهابية للتمدد والاستيلاء على الإمارات المجاورة في القرن الثامن عشر والقرن العشرين، وإضفاء الشرعية الدينية للسيطرة على الجزيرة العربية، لهذا أكد محمد بن عبد الوهاب على وجوب طاعة الحكام، حتى لو كانوا طغاة، وينبغي اتباع أوامرهم طالما أنها لاتتناقض مع أحكام الدين التي يفسرها العلماء. ونصح الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالصبر على الطغيان، وأدان التمرد المسلح ضد الحكام الطغاة، وطالب بتحقيق العدل، مهما كان هدفهم السياسي، وضرورة تطبيق الشريعة بالتعاون مع العلماء.
قام الحكم السعودي على عقد وثيق هو فكر ابن تيمية، وأن سلطة الوهابيين لها نفس أهمية سلطة الملك، إلاّ أن مقتضيات الملك فرضت تقليص نفوذ سلطة الوهابيين، وإن استمر التعليم في السعودية تحت نفوذهم، وكذلك القضاء، إلاّ أن ذبول المؤسسة الدينية بسبب عدم استقلالها المادي، وارتباطهم بالدولة كموظفين يتقاضون رواتبهم، وما تنعمه عليهم الأسرة الحاكمة، أدى إلى تقوية مؤسسة الملك، مما يجعل مهمة التحديث في المملكة مسألة ممكنة، إذا وجد القرار والإرادة السياسية.
بحسب (ماكس فيبر) فإن كل نظام حكم سيغير من هويته عندما يفشل الحكام في التوافق مع المعايير التي يكتسبون بها شرعية سلطتهم، وهكذا يدمرون الإيمان بهذه المعايير بين العامة على نطاق أوسع. وهو من وجهة نظري ما تسير فيه المملكة من خلال نهج ولي العهد محمد بن سلمان.. لهذا يصرح السفير السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية أن خلافهم مع قطر (خلاف فلسفي)، فإن هذا التعبير ليس عبطياً، وإنما يعكس طبيعة التوجه الدنيوي للحكم في المملكة، وبما يرضي الولايات المتحدة الأمريكية والتحولات الشرق أوسطية.
لقد كان المذهب الوهابي أداة للحكم والتوسع في الأرض، وحين يصبح عائقاً أمام متطلبات استمرار الحكم فسوف تتم إزاحته، خاصة وأن تقليم أظافره وتدجينه، وتحويل (المطاوعة) وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مؤسسة تابعة وظيفياً لوزارة الداخلية، قد تم حين وجدوا اختلافاً وتصادماً بين عمل المباحث والهيئة، فتم ربط الهيئة عند الاختلاف للقرار السياسي والأمني بيد الملك.
لم تعد المملكة في طور التكوين، وإنما في طور التغيير، فلقد انتهت وظيفة الوهابية بتوفير الدعم والتأييد المجتمعي، وبناء وعي جماعي، واكتساب هوية عامة، وأداة تنظيمية (المطاوعة) للسيطرة على (الأحياء) والمجتمع، وإعداد جيش لتوسيع نطاق الحكم. كل ذلك كان ضرورة في مرحلة التأسيس، لكن النظام في المملكة أصبح يسيطر على المجتمع باحتكاره لأدوات العنف والمال، ولأن المجتمع العشائري والتعليم الديني قد ذوت قوته، وأصبح ارتباطهم بالملك ارتباطاً وظيفياً نفعياً، إضافة إلى تخلخل هذه المؤسسات بفعل عشرات الآلاف الذين بعثوا للدراسة الجامعية في أوروبا وأمريكا.
لقد بدأ التباين بين الملك عبد العزيز والمؤسسة الدينية في وقت مبكر، أي عام 1930م، حين التقى الملك علماء الوهابية لمناقشة السياسة التعليمية، وكان رفضهم لتعليم اللغات الأجنبية بحجة أنها ستؤدي إلى التعرف على دين الكفار والمشركين، ورفضوا تدريس الجغرافيا لأنها تقول بكروية الأرض، ورفضوا الرسم لأنه يحاكي خلق الله، ولم يقتنع ابن سعود بإلغاء هذه العلوم، وأوجد نظاماً تعليمياً حديثاً بموازاة التعليم الديني، وأعلن للعلماء أن فتواهم تفضح جهلهم بالإسلام. لكن التوازن والتوافق اللذين سنهما ابن سعود لم يعودوا نافعين للمرحلة التي يقودها محمد بن سلمان، لهذا يصبح التغيير مسألة حتمية، لا ترفية، وطريقاً إجبارياً لا اختيارياً.

أترك تعليقاً

التعليقات