محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

"نادل" رواية تحت الطبع للروائي والفنان ريان الشيباني. كان قد أنجزها منذ سنوات، ولم تطبع بعد لأسباب بعضها يتعلق بالروائي حين يتحول إلى ناقد، فيعيق حسه المتشكك جرأة النشر!
في عتبتها الأولى يهدي المؤلف ريان الشيباني عمله هذا إلى "فارع الشيباني"، في تموضع والتزام دلالي وثقافي، بما يشير إليه اسم "فارع الشيباني" الشاعر والمثقف، الذي ينتمي طبقيا لشريحة المهمشين "الأخدام"، كتعبير عن انتماء مركب في قهريته المجتمعية ثقافيا، بانتمائه إلى فئة "الخُمْس" التي تشمل قاع المجتمع الإنتاجي (المزاينة والجزارين والحلاقين والدواشن والأخدام)، وهي فئات معزولة اجتماعيا، من حيث السكن والوظيفة والاندماج الاجتماعي، حيث تعيش ضمن تجمعات مغلقة على نفسها من حيث الزواج والعادات والتقاليد... الخ. 
وفئة المهمشين هي الأكثر انسحاقاً وعزلاً في المجتمع، واقتصادياً كشريحة تعيش تحت خط الفقر والجهل والمرض. 
يبدأ العمل السردي بعبارتين استهلاليتين: الأولى مقتبسة من رواية أورهان باموق "الحياة الجديدة"، والثانية من قصيدة "سندباد في مقعد التحقيق" لعبد الله البردوني. وكلتا العبارتين تدور حول أثر القراءة، التي تحدث انقلاباً وتحولاً إلى "الحياة الجديدة"، أي انقلاب ثقافي رؤيوي: "قرأت كتاباً مرة فغير حياتي". والعبارة الثانية من قصيدة البردوني ذات الدلالة النقدية اللاذعة، والكاريكاتورية، للقراءة وصيرورتها: "قرأت كتاباً مرة صرت بعده حمارا".
تبدأ الرواية برسالة: قارورة خمر ملفوفة بملف كاكي، والملف يحتوي على تفاصيل قضية تخص السارد الداخلي، أرسلها الحاكم السابق. ومفتتح السرد الروائي هو ذاته ما تختتم به الرواية، لتكون الرواية استعادة خبرة وطريق. الملف يحتوي على جريمة شرب الخمرة والقتل، اللتين اتهم وسجن بسببهما السارد الداخلي (الـ"نادل") في مسار حياته بالمدينة من "تلميذ، ونادل، وجليس أطفال، وموظف ثوري، وصاحب منصب عال في حكومة الثورة".
موقف المجتمع مغلظ من شارب الخمرة، فجريمة القتل أخف من شرب الخمرة، "كأم للموبقات والكبائر". ولأن هذا الموقف المجتمعي مختل، فيورده السارد الداخلي من خلال قول سجين مختل: "قال لي سجين مختل عشت معه أوقاتاً صاخبة، وغير سعيدة: اقتل ولا تشرب، لأنك إن فعلت خاصمت الأمة، هكذا يقول القانون"، وهو قانون اختلال المجتمع، الذي يختزله السارد في "سجين مختل" في تماثل بين السجين المختل والمجتمع المختل. وكما عاش السارد أوقاتاً صاخبة وغير سعيدة مع "السجين المختل"، كذلك هي الحياة في مجتمع مختل، وأمة ترى شرب الخمرة أشد من القتل، فهي جامع لكل الموبقات. 
مسار من "القروي" إلى "النادل" إلى "موظف في الثورة" إلى "منصب عال في حكومة الثورة"، حكاية البؤساء حين يتطلعون لميراث "الرئيس" و"الحاكم" وتراث الحكم وذهنيته. 
الـ"النادل" في المدينة تدفعه قسوة الطبقات إلى أن يتحول إلى وظيفة "ثائر فار من وجه العدالة"، "فنحن القرويين نتذكر في ضغائننا صاحب البقالة السابق، وزبوناً دلق مرقاً ساخناً على وجهك، بينما الأطراف المتضررة الأخرى من المتدنين فيجب أن يروا ضحاياهم حالة طبيعية لعبور متهور للمنعطف التاريخي".
مفارقات دلالية "الملك روبرت"، عسكري قنينة الخمرة ورب الكنيسة المتدين، رب الخمرة ورب الكنيسة، قبلة المخمورين والمتدينين، أبرهة الأكسومي، باني "كعبة القليس ومستنبت القات المخدر في اليمن، لقد كان يخدر الناس بـ"كعبة القليس" و"نبتة القات"!
في لحظات الخدر يطوف السارد الداخلي حول "كعبة القليس" بعد كل نشوة قات، ويلعن أبرهة حين تنتهي النشوة وتهجم التعاسة بعد الخدر. 
مدرس التربية الوطنية في تماثله مع السجان والمحقق، والمدرسة في تماثلها مع "الفرن"، معتقل السياسيين، والقلعة. 
يتناول هذا العمل السردي في سياقاته تسيد القرية على المدينة من خلال تدفق القرويين إليها. ولعل المفارقة في موقف مدرس التربية الوطنية، الذي يعكس نزعة عدائية نحو القروي والريف، فتعكس محاضرة مباشرة في خطابيتها وتلقينها على تلاميذه دلالات النفور من الريفيين. وهو، أي مدرس التربية الوطنية، نموذج لذلك التداخل بين معلم المدرسة والسجان، تماماً كما هي الحدود تتلاشى بين الخصائص المكانية للمدرسة والسجن، وأدوات العقاب التي يستخدمها المدرس والمحقق "المشهّرة" كآلة عقاب، يتم إدخال ذراعي التلميذ في الفتحتين السفليتين، والرأس في الفتحة العلوية، وتوثيق اليدين، ومماثلة ذلك مع "غرفة الموت" التي يستخدمها المحقق في السجن لتعذيب المعتقلين والمساجين، بصعقهم بالكهرباء!
يوجه مدرس التربية الوطنية خطاباً مباشراً للتلاميذ، قائلاً لهم: "طلابي.. لقد أصبحت مدرستنا مقلب قمامة، يتبرز فيها كل يوم القادمون من القرى، يذهب آباؤهم للمدن، تاركين أطفالهم في بطون أمهاتهم، ومن ثم تقودهم صدمتهم بالعمران والزحام إلى ملذات ليس أقلها المخدرات، ومن ثم الإحباط والفشل، وماذا تكون النتيجة؟! الإدمان، الموت. يفعلون ذلك وهم يعتقدون أن هناك من سيقوم بالمهمة نيابة عنهم. ها هو زميلكم الجديد، وكما ترونه يتيماً، وهرب من الطاعون، ليلتحق بركب الفارين (حك أسفل شفته السفلى) لقد هبت عليه رياح الشمال الموسمية، لتخبره أن خلاصه في هذه المدرسة، والتي تخرج منها والده إلى القبر، وتسجل سنوياً أكبر نسبة للغش..." (ص22). هو ذاته المدرس الذي يجد قارورة الخمرة "أبو عسكري" لدى التلميذ الـ"نادل" ويقوم بسحبه من ياقة قميصه وتسليمه للأمن، وهو ذاته الذي يهوي بعصاه على التلميذ حين تأخر عن تجميع وتهجئة حروف المستشفى، قائلاً له: "مستشفى الثورة، لن آلو جهداً في تربيتكم، أنتم أبناء السكارى، فيما إذا أراد ولاة أموركم ذلك، بإرسالكم يتامى إلينا. هناك مستشفى مجاور، ونقالة موتى" (ص23). 
تتطرق الرواية سردياً إلى العلاقة بين القروي والمديني، مستخدمة تقنية الخطابة التلقينية لمدرس التربية الوطنية، وبإضمار متخفف من المباشرة الفجة. 
هناك اختزال سلطوي في توصيف السياسيين بـ"السكارى"، في تحريض واضح للمجتمع ضدهم. ثنائية الهامش والمتن، المهمش والأصل، الرئيس والنادل، الحاكم والجنود المرافقين، القرية والمدينة، والقانون والسكران. 
وهناك ثقافة الخبرة بالأطعمة، وهي ثقافة لصيقة بطبيعة الطبقات الاجتماعية، والتي يتم إدخالهما في سياق السرد، من خلال مخاطبة السارد الداخلي للقراء: "وقعدنا ننتظر. ما رأيكم أن أقدم في لحظات الانتظار هذه نبذة عن المطبخ؟!". هنا يتحول السارد الداخلي إلى محاضر في الأطعمة والطبقات الاجتماعية. 
يلتقط السارد القاع الاجتماعي الذي يطحن بعضه إرضاء لمرؤوسيه: "يجب ألا تشعر هؤلاء الجنود بأننا نقوم بالأمر بإيعاز من الحاكم، لأننا سنكون محرضين سياسياً على اغتياله، وعقوبة ذلك قاسية. يجب أن تكون شراستنا وحماستنا لصدهم. يبدو وكأنه صراع بين شلتين من قاع المجتمع، يتصارعون دون سبب. كما يتصارع الديكة. وبعدها نضمد جرحنا، وتستمر الحياة دون ضغائن. هذا هو ما يجعلنا نحظى باحترام من مرؤوسينا وحكامنا ووزرائنا الموقرين" (ص43). 
 يتوقف السارد مفسرا روح العبودية والامتثال لرغبات مكنونة لرب العمل والحاكم: "يجري كل هذا الصراع والحرب الأهلية، دون توقيع أي اتفاق أو عقد بين الطرفين، فرب العمل الجيد هو من يفهم زبونه، والنادل الجيد هو من يفهم رب عمله".
تمزج الرواية بين ثقافة الطعام والبعد الاجتماعي، باستخدام تقنية المذيع الذي يقدم فقرات ثقافية تجعل العلاقة بين السارد الداخلي والقراء مباشرة، علاقة العالم بالمتلقي المستهلك. هناك إحساس بفلسفة حياتية تزاوج بين التقاط التفاصيل المختلفة، وتعي الموقف الكلي الجامع لها. 
المحقق الملتحي وإصراره على تنفيذ الحد الشرعي بالسارق الذي سرق روبيات الحجاج الإسماعيليين، الذين يزورون جامع جبلة ومقام الملكة أروى، كمحاولة منه لابتزازهم، فهم يطالبون بالعفو عن السارق، وهو يساومهم بضرورة تطبيق الحد الشرعي والحق العام. 
يختتم السارد مشاهده القصصية الروائية بلوحة أخيرة تتعلق بالـ"نادل" والشيخ والثورة. 
تماماً لقد كانت الثورة بالنسبة للنادل وظيفة، كما هي لدى الشيخ الذي انضم إليها قفزاً من سفينة إلى أخرى: "عندما ترى السفينة تتأرجح، اقفز منها إلى أخرى". 
بأمر من الشيخ للنادل: "ستعمل مع الثورة". ولأن النادل تائه، فهو لا يميز بين هوية مظاهرات "البلاطجة" ومظاهرات "شباب الثورة"، وإن كانت تحيزاته واضحة حين يصف كلاً من الحشدين، المناوئ للنظام والحشد الواقف مع النظام: "وجدت تجمعا أمام بوابة السوق الجديد, كانوا يحملون صورة لرجل بشارب كبير، رأيت صورته في الصحيفة، وهراوات وجنابي وسكاكين. قلت: إذن الثورة مع ذي الشارب" (ص96). 
وحين يوبخه الشيخ لالتقاطه صوراً لـ"البلاطجة" وليس للثورة، يعود مرة أخرى باحثاً عن حشود الثورة، وحين يجدهم، يصفهم بعبارات تعكس الانحياز الاجتماعي، والانتماء في آن: "كانوا أجساداً مدماة، وأحدهم يحمل على ظهره عجوزاً ببنطال ممزق، وأيدينا سوداء مغلفة بسخام الإطارات، ومرتفعة للأعلى، وعمال يلوحون بأدوات عمل. هتفت فبكيت. كان أحدهم يرفق بي، ويسأل: لماذا تبكي؟! لم يكن لدي جواب، قلت وقد انفكت عقدة جديدة من لساني: أنا تائه! ذرف دمعة، ومسح رأسي قائلاً: ستصل". 
الشيخ يرى الثورة باعتبارها كمية من صور المظاهرات والدماء: "جلست عند ساقي الشيخ، مثلما يجلس مصلح النارجيلة. التقط الكاميرا من حزامها وقال: ثقيلة، يبدو أنها ممتلئة ثورة" (ص98). 
ينخرط النادل في الثورة كونها وظيفة أعطيت له، ولأنه تائه منخرط في فعل لا يدرك حدوده، ولم يخطط له، ولا يعرف أهدافه وغاياته، فإنه يطلق الرصاصة على يده اليمنى من المسدس الذي أعطاه له الشيخ، بغرض إحداث إصابات في صفوف الثورة، فيتأجج الموقف ويهتز عرش الحاكم. يخاطب السارد الداخلي يده الدامية قائلاً: "لا تعصيني مرة أخرى! وبعد أن تأكدت أن الرصاصة اخترقت يدي أطللت برأسي على النافذة" (ص108). 
ولأن الحدود بين الثورة والنظام منعدمة، كان اثنان من إخوة الشيخ، بعد مقتل الشيخ، مختلفين في تقرير انتماء الشيخ للثورة أم للنظام، خاصة أن كلاً من النظام وساحات الثورة أدانا مقتله واعتبراه خسارة لساحتيهما. 
الثورة بالنسبة للسارد الداخلي "فم وثرثرة"، ولهذا تراكمت الخبرة لديه، بتطور وظيفته من نادل إلى وظيفة "ثوري"، ثم صاحب مكتب "التعبئة الثورية"، ثم حين تم تعيينه في منصب أعلى في حكومة الثورة، أصبح الوريث لمقولات الرئيس صاحب المطعم، والمدرس، والحاكم، والشيخ... إلخ. 
الرواية لوحات قصصية مترابطة روائيا، تظهر المعتقدات والفساد في آن، القانون والاستبداد. 
عمل روائي مهم تنسج فيه لوحات قصصية في إطار روائي كلي، بنزعته الإنسانية، وتفاصيله التي تعري الواقع الطبقي، والقانون الذي هو من اختراع الطبقة المتغلبة، ضمن ثنائيات القرية/ المدينة، القروي/ المديني، السكران ورجل الدين، والحاكم/ الأمي، والشريعة/ الاستبداد... الخ. بحثاً عن يوتوبيا "الحياة الجديدة"، عمل روائي بموقف إنساني اجتماعي، يستعيد مسار الروائيين ذوي النزعة الإنسانية المنحازة للمقهورين، فهو عمل كتب بمداد الانتماء، ولغة وشخصيات وأمكنة ومعتقدات وغرائبيات الواقع اليمني. 

مقتطف من الرواية:
"رأى الشيخ وجهي المدبوغ، وسأل:
- ما الذي جرى؟! هل هو مريض؟!
ودون أن ينتظر جواباً أصدر قراراً بترقيتي. طلب من المرافق الذي كان إلى جانبه أن يحضر لي كاميرا، وسلمها كمن يعطي كلباً قطعة لحم، والتقطها بتلك الطريقة، وقال:
- ستعمل مع الثورة!
يطمح المرء مثلي أن يحظى بفرصة عمل، مثل أن يكون نادلاً، أو سائقاً لسيارة أجرة، أو حارساً، أو بواباً، وفي أسوأ الأحوال مربية أطفال، لكن أن تعمل مع ثورة، ولمرة واحدة!
كان هذا النوع من الوظائف قد ازدهر. سأسدي نصيحة، انطلاقاً من تجربة ناجحة:
- عندما ترى السفينة تتأرجح، اقفز منها إلى أخرى!"
شيخي فعل ذلك. خرج. وبعد ساعتين عاد واصطحبني لتناول وجبة غداء، على شرف انضمامه للثورة". 

أترك تعليقاً

التعليقات