تنومة وسدوان (مجزرة الحجاج الكبرى) (2-2)
 

محمد ناجي أحمد

عدد الشهداء والناجين من المذبحة
مع تراوح العدد ما بين 500 شهيد، و100، و200، و300، و2600، و2700، و4000، و5000، و8000 وألفين من حضرموت، أي 10 آلاف في أقصى التقديرات، فإن الباحث يرجح عدد الشهداء الذين قتلوا في هذه المجزرة بـ3000 شهيد، 900 شهيد فصلت رؤوسهم عن أجسادهم ذبحاً كما أوردت ذلك جريدة (القبلة) الصادرة في مكة آنذلك. وعدد الناجين يقدرهم الباحث بـ500 ناجٍ، 150 حاجاً منهم أصروا على أن يفروا نحو مكة، وأن يستكملوا حجهم هناك، ومنهم أمير الحج السيد محمد بن عبد الله شرف الدين.
لقد تميز الكتاب بقدرته على تفنيد حجج وادعاءات السعودية بأن قتل الحجاج كان بسبب الالتباس بكونهم جيشاً جاء لمساندة الملك حسين شريف مكة، بحسب الاتفاق الذي سُرِّب لابن سعود، لكن طريقة القتل، وتذفيف الجرحى، وتقطيع الرؤوس، وإبادة الجميع، رجالاً ونساء، ومطاردة من هرب وقتله، كل ذلك لا يدع مجالاً للشك في أن المذبحة كانت مقصودة لأسباب سياسية وعقدية واقتصادية. فترك الجثث بالآلاف مرمية في العراء تأكلها السباع، حتى تعفنت وتحللت، وجرف ما تبقى منها السيل، ليؤكد الإصرار على الجريمة بتلك الدوافع التي ذكرها الباحث. فبالرغم من العدد الكبير للقتلى فلا يوجد مقبرة معروفة تضم رفاتهم حتى الآن، فلقد تكفل السيل بمواراة ما تبقى من جثث الشهداء!
لقد ظل الإمام يحيى يردد بـ(أن كل بيت في اليمن يحمل ثأراً دموياً على الدولة السعودية، يطالبه بالإذن له بالقوة الحربية)، بحسب ما يقتبسه المؤلف من مجلة (المنار)، مج 34، العدد 22، الصادر في 1353 هجرية/ يونيو 1934م.
إن طرح الباحث بأنه (ربما كانت هزيمة اليمن 1934م نتيجة طبيعية للتفريط في دماء أولئك الشهداء (يقصد شهداء تنومة وسدوان الأعلى والأسفل)، ونتيجة لاتخاذ موقف الضعف والتردد، وللحرمان من شرف التصدي العسكري لأخطر مشروع منتحل للإسلام على مر تاريخه).. أقول بأن هذا الطرح يتبنى وجهة نظر المعارضين للإمام يحيى من بيت الوزير وأمثالهم، فلقد وضحنا سابقاً استحالة المواجهة مع ابن سعود في تلك الفترة العصيبة من تاريخ اليمن، في 1 يوليو 1923م، فلقد كان الإمام يحيى يسعى لتوحيد اليمن، ويدعو لتوحيد العالم العربي والإسلامي، ويحذر من خطورة تحويل اليهود إلى كيان صهيوني في فلسطين، كما بينت في مقالات سابقة لي منشورة في صحيفة (لا).
انتصار ابن سعود في حرب 33-1934م سببه تمويل شركة ستاندر -كاليفورنيا لعبد العزيز بن سعود بالمال وأحدث الأسلحة، إضافة إلى الدعم البريطاني سواء في فتح جبهة مباشرة ضد الإمام في جنوب اليمن، أو بالدعم المادي والمعلوماتي لابن سعود.
وكما هي عادة (وعاظ السلاطين)، فلقد وقف علماء المال والسلطان مع بشاعة هذه المجزرة، وبرروا لها، وبحثوا عن الأعذار، ومن ذلك موقف محمد رشيد رضا، صاحب (المنار)، حين زعم أن الملك عبد العزيز بن سعود اعتذر، واتفق مع الإمام يحيى على تعويض مقبول، وأن القتل كان بسبب ظن النجديين أن الحجاج جاؤوا لنجدة الشريف حسين والقتال معه. ورغم تبني البعض، ومنهم سيد مصطفى سالم، لموضوع التعويض، فإن ذلك لم يحدث حتى اليوم، فلا تعويض ولا ديات، ولا اعتراف بالمسؤولية عن المجزرة، وإنما ظل ابن سعود يسوف، ويماطل، رغم تحكيم الإمام يحيى له، ومع ذلك اعتبر ابن سعود اتفاقية الطائف لاغية لدماء الشهداء، ومحوهم من الذاكرة.
بالمقابل نجد العلامة أمين العاملي يرد على رشيد رضا بأن المراد بتبني مقولة النجديين بأنهم شكوا أن الحجاج مقاتلون، هو التستر على فظائع الوهابيين في استحلال دماء العزل، فحالة الحجاج واضحة لا لبس فيها. ثم يورد العاملي مذابح الوهابيين في أعراب شرق الأردن حين غزوهم في عقر دارهم، وأعملوا فيهم رصاص البنادق، وحدَّ السيوف، وما صنعوه بأهل العراق من غزو وقتل ونهب، وكيف أن الوهابيين الذين يتورعون من الفتيا في التلغراف، يقتلون الناس دون أن يستبينوا أمرهم!
المناطق التي جاء منها الحجاج
يذكر العلامة محمد بن إسماعيل العمراني أن ما من بيت في اليمن إلاّ وفقد شهيداً في تلك المذبحة، ويورد الباحث أن الحجاج كانوا من مختلف مناطق اليمن وفئاتها ومكوناتها الاجتماعية: من لواء إب، وذمار، وصنعاء، وعمران، وحجة، وصعدة، وغيرها. لكن غاب عن الباحث أن يقول من لواء تعز، فإب لم تكن وقتها سوى قضاء من الأقضية التابعة للواء تعز، ولم تستقل كلواء عن تعز إلاّ عام 1937م.

شهداء بيت حاضر
يتوقف الباحث عند محاولة شعبية نتجت - بحسب رأيه - عن هزيمة 1934م، وما ترتب عليها من اتفاقية الطائف، واتفاقية الهدنة مع البريطانيين، التي أغضبت قيادات في الجيش وكبار المشائخ، بحسب الباحث، وأنهم اجتمعوا في صعدة، وعبروا عن رفضهم للاتفاقيتين، ولنظام التوريث!
وباعتقادي أن موضوع التوريث لم يكن مطروحاً عام 1934م، وإنما بعد ذلك حين تم عزل آل الوزير، من تعز والحديدة، وتولية أبناء الإمام يحيى في الألوية، دفع آل الوزير والبيوت المنافسة للإمام يحيى مثل بيت أبو طالب وغيرهم، للاجتماع في زبيد، وصولاً إلى قيامهم مع (حزب الأحرار) في عدن، لاغتيال الإمام يحيى في 17 فبراير 1948م، وقيام حركة 48م.
يرى الباحث أن النقيب علي بن علي الهجام، وأخاه صالح بن علي الهجام، وابن عمهما مبخوت الهجام، وقد كان الثلاثة - بحسب الباحث - في الجيش، اتفقوا أن يذهبوا للحج، والقيام باغتيال الملك عبد العزيز بن سعود، انتقاماً لمذبحة تنومة وسدوان، وهزيمة 1934م، وقد نفذ الثلاثة محاولة اغتيال بن سعود أثناء الطواف بالكعبة، يوم الأضحى 10 ذي الحجة 1353 هجرية/ 17 مارس 1935م، إلاّ أن الأمير سعود تلقى طعنة في كتفه حين حمى أباه، وقتل من حرس ابن سعود، الشرطي أحمد العسيري، والشرطي مجدوع ابن هيثان. وقد تم صلب علي وصالح ومبخوت الهجام بعد قتلهم.

الأدب ومذبحة تنومة وسدوان
يورد الباحث في الفصل الأخير من الكتاب، انعكاسات هذه المذبحة في الأدب اليمني، مورداً ثلاث قصائد من الشعر الفصيح، الأولى للسيد العلامة يحيى بن علي الذاري، المتوفى سنة 1364هجرية، والتي يقول في مطلعها:
ألا من لطرف فاض بالهملانِ 
بدمع على الخدين أحمر قانِ
والقصيدة الثانية للقاضي العلامة يحيى بن محمد الإرياني، المتوفى سنة 1362 هجرية، والتي يقول في مطلعها:
جنيت على الإسلام يا ابن سعود 
جناية ذي كفر به وجحود 
وقد حذف القاضي الأكوع جملة (يا ابن سعود) ووضع نقاطاً محل المحذوف، وذلك عند نشره القصيدة في (دروب الحج).
والقصيدة الثالثة للقاضي العلامة المؤرخ محمد بن أحمد الحجري، المتوفى سنة 1380 هجرية، ويقول في مطلعها:
أكفراً بدين الله يا أخبث العِدى 
سقيت ضيوف الله كأساً من الرَّدى
ثم يورد نصوصاً من الأدب الشعبي، التي خلدت هذه المجزرة في الذاكرة الشعبية، من ذلك قصيدة (يا الله العونْ بكْ يا وثيق الحبالْ)، وهي على روايتين، نسخة تنسب لقائل مجهول هو (ابن عامر) يتداولها الناس في الأعراس والمناسبات في حجة. والنسخة الثانية وهي المتداولة في صنعاء، وتنسب لـ(علي بن أحمد جبل)، ويرى الباحث أن القصيدتين تتشابهان في الشكل وفي كثير من المضمون (ولعلّ كلتا القصيدتين نقلتا عن أصل آخر لاختلاف بينهما، حتى في الأبيات التي أوردتها كلتا القصيدتين)، ومن البديهي أن النصوص الشعبية تكون خاضعة في الزمان والمكان للتعديل، والحذف والإضافة.
وجميع هذه القصائد تعبير عن (السخط الشعبي تجاه تلك المجزرة، ووصف بشاعتها، ودعوة للجهاد ضد مرتكبيها، وإشادة بالإمام وولده سيف الإسلام أحمد، والطلب منهما لغارة مسرعة نحو أهل نجد الذين غيروا في الدين).

أترك تعليقاً

التعليقات