عن التضليل والخفة
 

محمد ناجي أحمد

يحدث أن يقوم المرء بمصالحة مع جلاده بمرور الزمن، لكن أن تتم المصالحة معه وهو يراكم الجماجم ويرسل حمم الموت من البر والبحر والجو، فذلك أدعى إلى الشعور بالعجز أمام فهم شذوذ كهذا!
في اليمن لا تتم المصالحة مع عقود من الجرائم التي ارتكبها الكيان السعودي على اليمن فحسب، ولكن أيضاً التواطؤ والمشاركة مع ما يحدث من عدوان لأكثر من عام ونصف، بما يشبه جزئياً ما أورده ميلان كونديرا في روايته (كائن لا تحتمل خفته)، منذ زمن ليس ببعيد، فاجأني شعور غير معقول: كنت أتصفح كتاباً لهتلر فوجدت نفسي مأخوذاً أمام بعض من صوره. ذكرتني بزمن طفولتي التي عشتها خلال الحرب. كثيرون من أفراد عائلتي لاقوا حتفهم في معسكرات اعتقال نازية. ولكن ما أهمية موتهم أمام صورة هتلر التي ذكرتني بزمن غابر من حياتي، بزمن لن يعود؟
إن هذه المصالحة مع هتلر تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي الملازم لعالم مبني أساساً على انعدام العدو. ذلك أن كل شيء في هذا العالم مغتفر سلفاً، وكل شيء مسموح به بوقاحة.
كتب ياسين سعيد نعمان معلقاً على الجماهير التي احتشدت في ميدان السبعين صباح السبت الموافق 20/8/2016م، واصفاً ذلك الحضور الكبير بأنه يمثل جغرافية جهوية واصطفافاً طائفياً يستخدمه علي عبد الله صالح لضرب الوحدة الوطنية. والحقيقة أن هذا التفسير لذلك الحشد فيه خبث تضليل وتأسيس لاصطفاف طائفي تم العمل عليه والتلويح باستخدامه منذ انتخابات 2006م وتصريحات محمد قحطان وتلويحه باستعادة دولة الفقيه سعيد، وهي حركة تمرد تمت في العدين وحتى نقيل سمارة، بغرض فصل اليمن الأسفل عن (العسكري الزوبة) ونظام الحكم في صنعاء، في النصف الأول من القرن التاسع عشر...
إن محاولة اختزال ذلك الحشد من الجماهير الذي توافد إلى ميدان السبعين بالبعد الطائفي، أو بأنه يمثل دائرتين أو ثلاث دوائر انتخابية، أو أنه خرج بتأثير المال والسلاح والسيطرة.. إلخ، تضليل وخفة في التعامل مع الحدث، لا يساعد في استيعاب طبيعة الصراع وقواه، أسبابه ومآلاته...
تفسير حشود الجماهير كانقسام جغرافي ومذهبي وطائفي، فيه اختزال مضلل... هناك عدوان سعودي له استراتيجيته، وهناك صراع يمني على السلطة بين النخبة الحاكمة، ليس من أسبابه الفقر والجهل، وإنما من أدواته في المغالبة...
وبذات القدر من التضليل والتوجيه المؤسس لها في الأذهان حين نصف حشود الجماهير كدلالة على تكريس انقسام طائفي، تكون الخفة والبلاهة حين نحيلها إلى جماهير منقادة لمن يملك المال والسلاح والسيطرة! 
فالمال والسلاح والسيطرة في الضفة السعودية يصعب موازاتها أو منافستها في الضفة الأخرى... الجماهير المعنية بالتغيير لصالح غالبية الناس ليست حاضرة كرؤية ولا فاعلة كحركة... هناك انقسام في السلطة يصحبه تحشيد للجماهير. ومع الدخول السافر للكيان السعودي بقضه وقضيضه، اتسعت ساحة السبعين مستنفرة مشاعر ضد عقود من الهيمنة السعودية ودماء سالت لأكثر من عام ونصف تحت لافتة (العاصفة والأمل)...
بدلاً من أدلجة الوعي وتضليله حيناً، وتسطيحه أحايين، فكروا في المشهد اليمني، واسألوا أنفسكم عن الموقف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لأطراف الصراع...
يتضخم الفقر والجهل، وتتحدثون عن جماهير وطنية وأخرى طائفية. جماهير مستسلمة للمال والسلاح والسيطرة وأخرى ثورية!
تلك أساطير تروجونها ثم تسقطون في تيهها!

أترك تعليقاً

التعليقات