محطات ثورية في اليمن
 

محمد ناجي أحمد

لقد جسد عام 1918م ميلاداً وتكويناً لليمن الحديث الذي بدأ يتحرك نحو تأسيس كيان سياسي سمي آنذاك المملكة المتوكلية. وقد كانت رمزية هذا الكيان بوحدويته التي رأت اليمن الطبيعية كياناً سياسياً واحداً، وحقاً لا يجوز التهاون أو التنازل عنه، أو عن جزء من أجزائه، لكن الاستعمار البريطاني حين وجد الإمام يحيى حميد الدين متمسكاً بالحق التاريخي لليمن من أقاصي الشمال إلى أقاصي الجنوب، ومن شرقه إلى غربه، دفع بالكيان السعودي؛ الذي نشأ برعاية وغايات بريطانية، إلى التوسع نحو مناطق عسير ونجران وجيزان عام 1927م، وهو العام الذي قامت فيه بريطانيا بضرب الضالع وتعز وبيت الفقيه وزبيد وذمار بالطائرات، كي تجبر الإمام على القبول باتفاقية التقسيم التي أبرموها مع الاحتلال العثماني، ووقعت عليها بريطانيا عام 1904م، والتي تم إلحاقها في ما بعد لتصبح من ملاحق اتفاقية سايكس بيكو بين الفرنسيين والبريطانيين، عام 1917م.
لقد نجحت بريطانيا بعد هزيمة اليمن في حرب 1933-1934م، التي شنها الكيان السعودي بغطاء بحري وجوي بريطاني، في إجبار الإمام على توقيع اتفاقية هدنة معها وفقاً لحدود 1904م، لمدة 40 عاماً، والتوقيع على اتفاقية الطائف عام 1934م، لمدة 20 عاماً، ولأن الاتفاقيتين مزمنتان وغير نهائيتين، فإن الاستعمار البريطاني وربيبه السعودي ظلوا يصنعون ويدعمون الاضطرابات والانقلابات داخل المملكة المتوكلية..
لقد نشأ جيل جديد بطموح اجتماعي وسياسي، وطني وعروبي، مع خمسينيات القرن الـ20، وكان حزب البعث ثم حركة القوميين العرب شمالاً وجنوباً، رواداً للوطنية الوحدوية التي تجمع بين التحرر السياسي والاجتماعي، والتوجه الوحدوي وطنياً وقومياً..
مثّل تنظيم الضباط الأحرار، وعلى رأسه قائد التنظيم الملازم علي عبد المغني ومحمد مطهر زيد، عام 1961م، التحرك العملي نحو التغيير السياسي والاجتماعي، فكانت ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م، ناسفة لمخططات آل سعود والبريطانيين؛ الذين أرادوا تغيير النظام المتوكلي بنظام تابع وضعيف، فكان نظاماً جمهورياً بانتماء تحرري وحدوي على المستوى الوطني والعربي، مما دفع الاستعمار البريطاني وربيبه السعودي إلى التحرك العسكري والسياسي والدعم المالي واللوجستي لإسقاط النظام الجمهوري، وقد حاولوا من خلال المؤتمرات القبلية أن يسقطوا النظام الجمهوري، وأن يدعوا إلى تأسيس (الدولة الإسلامية) بلا هوية وطنية وقومية، ووجدوا طابورهم الخامس في ما سمي القوى الثالثة، وعلى رأسهم سنان أبو لحوم، والقوسي، والمطري، ومحمد أحمد نعمان الذي ذهب إلى الرياض بحجة إقناع المشائخ الموقعين على بيان الطائف للتراجع، فإذا به ينضم إلى الموقعين، ويشن حملة ضد الدور المصري في اليمن، فجاءت اتفاقية جدة عام 1965م بين جمال عبد الناصر والملك فيصل، حول الاستفتاء لتقرير المصير في اليمن، وطبيعة النظام الذي يريده الشعب اليمني، ليتوهم الكيان السعودي أن فرصته قد حانت لإسقاط الجمهورية من خلال مؤتمر حرض بين الوفدين الجمهوري والملكي، لكنهم فوجئوا بصلابة مواقف ومبادئ الوفد الجمهوري، وعلى رأسهم القاضي عبد الرحمن الإرياني، فأمروا الوفد الملكي بالانسحاب وعرقلة المفاوضات، ولقد لمّح الأستاذ أحمد محمد الشامي لزميليه الأستاذ أحمد محمد نعمان والقاضي عبد الرحمن الإرياني، بأن الوفد الملكي ليس له من الأمر شيء، وأن الأمر كله للسعودية!
لقد كانت هزيمة 5 حزيران 1967م لمصر وسوريا وفلسطين، هي الغاية التي سعت السعودية لتحققها، فالعديد من الرسائل الموجهة من الملك سعود ثم الملك فيصل تشير إلى أن ضربة 67م لمصر والأمة العربية كانت مطلباً سعودياً واستراتيجية إسرائيلية. واستمرت السعودية بمواصلة دعمها للملكيين من أجل حصار صنعاء وإسقاط النظام الجمهوري، لولا صمود القوات العسكرية: الصاعقة بقيادة رئيس هيئة الأركان عبد الرقيب عبدالوهاب، والمشاة بقيادة محمد صالح فرحان، والمدفعية بقيادة مثنى جبران، ولواء الثورة، والمظلات، والقوات التي كان يتحرك بها القائد العام للقوات المسلحة حسن العمري... إلخ، حينها وجدت السعودية أن الأمر لن يصفو لها إلا بتصفية الجمهوريين الراديكاليين مقابل تخليها عن الراديكاليين الملكيين بالتصفية والإبعاد، واستطاعت بذلك الإبقاء على مسمى (الجمهورية) فارغاً من جوهره وأهدافه السياسية والاجتماعية والوحدوية والعسكرية والسيادية، بأن جعلت رموز جمهورية 5 نوفمبر ينحرفون بالنظام الجمهوري، ليكون النظام إسقاطاً لطبقة السادة وانتصاراً لجمهورية وطبقة المشائخ، وإدارة النظام من خلال اللجنة الخاصة التي يتولى مسؤوليتها الأمير سلطان. وبدلاً من السعي في الطريق الوحدوي واستكمال أهداف الثورة اليمنية، اتسعت الفوارق الاجتماعية لتتأصل بالفوارق الاقتصادية، واستخدمت الشطر الشمالي لمحاربة وإعاقة التحولات التحررية والاجتماعية في الشطر الجنوبي من اليمن...
لليمن ثورة وطنية تكللت بخروج الاستعمار العثماني وتكوين اليمن الحديث ابتداء من ١٩١٨م، وثورة طامحة للتغيير الاجتماعي انطلقت في الـ26 من سبتمبر ١٩٦٢م، وانتكست مع جمهورية المشيخ في ٥ نوفمبر ١٩٦٧م، وثورة تحرر من الاستعمار البريطاني في الـ14 من أكتوبر ١٩٦٣م، انتهت بأحداث دامية عام ١٩٨٦م في ما سمي (أحداث يناير) كانت السعودية من ورائها، وإن ظهر على السطح صراع سوفيتي كوبي...، وحركة تصحيح واستعادة للمسار الثوري في ١٣ يونيو ١٩٧٤م، سرعان ما اجتثت سعودياً في ١٩٧٧م، وثورة وحدوية تحققت في الـ22 من مايو ١٩٩٠م، مرت بمراحل لتفريغها وضربها، ليكون زمن العاصفة السعودية تشظية وعودة لجزر العبيد الذين يقاتلون تحت ظلالها ورغباتها وتحقيقاً لأهدافه الغربية...
لنكن واقعيين، التسوية في مايو ١٩٧٠م انتهت لصالح السعودية؛ فجمهورية المشيخ كانت إفراغاً للجمهورية من أهدافها، وتحويلها إلى جزء من ترويسة وصحيفة اسمها الثورة... لهذا جاءت حركة ١٣ يونيو ١٩٧٤م، وإن كان مبتدؤها على ناقة سعودية، لكنها حين أرادت أن تستعيد مارد الثورة قصفوها ولم يذروا شيئاً منها، قادة وخططاً خمسية وحركة تصحيحية وحركة شعبية تعاونية وسيادة وتنمية مستقلة ومقاربة للعدالة الاجتماعية إلخ... لهذا كان الـ22 من مايو١٩٩٠م استفاقة أخرى لمارد الثورة الذي واجهوه بمشروع التقسيم والهويات ما قبل الوطنية وعاصفة الدمار براً وبحراً وجواً وقيماً...

أترك تعليقاً

التعليقات