ثوابت الجغرافيات وتكرار مهازل التاريخ الدامية
- محمد ناجي أحمد السبت , 13 أبـريـل , 2019 الساعة 6:48:39 PM
- 0 تعليقات
محمد ناجي أحمد / لا ميديا -
ليس أمرا اعتباطيا أن يبدأ الصراع بين اليمن والرياض مع البدايات الأولى لتأسيس الكيان السعودي، ففي عام 1923م كانت مذبحة «تنومة وسدوان» في عسير التي راح ضحيتها ثلاثة آلاف حاج يمني تقريباً، وقد كانت دلالة المذبحة مع تمدد الكيان السعودي واضحة الرسالة من جغرافيا تتوسع بأميرها عبد العزيز بن سعود، وجغرافيا تتجه نحو تكوين اليمن الحديث، بعد استعمار عثماني دام عقوداً في مراحله المختلفة منذ القرن السادس عشر، إلى خروجه من اليمن في نوفمبر عام 1918.
الصراع على أساس الجغرافيا الطبيعية لليمن، والجغرافيا المصطنعة لنجد والحجاز في تمددها إلى نجران وعسير، كان حتمياً، حتى لو كان المنتصر في الصراع بين نجد والحجاز هو الشريف حسين، فالتمدد جنوباً كان في أجندة وادعاءات الشريف حسين فيما يتعلق بالسيطرة على المخلاف السليماني، وانتزاعه من اليمن، وقد كانت هناك بدايات اصطدام مع الشريف حسين بخصوص عسير وجيزان... فالجغرافيات المصطنعة في الجزيرة العربية تحتاج إلى أن تتمدد بالغزو في كل الاتجاهات كي تبني كيانها المصطنع، ولأنها كيانات مصطنعة تظل دوماً تتغذى وجودياً على الحروب، فـ"الحدود التي يصنعها البشر، والتي لا تتوافق مع منطقة من الحدود الطبيعية، تكون غير حصينة على نحو خاص" (روبرت د. كابلاند: انتقام الجغرافيا - ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد الجميع؟!، ترجمة: د. إيهاب عبد الرحيم علي، عالم المعرفة، يناير 2015م، ص15. وقد نشره المؤلف في نيويورك باللغة الانجليزية عام 2012م).
يرتبط ما سمي بـ"الربيع العربي" في جوهره بتنظيف المنطقة جغرافياً من استقرار الجغرافيا والدولة، نحو تفتيت الجغرافيات وإسقاطها في الفوضى. فبدايات هذا الربيع كانت تتكئ على أساس اجتماعي اقتصادي، فبني عليها وهم الحرية دون جغرافيا مستقرة وثابتة، ودون رغيف الخبز!
في تونس بدأ ما سمي بـ"الربيع العربي" في بلدة سيدي بوزيد، في ديسمبر 2010م، "عندما عمد بائع للفاكهة والخضروات إلى إضرام النار في نفسه كعمل من أعمال الاحتجاج" (المرجع السابق).
أي أن الظروف التي اضطرته إلى ذلك كانت ظروف المعيشة والتضييق الذي يتعرض له من قبل "البلدية" حتى اضطر إلى أن يعلن احتجاجه الاجتماعي بإحراق نفسه. سقط البعد الاجتماعي، وتم محوه من الذاكرة، ليصبح الموضوع إسقاطاً للأنظمة وقلقلة للجغرافيات، وترك البلدان دون نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي يلملم شتات الجغرافيا.
لقد انساق الوعي الفردي مع الجماهير التي تم سوقها في مسار لم تختطه هي. إن وعي الفرد كان ينجرف بحثاً عن أمانه وفقاً لعبارة "جورج أورويل" في روايته (1984م): "عليك أن تصبح دائماً مع الجماهير، هذا ما أقوله، إنها الطريقة الوحيدة لأن تكون آمناً".
وتأتي شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لتعزز من سطوة الجماهير العمياء، والموجَّهَة.
يرى مؤلف كتاب "انتقام الجغرافيا" أن الهشاشة متأصلة في الجغرافيا اليمنية. "كانت اليمن تمثل ما أطلق عليه العالمان الأوروبيان، اللذان عاشا في القرن العشرين، إرنست غلنر، وروبير مونتاني، اسم المجتمع المجزأ، وهو ثمرة طبيعية شرق أوسطية تعصف بها الجبال والصحارى. ولكونه يتأرجح بين المركزية والفوضى، يتجسد هذا المجتمع وفقاً لصياغة مونتاني في نظام يستنزف الحياة من منطقة ما، وأنه بسبب الهشاشة المتأصلة فيه فقد فشل في إقامة مؤسسات دائمة. فهناك تتسم القبائل بقوتها والحكومة المركزية بضعفها، وبالتالي فإن الصراع من أجل بناء أنظمة ليبرالية في مثل هذه الأماكن لا يمكن فصله عن مثل هذه الحقائق" (ص18).
والحقيقة أن هذه اللغة الجغرافية الحتمية في مصادراتها تؤسس لمسار قادم باسم حتمية الجغرافيا، فالتأرجح بين المركزية والفوضى يتعلق بعوامل اقتصادية، وأخرى مرتبطة بتحديات الخارج الغازي، لا بالجغرافيا التي هي طبيعية، ويوجد لها ما يماثلها في العالم، والقبيلة تخضع مثلها مثل غيرها من العوامل الاجتماعية لقوة الدولة المركزية أو ضعفها، فحين تضعف الدولة تتقوى كل الأوهام، سواء أكانت قبلية أو مناطقية أو مذهبية أو جهوية، وهو ما يستدعي إعادة رسم الجغرافيا وفقاً للحالة السياسية والاقتصادية وليس العكس!
إن هذه اللغة التي تستعين بحتميات متوهمة جغرافياً، في جعلها الهشاشة مقدمة جغرافية وليست نتيجة؛ فيها مصادرة للعقل وللجغرافيا الطبيعية وللتاريخ والإنسان في آن.
لهذا ينطلق كتاب "انتقام الجغرافيا" من هذه المقدمات التي تزيح الوعي لتؤسس لأيديولوجيا جديدة، ومن ذلك قوله: "فحتى الترتيب المكاني للقبائل الليبية ولسلاسل الجبال اليمنية سيستمر في لعب دور حاسم في التطور السياسي في تلك البلدان". ومع أن المؤلف ينفي قدرية الجغرافيا، "يقتصر دور الجغرافيا على التنوير، وليس التحديد، وبالتالي فإن الجغرافيا ليست مرادفاً للقدرية"؛ لكنه ينقض ذلك حين يعطي للجغرافيا دور "توزيع القوة الاقتصادية والعسكرية ذاتها"، وما يحدث في الواقع هو العكس، أي إعطاء الجغرافيا دور الموزع والمتحكم بالقوة الاقتصادية والعسكرية، وليس العكس.
للجغرافيا ثوابتها في تكرار الصراع بتعاقب، رغم اختلاف الأيديولوجيات والحكام، ومن ذلك الصراع الجغرافي بين اليمن والحجاز على الحدود. في العام 1942م، كتب بجامعة ييل، نيكولاس ج. سبيكمان، وهو منظر استراتيجي أمريكي –هولندي بارز من حقبة أوائل الحرب العالمية الثانية، أن "الجغرافيا لا تجادل، فهي ما عليه ببساطة". ويستطرد قائلاً: "الجغرافيا هي العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول، لأنها أكثر ديمومة. يأتي الوزراء ويذهبون، وحتى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظل راسخة في مكانها. إن جورج واشنطن دافع عن ثلاث عشرة ولاية بجيش غير نظامي، وقد خلفه فرانكلين د. روزفلت الذي كانت تحت تصرفه موارد قارة بأسرها، لكن المحيط الأطلسي استمر في فصل أوروبا عن الولايات المتحدة، كما أن موانئ نهر سانت لورنس ما زالت تغلق بسبب الجليد في فصل الشتاء، أما ألكسندر الأول، وهو قيصر جميع الأراضي الروسية، فقد أورث ستالين، الذي كان عضواً بسيطاً في الحزب الشيوعي، ليس فقط سلطته، ولكن كفاحه الذي لا ينتهي للوصول إلى البحر، في حين ورث ماجينو وكليمنصو من قيصر روما والملك لويس الرابع عشر قلقهما على الحدود الألمانية المفتوحة" (انتقام الجغرافيا، ص50).
وعلى ذلك نفهم موقف الإمام يحيى والرئيس إبراهيم الحمدي وقحطان الشعبي وسالمين وعلي عبد الله صالح وحركة أنصار الله في الصراع البارد أو الدموي مع حكام الكيان السعودي. إنه صراع الجغرافيا الذي لا يزول بتغير الأشخاص والأيديولوجيات، وإنما يستمر وإن اختلفت الرايات، فالجغرافيا ثابتة.
وفي سياق ثوابت الجغرافيا فإن بطرس الأكبر، حين جعل من مدينة بطرسبورغ عاصمة لروسيا في حماقة استمرت قرنين ضد حقائق الجغرافيا، كما يرى صاحب كتاب "انتقام الجغرافيا"، لم يكن ذلك سوى حماقة؛ "غير أن موسكو المرتبطة بالأرض –ومن ثم بالجغرافيا– انتصرت مجدداً في نهاية المطاف. للإرادة البشرية حدود لا يمكن تجاوزها" (ص69). ومن ذلك حين يتم نقل العاصمة في اليمن من صنعاء إلى تعز أو جبلة أو عدن أو حضرموت أو زبيد أو غيرها في الجغرافيا اليمنية، فإن ذلك لا يعد سوى حماقة تخضع للأمزجة والهويات الضيقة، في محاولة لتجاوز حقائق الجغرافيا، لكن الإرادات الحمقاء سرعان ما تهوي في قيعانها لتستعيد صنعاء محوريتها كعاصمة لليمن الواحد.
في حرب التحالف بواجهته السعودية/ الإماراتية وجوهره الأمريكي البريطاني/ الصهيوني، تسعى هذه الأطراف في حربها على اليمن إلى تغيير سلوك حركة أنصار الله، ونقلها من محور المقاومة إلى محور التطبيع والانقياد للمشروع الأمريكي. ويستخدم تحالف العدوان والاحتلال، للوصول إلى غايته، إلى جوار ماكينة الدمار الحربية جواً وبراً وبحراً، يستخدم تقنيات شبكة الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنها التقنيات ذاتها التي تلحق "الهزيمة بالجغرافيا، تمتلك القدرة أيضاً على تعزيز الجغرافيا" (انتقام الجغرافيا). فالجغرافيا السياسية هنا تحل محل الأيديولوجيا. ومحو الذاكرة رقمياً يواجه بتعزيزها، فالأمة كما يقول هنتنغتون، المنظر الأمريكي لحروب الثقافات، "مجتمع مستعاد من الذاكرة، أي المجتمع الذي يملك ذاكرة تاريخية عن نفسه" (انتقام الجغرافيا، ص400 ـ 401). ولأن الكيانين السعودي والإماراتي بلا ذاكرة فإنهما حريصان على تجريف الذاكرة اليمنية من خلال نهب الآثار، وتشويش ذاكرة الأمة، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الاليكترونية، خوفاً من تجذر الأمة اليمنية في التاريخ.
لم تكن نصيحة الملك عبد العزيز بن سعود لأبنائه بخصوص اليمن، والتي يشير لها المفكر علي الوردي، والصحفي والكاتب الشهير محمد حسنين هيكل، والتي تنص على أن الخطر على كيان السعودية المختلق والطارئ تاريخياً، يتمثل في وحدة اليمن أرضاً وإنساناً، لهذا نصحهم بالعمل على إبقاء اليمن هشاً تتنازعه الصراعات، وعلى ذلك بنى ورثته سياستهم تجاه اليمن، وكانت وظيفة اللجنة الخاصة زعزعة الاستقرار والتنمية والوحدة اليمنية.
بل إن قوانين الجغرافيا تقول ذلك، فبحسب كتاب "انتقام الجغرافيا" إن "الخطر الأساسي على المملكة العربية السعودية المرتكزة على نجدها هو اليمن؛ فعلى الرغم من أن اليمن لا تمتلك سوى ربع مساحة أراضي المملكة العربية السعودية، فإن سكانها يبلغون الحجم نفسه تقريباً، بحيث يقع القلب الديمغرافي البالغ الأهمية لشبه الجزيرة العربية في الركن الجنوبي الغربي الجبلي منها، حيث الهضاب البازلتية الشاسعة، والتي تنتصب مشكّلة تكوينات تشبه القلاع الرملية والفوهات البركانية، في حين تؤوي شبكة من الواحات الكثيفة سكانها منذ العصور القديمة" (ص313).
تعلم السعودية أن احتلال اليمن أمر مستحيل جغرافيا وديمغرافياً، لهذا تعمل على جعل اليمن ضعيفاً وهشاً، ومنقسماً إلى أجزاء متناحرة، عملاً بنصيحة الأب المؤسس عبد العزيز بن سعود، الذي حين سأله بعض السياسيين والصحفيين بعد حرب 1934 ضد اليمن، وأخذه لعسير ونجران وجيزان، واحتلاله للحديدة: لماذا لم يتوسع أكثر ليضم اليمن كله لحكمه؟ كان جوابه أنه لن يغامر بحماقة عَجِزَ الاحتلال البريطاني عن فعلها حين كان محتلاً لعدن وما سماه بالمحميات الشرقية والغربية.
إن ما يقلق السعودية هو تجذر اليمن كأمة في الذاكرة، في مقابل كيان المملكة الوظيفي الطارئ على التاريخ، فـ"مستقبل اليمن المزدحم بسكانه وذي الطبيعة القبلية سيمارس دوراً كبيراً في تحديد مستقبل المملكة العربية السعودية، وربما كان ذلك متعلقاً بالجغرافيا أكثر مما يتعلق بالأفكار" (ص317). ولأن الولايات المتحدة مع مضي الوقت سترفع يدها عن دعم هذه الحرب المكلفة، وفقا لمبدئها المتمثل بـ"اقتصاد القوة" فإن على الكيان السعودي أن يبحث له عن استراتيجية أخرى في تعامله مع اليمن، وفقاً لمبدأ الشراكة والجوار، بدلاً من أوهام اجتثاث الذاكرة كأمة وجغرافيا، وتلك بلاهة دامية، لكنها لا تستطيع تغيير ثوابت الجغرافيا وحقائق التاريخ.
المصدر محمد ناجي أحمد
زيارة جميع مقالات: محمد ناجي أحمد