محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

وطنية التكوين وعروبة التوجه وإنسانية المآل
"إن واجبنا الوحيد تجاه التاريخ هو أن نعيد كتابته" أوسكار وايلد.
الحرية عقيدة اليمن، وهي التوصيف الدقيق الذي نقله أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" عن أحد اليمنيين حين قال له: "بلادنا طيبة الهواء والماء، لكن أهلها دائماً في اضطراب (...) حاربنا الأتراك وحاربنا القبائل وحاربنا الإدريسي، ونحارب دائماً بعضنا بعضاً لنكون مستقلين (...) نحن أهل اليمن لا نخضع لأحد، ودائماً نحب الحرية ونحارب من أجلها" "ملوك العرب". ولهذا يقول رياض نجيب الريس في كتابه "رياح الجنوب": "مباركة هذه الأرض الحرة المتمردة، ومبارك اليمن السعيد عبر العصور، ومباركة الرياح اليمانية، الحاملة الخصب والخير، أينما هبت، ومبارك كل مواطن يمني يحب الحرية، ويحارب من أجلها ولا يخضع لأحد" (ص18).
لهذا كان الرئيس علي عبد الله صالح محقاً في قوله للملك فهد بعد حرب 1994م: "الفارق بيننا وبينكم، أنكم في السعودية تملكون وتحكمون، بينما نحن في اليمن لا نملك ولا نحكم، وإنما نُدير" (رياح الجنوب، ص41).
بعض الكُتاب في رسمهم لمسار وتكوين الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، يشاهدون وطنية الشهيد في إطار معزول عن توجهه العروبي، في صياغة تحاول أن تقدمه على أنه نأى بنفسه عن الانتماء القومي. على هذا النهج كانت كتابات محمد صالح الحاضري، وبنت عليه الباحثة أروى محمد ثابت في رسالتها المقدمة لجامعة صنعاء، لنيل درجة الماجستير 2018م، اعتقادها بيمنية مغلقة للشهيد الحمدي، أو بوطنية يمنية دون جناحيها العروبي والتحرري. وهذا تصور خاطئ من وجهة نظري سببه هو انتماء الشهيد للذاتية اليمنية التي مثلها العديد من الأحرار اليمنيين، لكنه أضاف لهذه الذاتية اليمنية التزامه بالعروبة والوحدة العربية كغاية لا تقدم للمنطقة بدونها. ولعل انتماءه لحركة القوميين العرب عام 1961م، حين كان طالباً في كلية الطيران، ثم تحوله مع الحركة إلى الحزب الديمقراطي الثوري اليمني قبل أحداث أغسطس 1968م بشهرين، ثم انتماءه للطلائع الوحدوية اليمنية، ذات التوجه الناصري، في منتصف السبعينيات، وحضوره مؤتمرهم العام الخامس عام 1977م، وانتخابه للجنة المركزية والمكتب التنفيذي... أقول لعلَّ في هذه الانتماءات ما يؤكد تميز الذاتية اليمنية لدى الحمدي بانتماء قومي تحرري، عكسته خطبه ذات التوجه الوحدوي، والتزامه بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب، ودعوته في كلمتيه اللتين ألقاهما في مؤتمر دول عدم الانحياز عام 1975م وعام 1976م، بحق دول العالم الثالث في أن تكون ثرواتها ملكاً لها، وضرورة إعادة العلاقة مع الدول الصناعية بشكل عادل يمكن دول العالم الثالث من السيادة على أراضيها وبحارها وأجوائها وثرواتها.
ولد إبراهيم محمد صالح الحمدي عام 1943م في مدينة قعطبة، وفي الكتاب الصادر عن وزارة الإعلام والثقافة 1977م، قبل اغتياله بأشهر، والذي يضم خطب ولقاءات الرئيس الحمدي من 13 يونيو 1974م إلى مايو 1977م، يذكر الكتاب أنه ولد عام 1942م.
تشير الباحثة أروى محمد ثابت في رسالتها البحثية إلى أن أم إبراهيم هي ميمونة الخطيب من بيت الخطيب الذين عرفوا بالخطابة في المساجد من مدينة قعطبة، وأبوه صالح محمد الحمدي من ذيبين التي تتبع عمران، وهم في الأصل من قرية "حَمِدة" في ريدة، وهي قرية القضاء. 
عمل أبوه قاضياً في الحديدة وآنس وماوية وقعطبة وذمار. 
حين كان محمد صالح الحمدي قاضياً في الحديدة بداية ثلاثينيات القرن العشرين اشتكى تجار الحديدة بالأمير البدر محمد بن يحيى، الذي مات غريقاً في بحر الحديدة أثناء محاولته إنقاذ أحد مرافقيه من الغرق، وقد حكم صالح الحمدي بخصوص شكوى التجار ضد الإمام يحيى، وفرض عليه تسليم 70 ألف ريال للتجار، وقد استجاب الإمام يحيى ونفذ الحكم.
حين رافق محمد صالح الحمدي وولده إبراهيم، الإمام أحمد برحلته العلاجية إلى إيطاليا عام 1958م، تنبأ له الإمام بمستقبل مهم، فقد لمس فطنة وذكاء عند إبراهيم وأجوبته على أسئلة الإمام أحمد، الذي اعتاد أن يسأل التلاميذ ويتفرس في ذكائهم، كما يشير إلى ذلك حسين الحبيشي في مذكراته، حين التقاه الإمام ووجه له بعض الأسئلة عند زيارته لمدرسته في عدن.
كان إبراهيم الحمدي قد التحق بكلية الطيران في صنعاء عام 1961م، إلاَّ أنه بحسب ما أورده اللواء يحيى المتوكل -زميله في الكلية – ترك الدراسة فيها بعد أشهر، بحجة أنه يريد أن يساعد أباه في أمور القضاء بلواء ذمار، والباحثة أروى محمد ثابت تورد في بحثها أنه ترك الدراسة لأن مدير الكلية عبد الله السلال طالبه بتسليم رسوم الدراسة وهي 120 ريالاً، إلاَّ أن الحمدي رفض دفعها، وحين علم ولي العهد محمد البدر بذلك تحمل تكاليف الدراسة بدلاً عنه، لكن إبراهيم الحمدي فضل العودة إلى ذمار ومساعدة أبيه حاكم ذمار، ولأن موقفه من السلال وموقف السلال منه كان سلبياً. وباعتقادي أن موقف عبد الله السلال من أبناء القضاة والسادة محكوم بحقد طبقي، انعكس في إصداره أوامر الإعدامات التي نفذت داخل الكلية الحربية في الأيام الأولى لثورة 26 سبتمبر، وقد نفذت الإعدامات بالقرب في الساحة، وكان علي عبد المغني يجلس في مدرعة متابعاً ما تبثه الإذاعات من أخبار وتحليلات عما يحدث في اليمن، غير مبال بما يجري من إعدامات بالقرب منه. ورأيي أن علي عبد المغني كفلاح من منطقة "خُبان"، كان مهموماً بالتغيير، ولم يكن لديه حقد طبقي تجاه السادة، وإن كانت الخصومة بينه وبين المقدم عبد الله جزيلان، قائد الكلية الحربية، من وجهة نظري، تعود إلى موقف من قوى المشيخ التي ينتمي إليها عبد الله جزيلان، فأبوه قائد جزيلان من نقباء ذي محمد بـ"برط"، وإن كان كتاب "أسرار ووثائق الثورة اليمنية"، الذي ألفه مجموعة من الضباط الأحرار، يحيلون سبب الخصومة، لدوافع شخصية تتعلق بعدم توزيع علي عبد المغني بعد تخرجه من الكلية الحربية عام 1961م، في المدفعية أو المشاة بحسب تخصصه، وإنما تم توزيعه إلى الجيش الوطني بما يخالف رغبته.
وفي أواخر حكم الإمام أحمد عين إبراهيم الحمدي حاكماً على ذمار بدلاً عن أبيه الطاعن في السن. 
قراءة خطب وكلمات الشهيد الحمدي خلال السنوات الثلاث والأشهر الأربعة التي حكم بها، تعطي تصوراً واضحاً لطبيعة المشروع الوطني الذي أراده الحمدي، وتنبه لخطورته الأعداء محلياً وإقليمياً ودولياً، فلم يعطوه الفرصة لإنجازه، واتخذوا قرارهم بتصفيته، وتصفية التجربة قبل أن يقوى عودها.
شدة عشقه الصوفي للشعب ينعكس باستخدامه عبارات حميمية تجاه الشعب، إضافة إلى استخدامه مفردات "الإخوة، الأخ، إخواني".
لم يكن الحمدي محتاطاً وحذراً من تدبير عملية اغتيال له، لهذا كان يتجول في مرات عديدة لوحده في سيارته الشخصية. يسأله صحفي عن صحة وجود محاولة لاغتياله، فينفي، ويقول ليس هناك محاولة للاغتيال، فأنا أتحرك بدون حراسة. 
في سؤال "أخبار اليوم" القاهرية في العيد الأول للحركة التصحيحية، عن حقيقة الإشاعات التي تتردد من أن هناك محاولة لاغتياله، أجاب: "هذه الإشاعات سمعتها أنا أيضاً، ولكنها ليست صحيحة.. ويمكن اغتيالي بسهولة إذا أراد أي شخص، لأنني أسير بلا حراسة" (خطب الرئيس الحمدي، ص44).
كان مفهوم الاستقرار والتنمية في وعي الشهيد الحمدي هو أن يكون الجميع منتجين، لا أن يعتاش البعض من دماء اليمنيين والحروب، كما حدث طيلة حرب الـ8 سنوات التي مولتها وقادتها السعودية ضد اليمن من 26 سبتمبر 1962 إلى مارس 1970. ففي كلمته التي ألقاها في اجتماعات المؤتمر الثالث لهيئات التعاون 23/11/1975م، جاء فيها: "... ومفهوم الاستقرار أيها الإخوة هو عدم العودة إلى التلهي بدماء المواطنين وبهدم وبتدمير القرى وتأتيم الأطفال وترميل النساء، إذ هناك من رأوا في حياة الأمن والاستقرار تعطيلاً لمواهبهم الحربية، وتجميداً لبطولاتهم ومنعاً للرزق، وكأنهم لا يستطيعون أن يعيشوا إلاَّ إذا ظلت البلاد قلقة وغير مستقرة والشعب في حالة تناحر واقتتال، بينما المجال لعمل الخير والإصلاح مفتوح أمامنا جميعاً، ونستطيع أن نعيشه ونعلن احترام وتقدير هذا الشعب وحبه بالعمل المخلص له ومن أجل رخائه وازدهاره... ( خطب وتصريحات الرئيس القائد إبراهيم الحمدي، ص97).
تقدم خطب الحمدي ومقابلاته صورة حية عن مساره وتكوينه الوطني والتزامه القومي مع الدول العربية والقضية الفلسطينية. 
إيمانه الوطني هو بوصلة علاقاته، فإذا تعارضت مصلحة اليمن مع أي انتماء اعتبر الانتماء الآخر خيانة، وطالب بفك الارتباط به، لهذا السبب باعتقادي كان انجذابه للناصريين اليمنيين حين استجابوا لشرطه أن يكون تنظيمهم يمنياً دون ارتباط بمركز خارج اليمن. فالأحزاب في اليمن كان قرارها في مصر أو بغداد أو سوريا أو ليبيا...
ما يلفت النظر أن كل الأعياد والمناسبات الوطنية والدينية والاجتماعية والاقتصادية تتحول في خطبه إلى فرص للتحشيد الجماهيري باتجاه النهوض الوطني والتنموي والمشاركة الشعبية: عيد الشجرة، يوم الأم، يوم الجيش الذي اتخذ من تاريخ 27 أبريل 1975م عيداً لبناء جيش وطني دون مراكز قوى مشيخية، وتم الاحتفال به في كل عام من ذلك التاريخ، إضافة إلى عيد العمال، وعيد الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر)، وعيد المعلم، ومناسبة قدوم شهر رمضان، واجتماعات لجان التصحيح، واتحاد هيئات التطوير التعاوني، واجتماعات لجان الإعداد للمؤتمر الشعبي العام، والإعداد لانتخابات برلمانية، والاحتفاء ب 13 يونيو من كل عام، وهو اعتبرها في مقابلة صحفية معه بأنها ليست حركة ولا انقلاباً، وإنما إصلاح وعودة إلى مسار ثورة سبتمبر.. كل تلك المناسبات والأنشطة كانت عناوين لتحشيد الجماهير نحو النهوض باليمن. مشروع كان في سباق مع الزمن، يريد أن يحرق المراحل ويقفز من مرحلة الحبو إلى مرحلة الوثب العالي... هذا هو الحمدي بإيجاز، ولهذا كان اغتياله اغتيالاً لوطن لا يُراد له أن يكون، أو أُريد له سعودياً وغربياً أن يظل فناءً خلفياً للارتزاق... 
يتبع

أترك تعليقاً

التعليقات