عن العولمة وسقوطها المزعوم
 

محمد ناجي أحمد

عمّقت العولمة الخصوصيات المحلية والهويات العرقية والطائفية، وسوّقت للصراع الثقافي، لقد كان همها إزالة الحواجز عن حركة المال والسلع في منافسة غير عادلة ومعروفة النتيجة سلفاً.
تعني (الكوكبية/العولمة) عالمية الشركات المتعدية الجنسيات، وبناء الجدران العازلة والمعيقة لحركة الأيدي العازلة، وقيام السلطات السياسية بدور موظف العلاقات العامة والسكرتارية، وتسهيل كل ما من شأنه إعاقة حركة السلع وفتح أسواق جديدة، وتوقيع الاتفاقيات التي من شأنها أن تفتح أسواقاً جديدة للسلع ورأس المال، وجعل المدن عوازل المعمارية تفصل بين الأثرياء والفقراء، بين من يملكون ومن لا يملكون، بين سكان الضواحي ومدن الصفيح والقصور المسيجة بالأسوار والصواعق الكهربائية وكاميرات المراقبة، مما يجعلها قلاعاً ثرية ومحميات تعمق من العزلة الاجتماعية والجزر الاجتماعية المتباينة.
لم يكن نجاح (ترامب) لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود الخطاب الشعبوي بعنصريته ومحليته المتوحشة، وظهور النزعات العدائية للغرباء عرقياً وثقافياً واقتصادياً، سوى تتويج لفوضى العولمة وانتقالها إلى جني الثمار بعد تنظير بدأ في سبعينيات القرن العشرين مع زبجينيو برجنيسكي وكيسنجر، وصولاً إلى نهاية التاريخ وبداية الرأسمالية عند فوكوياما، والصراع الثقافي وصراع الحضارات الذي نظر له صامويل هنتنجتون.. لم يكن ذلك ارتداداً عن العولمة، وإنما كان انتقالاً إلى مرحلة أخرى منها، أو وصولاً إلى نتائجها وجنيا لثمارها. فما أشار إليه (هنتنجتون) بطرف خفي -كما يرى مراد وهبة -عن تصاعد لتيار الجهادية الإسلامية، وتحول الإرهاب الإسلامي إلى خطر داهم على الحضارة الغربية، يبنى عليه كما أرى تصريحات (ترامب) العنصرية تجاه المسلمين في أمريكا، وكذلك إشارة هنتنجتون للصراع بين الحضارة الغربية والحضارة الكونفشيوسية، والتصريحات العدائية لـ(ترامب) تجاه الصين وصعودها الاقتصادي. ما فعله صاموئيل هنتنجتون هو أنه أخفى جوهر الصراع الاقتصادي والسياسي بقشرة خارجية سماها (صراع الحضارات)!
عولمة المال والشركات، وإذابة القوميات الكبرى في أشكال بدائية وقاتلة أساسها الدين والعرق والتحريض ضد المهاجرين (الغرباء)، مع أن المدن لم تبن إلاّ بالغرباء، بل المدينة مجتمع تعاقدي ليس فيه أصلي ودخيل، فـ(الغريب مكون دائم من مكونات حياة المدينة، ويأتي حضوره الدائم والشامل القريب ليزيد إلى حد كبير من اللايقين الدائم لأمور الحياة التي تشغل سكان المدينة جميعهم).
لم تنسحب النخبة العولمية الجديدة من التزاماتها لسكان المنطقة على عكس رؤية (زيجمونت باومان) في كتابه (الحب السائل) والانتقال من (العولمة الصلبة) إلى (العولمة السائلة)، فالدين الجديد الذي يراه (إريك شميث) مدير (غوغل)، والذي تقدمه الشركات العاملة في مجال تقنيات المعلومات والاتصالات وعالم الإنترنت، يجعل عالمنا أفضل من خلال التواصل التقني بين أعداد غفيرة من البشر، لكن هذا الدين المتخيل من وجهة نظري هو الذي يعمّق الفجوة والعزلة بين الواقعي والافتراضي، الحقيقي والصور الضوئية، بل جاء المتخيل الافتراضي ليزيح عالم الحقيقة لا بتكريس نسبيتها فحسب، وإنما إنكار وجودي لها، فالحقيقة هي ما تضخه الميديا وتقنيات المعلومات للمستهلك، لهذا فإن هذه التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية هي نتاج طبيعي، ومن متطلبات العولمة التي لا تأبه بالإنسان/ العامل، وإنما بتسليع الكون وصناعة الرغبات وإعادة تخليق عالم فموي، وثقافة استهلاكية.

أترك تعليقاً

التعليقات