رئيس التحرير - صلاح الدكاك

بات واضحاً أن الغاية المحورية في أجندة مهام وتحركات المبعوث الأممي مارتن غريفيتث، هي تجميد خيارات الرد العسكري اليمني، لا تفعيل خيارات الحل السياسي التشاوري.
قال غريفيتث غير مرة: (أولويتنا معالجة الجانب الإنساني وملف المعتقلين والأسرى ورواتب موظفي الدولة وفتح المنافذ..!)، غير أن هذه الملفات شهدت نكوصاً يفوق أضعافاً ما كانت عليه من سوء، فقط في غضون الأشهر التي أعقبت تصريحاته تلك..
مجازر التحالف بحق المدنيين ارتفع معدلها كيفاً وكماً، والانتهاكات البشعة بحق أسرى الجيش واللجان (الإعدامات تحديداً) أضحت مسلسلاً يومياً توثقه وتبثه عدسات عصابات العدوان غير متحرجة ولا آبهة بوعيد أممي محتمل، وعوضاً عن فتح (مطار صنعاء) أمام الحالات الإنسانية الحرجة، أغلق ميناء الحديدة إغلاقاً تاماً ببوارج التحالف 
وبعدوان دواعشه ومرتزقته براً على المدينة وخطوط الإمداد الحيوية الرابطة بينها وبين بقية المحافظات، وعبرت الأمم المتحدة، على لسان مبعوثها، وفي تقاريرها، عن عجزها في توفير مجال جوي آمن لالتحاق وفدنا الوطني بمشاورات (جنيف3)، كما وخسارتها للمعركة أمام (المجاعة اليمنية المتفاقمة)؛ وإذ تعشم اليمنيون انفراجاً في ملف الرواتب، كنتاج لضغط أممي جاد على (حكومة العمالة)، ضخت هذه الأخيرة ما يزيد على تريليون ريال مطبوعة بلا غطاء من عملة صعبة، فأوقعت عموم الشارع اليمني في هاوية موت جماعي، وضربت ما تبقى من عافية في اقتصاد البلد!
ما الذي فعلته الأمم المتحدة ومبعوثها الجديد إزاء كل ذلك! أبداً لم تفعل شيئاً، وأخفقت على مستوى كل تلك الملفات، ليس لأنها عديمة الحيلة، بل لأنها تعمدت أن تخفق، فوجهة نجاحها الذي سعت لإحرازه وكرست أجندتها لتحقيقه، تشير إلى ميدان آخر بعيد كل البعد عن الشأن الإنساني، وقد سجلت تقدماً ملحوظاً فيه، وإن غير مرئي للكثيرين من ضحايا حسن الظن.. لقد أمكن لـ(غريفيتث) تأمين مسلخ بري يزاول فيه تحالف العدوان حرفة القتل اليومي، وتمخر ناقلات النفط والسلع العالمية ـ بالتزامن ـ عباب الماء بمحاذاته دون خشية من أن تطالها حرائقه أو تعكر عليها أصوات الضحايا انسيابها الوادع جيئةً وذهاباً!
في لحظة اشتباك فارقة اختبر المجتمع الدولي عملياً بعض فداحة الكلفة المترتبة على إطلاق العنان لتحالف العدوان بحراً في محاولاته لاحتلال الحديدة بعملية حاسمة وخاطفة يبسط خلالها سيطرته على الميناء ويرغم أبناء الأرض على النكوص تحت وطأة الشعور بعدم جدوى المقاومة، وتلافياً لأكلاف الاستمرار فيها على الشعب، وفي مقدمتهم أبناء تهامة، قبل أن تخيب هذه المحاولات وترتد للنقيض مما استهدفه التحالف!
وقعت رقبة (باريس) ورقاب أخرى لم يكشف عنها، في قبضة (صنعاء)، وانفسحت فرص ثمينة ومواتية للذهاب بالرد البحري إلى الحد الذي يرغم المجتمع الدولي على استنقاذ اقتصاداته بتنازلات جدية وازنة لجهة (صنعاء).. ثم انتعشت فجأة رهانات الحل السياسي، وانحسر مد الاشتباك البحري لصالح جَزْر (الهدنة المائية) وجنوح قيادتنا السياسية إلى (لزوم ما لا يلزم) على مستوى قواعد الاشتباك وثوقاً بتعهدات المبعوث الأممي لجهة معالجة عاجلة وجادة لملف المعاناة الإنسانية والاقتصادية والدفع بعجلة الحل السياسي في اليمن قدماً.
عزفاً على أوتار (المروءة الثورية) التي فطن إليها غريفيتث لدى قيادتنا، أمكن له بحرفية عالية تحويل وجهة رياح الاشتباك مرحلياً لتجري بما تشتهي سفن المصالح الدولية، وعلى الضفة البرية الموازية أطلق العنان لعاصفة العدوان بلا مكابح، لتضرب بلا هوادة ما تبقى من أسباب حياة معيشية تحت آدمية أجهز التحالف على معظمها سلفاً خلال 3 أعوام من حربه الشاملة والغشوم على اليمن بدعم وتواطؤ دوليين.
في الأثناء، وتشتيتاً للانتباه، ومداً لحبال التعويل على جدية المنظمة الأممية، كان تقرير فريق الخبراء الأممي الذي يدين ـ لأول مرة ـ أسماء ودولاً في تحالف العدوان بجرائم حرب، كما والتصويت بغالبية لتمديد عمل هذا الفريق في اليمن، وقبلها توقيع الأمم المتحدة مع خارجية الإنقاذ، عبر منسقها للشؤون الإنسانية في صنعاء، (مذكرة تفاهم لإنشاء جسر جوي طبي إنساني لنقل المرضى وذوي الحالات الحرجة).
حتى بالنسبة للدول التي هالتها جرائم الحرب في (التقرير الأممي)، والمرتكبة بحق المدنيين في اليمن، على أيدي التحالف، فأعلنت تجميد صفقات بيع السلاح للسعودية والإمارات، فإن موقفها هذا لم يكن سوى تكتيك قصير الأجل، أرادت من خلاله التمويه على ضلوعها السافر في جرائم التحالف، وسرعان ما أفرجت لزبائنها من مجرمي الحرب عن مشترياتهم القذرة، بعد أن اطمأنت إلى أن ممر الملاحة في البحر الأحمر محروس ـ حتى حين ـ بأحابيل (غريفيتث) الإنسانية.
غير أن أسخف خطوة على الإطلاق كانت التوقيع على (مذكرة الجسر الجوي الإنساني)، فعوضاً عن أن تلزم الأمم المتحدة تحالف الجلادين بإنهاء إجراءات الحصار المخالفة لبنود القرار "2216"، والذي لا يخوله قانونياً بأي دور تنفيذي أو تفسيري، راحت توقع مذكرة تفاهم مع الضحايا كما لو أنهم هم الطرف المهيمن على الأجواء والعقبة الكؤود أمام الجسر الأكذوبة.
(إنها مسرحية هزلية، لا أعرف كيف يقبل ديبلوماسي كبير كهشام شرف، بلعب دور فيها!).
هكذا استدرجنا (غريفيتث) من خطام المروءة الثورية، ليوقعنا في دوامة التعويل، ريثما تتم جنازير وعجلات الحرب الاقتصادية مهمتها المتمثلة في تهشيم أضلاع الصمود الشعبي وعموده الفقري بمأمن من ردات فعل عسكرية حاسمة.
إن سفور قبح وانحياز المبعوث البائد "ولد الشيخ" للجلادين كانت سمة إيجابية تفتقر إليها ملامح (المبعوث الراهن) السمحة والملساء، والتي برهنت على براعة فذة في إعادة تجميل الوجه الأممي القبيح لجهة تضليل الضحايا والرأي العام الثوري.
كان حديث الشهيد الصماد قاطعاً وساطعاً كالمهند، في معرض وعيده برد يمني مشروع على الحرب الاقتصادية التي يشنها التحالف على اليمن...
(لن نسمح بأن يموت شعبنا تجويعاً، وسيكون ممر الملاحة الدولي وجهةً للرد إذا ما استمر التحالف في حصاره لبلدنا ومصادرة المرتبات وضرب العملة الوطنية).
بهذا الوضوح تحدث الشهيد الصماد لنائب المبعوث الأممي (معين شريم)، وفي حديثه لغريفيتث ذاته لاحقاً..
دبلوماسيتنا بحاجة لبروق وصواعق في خطابها، لا إلى وميض خجول وملغز..
يقول رئيس بعثة الصليب الأحمر الدولي إلى اليمن في فيلم وثائقي للقناة الألمانية: طالما لا خشية على المصالح الدولية مما يجري في اليمن فإن معاناة اليمنيين لن تسترعي انتباه أحد.

أترك تعليقاً

التعليقات