رئيس التحرير - صلاح الدكاك

يرزح الجنوب اليمني، بكامل مساحته المنتمية لخارطة ما قبل 1990 التشطيرية، تحت احتلال أمريكي بريطاني بمسوح خليجية، ويثير نجاح قوى العدوان في اقتطاع النطاق الجيوسياسي بحذافيره لما كان يعرف بـ(دولة اليمن الديمقراطية)، تساؤلات مرتابة حول ما إذا كان هذا الانزياح اندحاراً عسكرياً لسلطة أيلول الثورية في صنعاء، أمام تفوق قوى العدوان وضعف حاضنتها الشعبية في الجنوب، أم إعادة انتشار متعمدة على حدود الحرم الجيوسياسي لما كان يعرف بـ(الجمهورية العربية اليمنية)، بوصفها الحد التاريخي الأدنى لسيادة وطنية، لا مساومة عليها؟!
تفترض القراءة الكيدية لمجريات المشهد، والتي يقوم عليها خطاب (الإخوان)، ويتبناها بعض المحسوبين على اليسار والقوميين، أن عجز التحالف السعودي الأمريكي في تحقيق تقدم نوعي على الجبهة الغربية والجنوبية الغربية (الحديدة ـ تعز)، والجبهة الشرقية والشمال شرقية (مأرب الجوف)، هو عجز ناجم عن عمدية يميل معها التحالف للإقرار بسلطة (الحوثيين) على الشمال، مقابل تنازل هؤلاء عن الجنوب للتحالف، في استدعاء إخواني جلي ولئيم لخارطة سيادة الدولة المتوكلية إبان الاحتلال البريطاني للجنوب.
وهكذا فإن هواجس هذه القراءة الكيدية ليس مبعثها الابتئاس لوقوع الجنوب تحت الاحتلال، وإنما لاستعصاء الشمال على جبروت الترسانة العسكرية لتحالف العدوان السعودي الأمريكي، ولا دواء ناجعاً لهواجس أصحاب هذه القراءة، إلا بوقوع كامل البلد شمالاً وجنوباً تحت الاحتلال، وهو ما لم يحدث بعد مرور عام من العدوان، ولن يحدث مهما امتد أمد العدوان.
بيد أن هناك قراءة محفوزة بهواجس وطنية، تستشعر من جملة المتغيرات الأخيرة (التفاهمات الحدودية، والمفاوضات القادمة في الكويت)، أن (الجنوب) بات منسياً أو آيلاً للمقايضة في تسوية تنهي العدوان في حدود الانتشار الراهنة لأطراف التسوية الافتراضية، والتي لا يزال من المبكر الجزم بأنها ستنهي العدوان بالأساس!
إن تهدئة هواجس هذه القراءة والرد على تساؤلاتها ـ بطبيعة الحال ـ إزاء مصير الجنوب اليمني، لا تتأتى عبر إطلاق عنتريات الوعود بأن معركة تحرير الجنوب باتت قريبة، كاستجابة لشغف العاطفة الوطنية المشبوبة لدى أصحابها، وبالقفز على تعقيدات الواقع الموضوعي للصراع.
ثمة عدوان متعدد الأذرع والأدوات تديره الإدارة الأمريكية، وتستهدف من خلاله تدارك منظومة نفوذها الشرق أوسطي المتداعية بوتيرة متسارعة، وثمة مستهدفون إقليميون ودوليون بهذا العدوان الذي يبدو من حيث لافتاته عدواناً حصرياً على نطاق جغرافي اسمه اليمن، فيما تؤكد شمولية الرؤية الأمريكية الاستراتيجية للصراع، أن اليمن ليست إلا أحد أبرز مسارحه، لا مسرحه الوحيد، وأن الحاجة الأمريكية للإجهاز على المتغير الثوري الوطني بتصفية القيادة الطليعية لثورة 21 أيلول، هي حاجة تستشرف ضآلة مستقبل النفوذ الأمريكي في ظل انفتاح اليمن على خيارات تطور سياسي اقتصادي ترشح عن مغادرة قمقم الوصاية وامتلاكها بصيرة فرز الأعداء والأصدقاء، ومد جسور علاقاتها الخارجية بموجب قراءة وطنية مستقلة لجملة معضلاتها الداخلية على شتى الأصعدة.. الأمر الذي سيعني ـ بالنسبة للإدارة الأمريكية ـ مساحة حركة أوسع للكتلة الآسيولاتينية (بريكس) الناهضة بقوة، والمستشرية على حساب الجَزْر المتفاقم للأحادية القطبية، علاوة على حضور إيراني مميز في الخاصرة الجنوبية الحساسة ـ والتي لم تعد (حديقة خلفية) ـ لممالك الرمال ومدن الملح.. تخيلوا (سوريا أسدية) أخرى في جنوب الجزيرة.. هذا ـ بالتحديد ـ ما تستشرفه الإدارة الأمريكية من صورة مستقبلية مخيفة ستكون عليها اليمن، في حال لم تتم تصفية القيادة الطليعية لثورة 21 أيلول، وهذا هو ما أخفقت في تحقيقه خلال عام من العدوان، ودون تحقيقه فإنه لا قيمة لسيطرتها على الجنوب اليمني الذي يصبح عبئاً سياسياً وجغرافياً أكثر فأكثر كلما طال أمد العدوان ولم يحرز هذا الهدف.
إن تحرير الجنوب مرهونٌ بتكسير مجاديف المحاولات الأمريكية لاحتلال الشمال، ولا سيما الأجزاء البحرية منه، وتعز تحديداً، على قاعدة تثبيت السيطرة واعتماد آلية دفاع تستنزف القوة الهجومية للعدو، عبر الضربات الصاروخية النوعية والاستباقية، كما وعبر تنفيذ هجمات تستهدف تدعيم خطوط الدفاع لا السيطرة والتوغل.
أعتقد أن هذا هو ما يقوم به أبطالنا في الجيش واللجان، على امتداد مختلف جبهات البطولة والشرف. وإذ يفشل تحالف العدوان السعودي الأمريكي في مجابهة هذه الاستراتيجيا الدفاعية، عبر محاولاته الاتكاء على جغرافيا الجنوب اليمني المحتل، لاجتياح الشمال، فإن الجنوب يبقى سياسياً وسيادياً جزءاً من الجمهورية اليمنية، وفقاً لكل المواثيق الدولية ولدى كل المنظمات والهيئات الأممية التي لا تقر بغير عاصمة واحدة لليمن هي (صنعاء)، وعلم واحد هو علم دولة الوحدة؛ ومن غير الوارد بالمطلق أن يطرأ تحوير قانوني على هذا الإقرار الدولي الأممي في ظل عجز تحالف العدوان عن إحراز تحوير ميداني نوعي، يتمثل في حده الأدنى باقتطاع التخوم والمدن الساحلية للشمال، وزنزنة صنعاء جغرافياً، فيما يتمثل حده الأعلى في تقويض البنية العسكرية والأمنية والسياسية كلياً، لثورة 21 أيلول وقيادتها الطليعية، وذلك ما يبدو محالاً بعد عام من عدوان التحالف وإخفاقاته.
للتداوي من هذه المراوحة بين جغرافيا جنوبية تحت سيطرته، ويعجز بالقصور الذاتي في بلورة وضع سياسي خاص لها، وتأليف سلطة ما بشرعية ما عليها، من جهة، وبين جغرافيا شمالية خارج سيطرته من جهة مقابلة، وتحظى بسيادة مجمعٌ عليها دولياً كمركز يؤلف الجنوب امتداداً له.. يلجأ تحالف العدوان - إزاء مأزق المراوحة هذا ـ إلى إغراق الجنوب اليمني بـ(داعش والقاعدة) وإدارته أمنياً وعسكرياً من خلال شركات استخباراتية دولية خاصة على غرار (بلاك ووتر وداين جروب)، مبقياً على فجوة افتراضية شاسعة بينه وبين الجنوب، تتيح له التنصُّل رسمياً من المسؤولية عن كارثية الوضع هناك، والذي هو، بطبيعة الحال، نتاج مباشر لقرصنته العسكرية وعدوانه على اليمن بالعموم.
عدا ذلك فإنه يراهن من خلال هذه الفجوة، على إمكانية معاودة القرصنة العسكرية تحت يافطة (مكافحة الإرهاب)، متجاوزاً عثرات أدواته الإقليمية الجمة المتذرعة بيافطة (إعادة الشرعية).
غير أن ذريعة (مكافحة الإرهاب) لم تعد حصاناً أمريكياً حصريّ الامتطاء على (واشنطن)، بعد أن هتكت (موسكو) حرمة هذا المضمار بسنابك حصانها الآسيوي، واقتحمته من بوابة الأزمة في سوريا.
إن الإرهاب الذي تحتكر أمريكا بطولته بوصفها خصماً في الكواليس، وحكماً على خشبة العرض، بات هواية عصية على المزاولة بمنأى عن دور روسي، صيني، إيراني، ليس في الشمال السوري فحسب، وإنما في الجنوب اليمني أيضاً، وفي حال مضت (واشنطن) في هذا الطريق، فإنها ستصطدم بهؤلاء في جادة الطريق، عوضاً عن (أنصار الله).
إن تحرير الجنوب ـ في الحقيقة ـ أمر لا مناص منه، بيد أن أوانه يتعلق بقدرة (الانقلابيين الحوثيين وعفاش وبقية القوى الوطنية) على تنضيج قناعة إقليمية ودولية خارج منظومة النفوذ الأمريكي، مفادها أن صنعاء فعلت وتفعل ما بوسعها لتحرير الأرض، ولإعادة الحق إلى أصحابه، وإخفاقها في ذلك يعني أن العالم على موعد وشيك مع موجات فتية من الإرهاب، تختلج شرورها على سواحل البحرين العربي والأحمر، صوب أن تغدو طوفاناً عابراً للقارات!

أترك تعليقاً

التعليقات