رئيس التحرير - صلاح الدكاك

كان البناء الفوقي للحكم في اليمن، قبل فبراير 2011، عبارة عن سلطة مؤلفة من رأسين يمثل أحدهما وهو (صالح) الواجهة الرسمية لدولة مركزية واهنة تدار بتوافقية مضمرة مع الرأس الآخر الفاعل في الظل، والمتمثل في (أسرة الأحمر الإقطاعية) ذات النزوع الأيديولوجي الوهابي الإخواني..
ولم تكن الاحتجاجات الشعبية المناوئة لهذه السلطة مناطقية أو طائفية من حيث بواعثها، إلا أنها ستغدو كذلك من حيث الاستثمار السياسي الإقليمي والدولي لها، لا سيما في ظل غياب الحامل الوطني الثوري والسياسي لهذه الاحتجاجات، وطغيان النفوذ الإقليمي، وتحديداً السعودي، في اليمن.
لقد أجهزت الاحتجاجات الشعبية غير المنضبطة لرؤية وحامل وطنيين، على ما تبقى من دولة مركزية واهنة، وأفسحت الطريق لنشوء سلطة متعددة الرؤوس على محك مناطقي طائفي بمرجعية المبادرة الخليجية الموقعة في نوفمبر 2011، أعقبها جغرافيا حكم متعددة الأقاليم على محك مناطقي طائفي بمرجعية مؤتمر الحوار الوطني المختطف في 2013ـ2014، وفيما استهدفت ثورة 21 أيلول 2014 تصويب المسار الشعبي ومقاربة المعضلات المحلية في فضاء وطني تشاركي يقوم على التعدد المنسجم وغير المحترب داخل هوية وطنية جامعة، فقد جوبهت هذه الثورة بعدوان كوني شامل على اليمن شعباً وتراباً.. ومن ثم استثمار النتائج الكارثية الناجمة عن العدوان اليوم في تمرير تسوية أمر واقع على طاولة مشاورات الكويت، تفضي بالبلد من طور تعدد الرؤوس في السلطة الواحدة، إلى طور تعدد السلطات وفقاً لما تسيطر عليه كل سلطة من نطاق جغرافي وما تحتكم عليه من سلاح وما تحظى به من دعم إقليمي ودولي.
إن هذه التسوية التي باتت شبه ناجزة نظرياً، لا تضع قوى مناهَضَةِ العدوان على قدم المساواة مع قوى الموالاة للعدوان، فحسب، وإنما تتوقع أيضاً من المكونات الوطنية الثورية والسياسية، أن تتصرف كمكونات انعزالية (طائفية ومناطقية) في حدود نطاق سيطرتها. إذ لا يعود للفضاء الوطني مجاله المريح في ظل جغرافيا مشرذمة تتكئ فيها الأيديولوجيات الانعزالية على قوة السلاح وانتفاء مركزية الدولة الوطنية. كما لا يعود الفرز في هذه التسوية فرزاً بين بلد معتدى عليه من جهة، وبلدان أجنبية معتدية من جهة مقابلة، فالواقعة لا تعود هي الأخرى واقعة عدوان خارجي، بل أزمة داخلية محضة بين مكونات تتسع لتشمل (القاعدة وداعش) وبقية قائمة الخونة والعملاء وأدوات العدوان الأجنبي على اليمن.
ويبدو أن هذه التسوية تحظى بدعم حتى من التكتل الروسي الصيني + إيران ذاتها، إذ إن هذه الدول لا ترغب مرحلياً في أكثر من بوابات نفوذ ولو ضيقة لإدارة حربها أو (اشتباكها البارد) بالأصح مع (واشنطن ومجموعة أدواتها) في كنف إعادة هندسة مناسيب النفوذ والمصالح وشكل المنطقة لاستيعاب القوى الجديدة والمتغيرات التي تفرض ما تشبه (سايكس بيكو) أخرى على واقع الخارطة الشرق أوسطية، ولا سيما حوضها وخزانها النفطي الضخم.
إن نجاح هذه التسوية يجعل من اليمن متنفساً للخلافات البينية الخليجية ـ الخليجية، والأمريكية ـ الروسية الصينية، والأمريكية البريطانية، والإسرائيلية السعودية ـ الإيرانية، بمنأى عن تفاقم هذه الخلافات في مركز وبؤرة الخزان النفطي الأضخم عالمياً.
لا يتعلق الأمر في القبول بعودة (هادي)، على كارثية ذلك، بل بفتح متسع من النفوذ والوصاية السعوديين مجدداً على المشهد السياسي اليمني، بالتوازي مع إفساح متسعات أخرى لنفوذ (إماراتي ـ قطري)، من ذات القاعدة التي تقوم عليها التسوية، والمتمثلة في أنه لا مناص من القبول (بالآخر) أياً كان، ضمن فضاء المرحلة (الانتقالية القادمة)، ووفقاً لمعطيات الأمر الواقع، حيث تسيطر قوات الاحتلال الأمريكي السعودي الإماراتي، على تراب الجنوب اليمني بالكامل + مأرب ـ الجوف ومعظم تعز، بصورة مباشرة، أو من خلال التلطي بأقنعة محلية تمثل الطرف الآخر في مشاورات الكويت اليوم.
ما الذي يتبقى من ثورة 21 أيلول في ظل ذلك.. تقتضي الدبلوماسية والبراغماتية السياسية التراجع من خانة التوصيف الثوري لـ21 أيلول، إلى درك توصيف هذا التاريخ الذي رهن اليمنيون كل بيض أحلامهم في سلته، بمجرد (أحداث)، كما والرضوخ لـ(لَبْنَنَة اليمن) باعتباره أعلى سقوف الكسب مرحلياً، بالنسبة لمكون ثوري طليعي وجد نفسه وحيداً في خضم اختلاج مصالح عالمية كبرى وتقانة عسكرية ليس من السهل الانتصار عليها رغم زمن الصمود الفذ والأسطوري في وجهها، وعظم التضحيات المقدمة على مذبح مجابهتها.
إن (إعادة الإعمار، وفتح أبواب السفارات، وعودة التمثيل الدبلوماسي، وفتح منافذنا البحرية والبرية للسلع والموارد الأساسية)... كل ذلك هو رهن للقبول بالتسوية الآنفة.
ويمثل حصار شعبنا جواً وبحراً، وامتهان أبنائه في محاكم تفتيش (بيشة ـ عمَّان ـ جيبوتي)، واستمرار تحليق وغارات (الإف16)... كل ذلك يمثل أدوات ضغط ينظر إليها حتى (الصينيون والروس) بوصفها مشروعة للمضي في إنجاز التسوية.. عدا ذلك، فإن هذه القرصنة الدولية الفاضحة تمثل من وجهة نظر الأطراف الرعاة ضمانات للالتزام بالتسوية أثناء إسقاطها على الواقع، إذ إن هذه القرصنة يمكنها أن تعاود العمل في أية لحظة يعتقد خلالها الرعاة الـ18 أن طرفاً ما (لا سيما أنصار الله) قد أخل بشرط من شروط التسوية عملياً.
ومع ذلك، فإنه يتعين علينا أن ننتظر ونأمل تبدلاً في معطيات الواقع لصالح شعبنا اليمني الصابر، لا لمصلحة أدوات ودول العدوان عليه.. ولصالح المضي في الثورة حتى المطاف الأخير، وتحقيق رفع وصاية كامل عن القرار اليمني الوطني، لا المضي في نفق تسوية تجهض حلم الكينونة الوطنية بثلث استقلال وثلث حرية وثلث كرامة..
علينا أن ننتظر ونربي الأمل في حصول ذلك.. 

أترك تعليقاً

التعليقات