عُمان.. المفاوض الخفي
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

اجتاحت قوات الاحتلال الإماراتي السعودي، الأسبوع قبل الفائت، منطقة الأمان العماني الهش في محافظة المهرة اليمنية الحدودية..
على نحو فج وصادم وجدت (مسقط) نفسها عملياً أمام واقع جيوسياسي تمسك خلاله جارتاها الخليجيتان اللدودتان بخناقها الجغرافي غرباً، وتنشر بيادقها الجهوية والعسكرية والدينية على امتداد تخومه البرية والبحرية الحدودية التي مثلت سياجاً وقائياً للسلطة على الدوام، وبالأخص في غضون سنوات الاشتباك العسكري الثلاث في اليمن.
الدولة الخليجية المنكفئة على ذاتها بوداعة في الظاهر اضطرت لمغادرة شرنقتها مرتين فقط خلال الـ(17 عاماً) الأخيرة المنصرمة، وبصورة لا سابقة لها منذ نشوئها كسلطنة موحدة في (يوليو 1970)، وفي الحالين فإنها غادرتها بدافع تلافي أخطار وشيكة أو محدقة؛ مرة على خلفية الحاجة الملحة لاحتواء تداعيات الأزمة المحتدمة حول (الملف النووي الإيراني)، والأخرى على خلفية تدشين السعودية تحالفاً عسكرياً من عدة دول، بينها الإمارات، للحرب على اليمن!
في (أزمة النووي الإيراني) أمكن لـ(مسقط) أن تلعب دور ضابط اتصال نشيطٍ وفاعلٍ بين طهران ومجموعة ما يعرف بـ(خمسة + واحد)، غير أن إنهاء هذه الأزمة بالاتفاق الشهير زامن اندلاع أزمة أخرى هي العدوان على اليمن لسوء حظ السلطنة، وتحتم على (مسقط) أن تضطلع بدور وقائي فيها، لم يشفع لها على أهميته، وانتهى الحال بها في دائرة الخطر الداهم، بعد نحو 3 أعوام من الاشتباك وقرابة 5 جولات تشاورية كانت السلطنة جسراً لها ومحطة رئيسة لمجرياتها.
باتت (عمان) اليوم على بيِّنة من كارثية مآلات العدوان على اليمن، وأكثر من ذلك، ضحية تالية له تلسع نيران تداعياته نياط عاصمتها ونسيجها الاجتماعي الوادع، وتهدد استقرارها المديد بجائحة من الإرهاب التكفيري الوهابي المدجج بحقد جارتيها التقليدي العريق عليها، الأمر الذي تبدو معه السلطنة ـ في الراهن ـ أقرب إلى طرف مقَنَّع خجول منها إلى مضافة أو جسر وسيط للمشاورات على مستوى الأزمة في اليمن.
في هذا السياق يمكن فهم دوافع المجتمع الدولي لتدوير وسائط وبوابات مقارباته للحل السياسي في اليمن، بدءاً من الرضوخ لمطلب (صنعاء) بتغيير المبعوث الأممي، وصولاً إلى تشريع بوابة دبلوماسية بريطانية مباشرة على الأزمة، بديلة للأمريكية!
لقد أفسح مجموع المتغيرات العسكرية والميدانية الضاربة الذي بحوزة القيادة السياسية الوطنية في صنعاء، مجالاً مواتياً أمام (مسقط) لاستثمار رصيد علاقاتها التاريخية الوازنة مع كل من (لندن، طهران، وصنعاء)، في الدفع صوب تحريك عملية سياسية أكثر واقعية تقوم على مبدأ تشارك المخاوف ضمن طيف الأطراف الإقليمية المعنية بتداعيات مجريات الاشتباك في اليمن سلباً وإيجاباً.
إن مناطق السيطرة الجغرافية لتحالف العدوان والاحتلال في اليمن، والتي يقع معظمها جنوب خارطة الجمهورية، تمثل تهديداً إقليمياً وشيكاً أو محتملاً بالنسبة لـ(عمان وإيران) بدرجة رئيسة، وتالياً (الكويت وقطر)، ودولياً لـ(الصين)، وفي المقابل فإن مساحة سيطرة القوى الوطنية المجابهة للتحالف، والتي يقع معظمها شمال الخارطة، تمثل تهديداً لمجموع دول العدوان ومديرها التنفيذي الأمريكي، وإذ يعجز تحالف الاحتلال عن إنجاز تقدم عسكري جيوسياسي شمالاً، أو تقرير المصير السياسي لما يقع تحت سطوته من جغرافيا، كما وعن حماية عواصم ومدن بلدانه من الضربات الباليستية اليمنية الطائلة، تلوح قيادة صنعاء الوطنية ممسكة باقتدار بزمام جغرافيا سيطرتها سياسياً وعسكرياً، مع امتلاك قدرة نارية نوعية حاكمة على الجغرافيا المحتلة، بالتزامن مع قدرة عملياتية على التوغل ميدانياً في عمق أراضي العدو وقضم مدنه الرئيسية وتقويض سيادته عليها.
إن تسوية الأوضاع المهددة لـ(سلطنة عمان) في جنوب اليمن هو المسعى الرئيس لحكومتها المتسربلة حتى اللحظة ثياب الوسيط المحايد، وليتحقق لها ذلك عليها أن تستحضر مخاوف إيران كنظير وصاحب مصلحة في الإسهام برؤية في أية تسوية سياسية محتملة للأوضاع في اليمن، دون أن تُغفل محورية الحضور الأمريكي في الاشتباك الدائر، وهكذا فإن بريطانيا ذات رصيد الخبرة الاستعمارية الوافر في مسرح الاشتباك تبرز بوصفها حجر توازن ممكناً ومقبولاً ضمن جدل المخاوف والمصالح المتضاربة حول اليمن.
إن معرفة السقوف اللازمة لتأمين وتهدئة مخاوف كل طرف من الأطراف المعنية بمستقبل العملية السياسية في اليمن، مفيد لجهة حاجة المفاوض الوطني في صنعاء لإدارة كل هذه المخاوف بما يخدم تحرير كامل التراب اليمني، ورفع الوصاية على القرار السياسي، والإقرار بحق اليمنيين في مقاربة معضلاتهم الداخلية وخلافاتهم تشخيصاً وحلاً بمنأى عن سياسة القرصنة وفرض الأجندات الخارجية الإقليمية والدولية؛ وبعبارة أخرى فإن حرية واستقلال اليمن ووحدة أراضيه وتناغم نسيجه الاجتماعي هو السبيل الوحيد لأمن واستقرار بلدان المنطقة والعالم وضمان مصالحها المشروعة، وهو ثابت يتعين أن ينتظم مجمل نشاط ومقاربات المفاوض الوطني وسقف تنازلاته ومكاسبه.
إن جنوب اليمن المحتل هو وجهة التفاوض بالنسبة للعدو والصديق والمحايد (مجازاً)، فترتيباً على الموقف منه سيتقرر مصير الجغرافيا اليمنية غير المحتلة، في تقديرات طيف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية..
وقد أحسنت القيادة السياسية في صنعاء صُنعاً بقرارات تعيين محافظين لبضع محافظات جنوبية، بينها عدن وسقطرى، إذ إنها بذلك شغلت ـ ولو نظرياً ـ سقف سيادتها في حده الأعلى على تراب الجمهورية اليمنية، كما أن تدشين انعقاد جلسات البرلمان برئاسة الرئيس صالح الصماد، الخميس الفائت، برهان عملي على الإمساك بزمام مركزية القرار المؤسسي وتعاظم رصيد القيادة السياسية من الثقة لدى الشارع اليمني العريض والاقتدار الفذ على تنغيم طيف الاختلافات بناظم وحدة الصف الوطني وتماسك الجبهة الداخلية المناهضة للعدوان..
إن أية مفاوضات سياسية مقبلة ستكون حصيلة للتفاوض مع (الصديق والمحايد) قبل العدو، إذ إننا ندرك سقف أطماع هذا الأخير وسقف تأثيره، لكننا نجهل سقف مخاوف (الصديق والمحايد)، وينبغي أن ندركها جيداً بالأحرى ليكون في مقدورنا تجييرها ضمن مخاوفنا الوطنية وآمالنا، لا العكس.
إن مشهد (الأزمة في اليمن) ـ إن صح التعبير ـ يغدو شيئاً فشيئاً أشبه بمشهد (الأزمة في سوريا)، وجنوب اليمن هو شمال سوريا في حساب الاشتباك الإقليمي والدولي، حيث يجد المفاوض الوطني نفسه منخرطاً على الدوام في بلورة محدداته للممكن وغير الممكن والمقبول وغير المقبول، بالجدل المباشر مع الصديق والحليف قبل العدو..
في هذه الحال فإن (صنعاء) إما أن تكون محوراً في العملية السياسية التشاورية بما تحوز عليه من مكتسبات وازنة ميدانياً ورسوخ على تربة الواقع، أو أن تكون رديفاً لمخاوف الآخرين الباحثين عن طمأنينتهم وثباً على مخاوفنا الوطنية المشروعة، وهدراً وتجييراً لمكتسباتنا كرصيد مجاني على مذبح الصداقة والود.

أترك تعليقاً

التعليقات