رئيس التحرير - صلاح الدكاك

استمرارية ثورية من ماء التكوين إلى دخان القيامة 
عن قا ئد لا يستريح على قارعة الثورة

صلاح الدكاك / لا ميديا -
كان خطاباً يليق بعام ثامن من ثورة اندلعت في الـ21 من أيلول/ سبتمبر 2014، ولاتزال مستمرة وبزخم أعلى وبإرادة متعاظمة وسطوع رؤية لما كان وما هو كائن وما ينبغي أن يكون...
ربما خَفَت الوهج الثوري لدى بعض الثوار وخبا تماماً لدى آخرين، لكن الثورة بنار وهجها.. بنورها ولهبها.. بنبل دوافعها وسمو أهدافها.. ووطأة آلامها وعظمة آمالها لم تبرح تتجلى سرمداً من عنفوان وأبدية من فُتوّة وصِبا وشغف في روح وملامح وأبجدية سيد الثورة وقائد قوافل أحرارها وحادي بحر شعبها الشريف... سرمد استمرارية وثَّابة لا تؤمن بمفهوم استراحة المحارب ولا يتسرب لمفاصل عزيمتها فتور تنسج منه مخملاً ذرائعياً للقيلولة والهجوع على قارعة الفعل وهامش تحديات طريق الثورة الطويل... وأبديةٌ إنسانيةُ النَّزْف، لكن لها ديناميكية الكواكب والأجرام التي تنزف حرائقها ضوءاً سخياً ولا تُخلف البَشَرَ مواعيدَها شروقاً في غروب وغروباً إلى شروق وسَبْحاً بلا منتهى في مدارات بذل تمتد من ماء التكوين إلى دخان القيامة.
بين الخطاب والخطاب لا غياب، بل حضور في ميادين العمل والتخطيط والاستشراف وريادة الفعل الثوري وقيادة المعركة في مواجهة أخطر الأعداء والغزاة، بحساب ذاكرة الاستهداف العريق لليمن، وفي خضم أفتك حرب عدوانية شهدها التاريخ ضد بلد كاليمن جرى تجريده سلفاً من كل أسباب المنعة والقوة طيلة نصف قرن من الارتهان والاستلاب الرسمي قبل أن يباشر الوصيّ الكوني الأمريكي عدوانه الشامل عليه بهدف تمكين سلطة أدوات الوصاية الكونية مجدداً من قراره المستقل الذي انتزعه الشعب بثورة فارقة أطاحت بصولجان العمالة والتبعية.
إن غياب القائد عن سياق القول هو حضور في سياق الفعل، وحضوره في سياق القول هو دعوة تستنهض طاقات شعبه في سياق الفعل والبذل.
«فلنعمل سوياً، فلنواجه تحديات العدوان معاً، ولننهض باستحقاقات الثورة معاً جاعلين من كل تحدٍّ فرصة لجدارة الحياة بكرامة وحرية واستقلال وأفقاً للابتكار والنهوض كمجتمع متعاون ومسؤول يعي جيداً أولوياته في ظل عدوان وحصار كوني مستمرين وهدنة مؤقتة».
هل كنا سنكون أحسن حالاً مما نحن عليه اليوم لو لم تندلع ثورة الـ21 من أيلول التي تطوي شمسها مدار العام الثامن؟!
لماذا ثرنا؟! ماذا أنجزت ثورتنا؟! أين أخفقت؟! وما الذي تصبو إليه ويتحتم عليها إنجازه؟
بمحورية من هذه التساؤلات الجريئة وغير الهيَّابة والصادقة في استهدافها تقييم المسار وتشخيص معضلاته وتحدياته وجدولة أولوياته مع الشعب وفي أثير الرأي العام للشارع اليمني؛ تغدو كلمة السيد القائد أبو جبريل أقرب لندوة ثورية مفتوحة تتوافر على كل هواجس الراهن وزوايا المقاربة، لا خطاباً مناسباتياً يُدحرج على رؤوس وأذهان المستمعين قوالب اللغة الكرنفالية الميِّتة ويُلبِّدُ أنفاسهم بزوابع من غبار الإنشاء وخُواء الدلالات...
لماذا ثرنا؟! لننتزع حريتنا واستقلالنا وقرارنا السيادي على بلدنا وثرواتنا وتوجهاتنا الوطنية إقليمياً ودولياً كيمنيين لهم هويتهم الإيمانية والحضارية ولا وصاية عليهم...
وهل كنا نرزح تحت احتلال أجنبي قبل الثورة؟! أجل.. وشواهد ذلك كثيرة ومنظورة.. يكفي -فقط- أن تراجعوا يوميات السفير الأمريكي في صنعاء والذي كان رئيساً للرئيس والحكومة ووزرائها؛ وأطلقت عليه صحافة الحزب الحاكم نفسه -حينها- لقب «المندوب السامي» و«بريمر اليمن».
ولكننا ثرنا في 2011 فما الحاجة لثورة أخرى؟!
أجل ثرنا على سلطة الوصاية فوقعت الجماهير في رَسْن «المبادرة الخليجية» الذي أَحْكَمَ الأمريكي صنعه ليطبق على عنق شعبنا بلا فكاك ويتسنى له تقطيع أوصال البلد وتمزيق نسيجه الاجتماعي وتقويض منظومته القيمية كمشروع استعماري كان يسير تدريجياً على مايرام خلال عقود سابقة وبلا كُلفة تُذكر على الوصي الكوني الأمريكي، لولا ثورة الـ21 من أيلول التي كانت حصيلة لالتفاف شعبي واسع قوامه كل الطيف الاجتماعي والفكري في اليمن وكل الأحرار، وامتلكت زخم ومشروعية الاستمرارية والعبور فوق حطام الرسن الأمريكي صوب لحظة وطنية خالصة لا تشوبها شائبة وصاية ولاتزال قوافل أحرارها تدفع من خبزها وعرقها ودمها ولحمها إلى اليوم ثمن هذا الهدف الإنساني النبيل والمقدس ماضيةً في طريق الثورة بلا وهن ولا استبهاظ لمهر الكرامة والحرية والاستقلال.
كان خيار النكوص والخنوع عن الاستمرارية والمواجهة سيضع رؤوسنا حيث هي رؤوس شرعية الدُّمى ومجلس الأراجوزات الثمانية اليوم.. لقد اخترنا أن نعصب جباهنا بالشموس واحتملنا لفحها ولهبها، وأما الخانعون فعصبوا رؤوسهم وأيديهم وأرجلهم في وضح الشمس بشراك الأحذية السعودية والإماراتية الموصولة بكعب واشنطن ولندن وعواصم الاستعمار الغربي!
وبين جغرافيا السيادة والصمود والتحدي من جهة والجغرافيا المحتلة من جهة مقابلة فارق كرامة للأولى يعادل المسافة بين الأرض والسماء.
وأما فارق المعيشة، فنجوع أحراراً ونسعى للكفاية ويموتون جوعاً وخوفاً ومهانة وذلاً تحت أحذية الاحتلال وعصاباته ولا يكتفون.
نصنع سلاحنا تحت الحصار من المسدس إلى الطائرات، ومن الرصاصة إلى الصاروخ، ونُركِّع دول الوفرة والعدوان لمشيئة شعبنا المشروعة في الحرية والاستقلال؛ بينما يراهن الخانعون على ترسانة سلاح كوني أمريكي في تركيعنا عبثاً ويواصلون الركوع والسجود لأحذية البعران الملوك وتهرسهم طائرات أربابهم، فتشهد ألسنتهم بأنه «احتلال وعدوان» ويعاودون العكوف لأحذيته راكعين ساجدين لا يملكون من أمرهم شيئاً!
إنه فارق تُوزن بِبَوْنِه إنسانية الإنسان من جهة ونكوص طين الآدمية إلى حضيض الانمساخ والوضاعة في دركها الأدنى من جهة مقابلة. وإذا كانت ثرواتنا ترزح تحت الاحتلال إلى اليوم، فإن حريتنا في جغرافيا السيادة هي ثروتنا الكبرى والكفيلة بتحرير كل الثروات والتراب السليب.
عن هذا الفضاء الرحب من الكرامة الوافرة يعبر سيد الثورة أبو جبريل، ويجسد مكاسبه الاستراتيجية، وقِصاصاً لمعاناة شعبنا يطلق تحذيراته المباشرة لتحالف العدوان وللشركات العالمية المنخرطة في دورة نهب الثروات اليمنية بصورة يومية في الجغرافيا المحتلة من بلدنا، وهو تحذير تدرَّج على ألسنة القيادة في صنعاء تتويجاً بكلمة الحسم اليوم على لسان قائد الثورة بما يعني أن إصبع الرد تلقت إشارة جر الزناد ولا شافع لناهب من هدنة ولا مناص لعالم متواطئ من تداعيات كارثية إقليمية ودولية مترتبة على الاستمرار في تجويع شعبنا بالتوازي مع حصاره ونهب ثرواته.
بمحورية المواجهة كأولوية نخوض تحديات التحول الثوري على أكثر من مستوى مادي وفكري، وكما صنَّعنا السلاح وهو الأعقد بين الصناعات، يبشر سيد الثورة شعبه بولوج حقول الصناعات المدنية ويشخِّص مُعثِّرات البناء، ويجترح فضاءَ تجاوزِها بتثوير العمل المؤسسي والتعاوني الشعبي وإنجاز قطيعة مع ركام الوصاية وموروثها الثقيل، وذهنية الترضيات والمحاصصة وتَقَاضِي ثَمن الإسهام في الثورة بمنظور اقتسام الغنيمة، السائد لدى عدد غير قليل من المسؤولين والوجاهات الاجتماعية.
ولعلها المرة الأولى التي يبسط فيها سيد الثورة معظم الملفات المتعلقة بإشكاليات التغيير على هذا النحو من المكاشفة بِدِقّة، حد الحديث عن معضلة التفاوت الكبير والتضارب في الرؤى المقترحة لحل مشكلات الإدارة والتنمية وضمان التغيير التي يتقدم بها كثيرون إلى القيادة، كلٌّ على حدة وفق مبدأ «رؤيتي هي الأمثل ولا قيمة لأي رؤية أخرى». وهو تضارب وشَطْح يمتد ساحباً ضبابيته وضِيْق أفقه حتى على تقييم أداء وزير ما، فهو «الأفشل في الحكومة وحجر عثرة أمام التغيير» لدى فريق و»الأكفأ والأنسب والذي لا غنى عنه للتغيير» لدى فريق آخر.
تَضَارب ينسب سيدُ الثورة أسبابَه إلى عدم التأني في التقييم وفقاً لرؤية موضوعية تستهدف الرقي بالعمل وتحسين الأداء بمنأى عن غلبة الدوافع الشخصية والأنانيات التي يصدر عنها كثيرون في نقدهم للعمل الحكومي وطرح المقترحات والرؤى البديلة باسم التغيير.
بهذا البسط يؤكد سيد الثورة انفتاح القيادة على الرؤى العملية والهادفة والموضوعية، وأنه ما من رؤية مُثلى وحيدة بل تَعَاضُدُ رؤى تأتلف بصدق ومحبة وسلامة قصد في سياق الرغبة الحقيقية في التغيير وفقاً لمبدأ «التواصي بالحق» القرآني، لا النكاية ولا التأليب والشخصانية المتذمرة والمستاءة على الدوام من كل شيء والساخطة على كل شيء.
يكشف سيد الثورة في هذا السياق عن مُدَوَّنة سلوكية مستوحاة من «عهد الإمام علي للأشتر» وتسترشد بجواهر ما جاء فيها من توجيه وتهذيب للقائمين على الشؤون العامة للناس، وهي مُدَوَّنَة مُلزمة لدوائر العمل الحكومي ولاسيما كبار موظفي الدولة، ومن المتوقع أن يجري تعميمها قريباً عقب إتمام مضامينها ونصوصها.
«فلنعمل سوياً للبناء ولنواجه التحديات معاً» هذه هي المعادلة التي انتظمت خطاب سيد الثورة أو ما يمكن تسميته بالندوة المفتوحة على هواجس اللحظة الراهنة شعبياً ورسمياً بمنأى عن التشظِّي والشطح خارج محورية مواجهة العدوان والحصار كأولوية تتكامل وتأتلف حولها كل الأولويات على قاعدة «البناء والمواكبة».
«لنعمل سوياً ومعاً» معادلة تتوافر على الدلالة الأرقى والأشمل للشراكة بمفهومها العابر لقزامة المفاهيم السياسية والحزبية والمُشْرَع على فضاء إنساني إيماني ثوري أممي رحب وغير مرحلي في مقاربته للعلاقات الإنسانية على مستوى الوطن والأمة وشعوب الأرض.
معادلة كفيلة بِطَيِّ زمن التناحر البيني وتدمير الذات في حلبة المفاهيم الاستعمارية الغربية القائمة على قاعدة تكثير التناقضات المجتمعية أفقياً وعمودياً وإهدار المشتركات الجامعة لمكونات البلد الواحد في علاقاتها ببعضها البعض وعلاقاتها بشعوب الأمة، حيث لا يبقى هناك متسع للحديث عن قضايا مركزية كبرى مثلاً كفلسطين في واقع طغيان التناحرات المناطقية والعرقية والطائفية ومفارز الهويات الانعزالية وكانتونات الفُتات الاجتماعي المجهري.
هكذا تقول الثورة نفسها، وهكذا تفعل، وهكذا تكلم سيد الثورة السيد القائد عبدالملك الحوثي طالعاً من ثُرَيَّا النصر في مدار العام الثامن لثورة الـ21 من أيلول الفارقة، قائداً وشعباً وبطولات وملاحم.. وفتوحات قادمة فوق حسبان العالم..
هكذا تكلم أبوجبريل، القائد الذي لا يستريح على قارعة الثورة.

أترك تعليقاً

التعليقات