وثباً فوق مخزون الكساح
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

لا يمكن للمولودين من رحم الوصاية والراضعين من أثدائها المسمومة عقوداً أن يكونوا رافعة لثورة تصبو ـ جادة ـ إلى إنجاز الحرية والاستقلال والقطيعة مع زمن الوصاية، وإن بدا أنهم كذلك، فإن على الثورة أن تبحث لها عن مسمى آخر سوى مسمَّى (ثورة).
إن الثورة كمقاربة جذرية راديكالية للتغيير هي في غنى ـ ضِمنياً ـ عن مجمل مدخلات منظومة الوصاية التقليدية المستهدفة بالتغيير لجهة بديل ثوري نقيض لها ذهنيةً ومفاهيم ووظيفة وأطراً وآلياتٍ وفلسفة عمل، فالمراكمة الإيجابية لا تكون على مداميك وروافع سلطة الحكم بالإنابة للهيمنة العالمية وذهنيتها الاستهلاكية الكسيحة والمستلبة بالمطلق لسطوة مصالح السوق الامبريالية، وإنما تكون المراكمة على الأصيل الشعبي القيمي ونتاجاته الحضرية المادية والأدبية المغبونة والمقصية والمغيبة عمداً والمحنطة متحفياً على سبيل (الفولكلور) تحت سماء الوصاية الثقيلة والقاتمة.
تصنفنا آلة الدعاية الامبريالية ـ من قبل ومن بعد اندلاع ثورة أيلول ومن قبل وأثناء العدوان ـ بـ(الحفاة والمتبردقين والمتخلفين والرعاع والأجلاف،..) وهي ـ بطبيعة الحال ـ أوصاف لا تشذ كثيراً على الحقيقة ولا تجافي الواقع.. إنها أصدق أكاذيب الامبريالية وتوابعها المحلية والإقليمية بحقنا على الإطلاق، فلو لم نكن كذلك لكُنَّا في عداد سرَّاق الأقوات والقطط السمان ونخبة بيادق ودمى الحكم المخملية التي تنتعلها أمريكا وربائبها من صهاينة وعربان لـ(قضاء الحاجة)، ولما كنَّا ثواراً يثيرون حفيظة (العالم الحر).
وحدهم الأنبياء ومن معهم وصموا بالنقائص وبـ(الأراذل بادئ الرأي)، ووحده (الإمام علي) وحزبه من أشياعه وذريته كان هدفاً لتنكيل أئمة الإقطاع والاستكبار، لأنه كان مجنَّاً للمسحوقين والمستضعفين من كل لون؛ وأولئك هم أعظم الثوار.
وتصفنا آلة الدعاية الامبريالية بـ(الفئة القليلة) في واحدة من أصدق أكاذيبها الأخرى بحق ثورة 21 أيلول، فالقادمون من خارج حظائر الوصاية والعبودية ومن غير مراكز قوى النفوذ المؤلفة لسلطة الحكم بالوكالة، هم قلة حملوا على كاهلهم آمال وآلام غالبية الشعب المقصية، وترجموها ثورة على غالبية سلطوية تحمل على كاهلها قلة سياسية مسيطرة باستحقاق وظيفي كمبرادوري قوامه تمثيل مصالح الغرب الامبريالي على حساب بلدها وشعبها.
وهل كان يتعين أن يقود الثورة (رجل من إحدى القريتين عظيم) لتحظى بشرعنة زمن الوصاية وتزكية عبيدها الموزونين بحجم الأغلال التي تغل أعناقهم للغرب، بحيث لا وزن ولا شرعية لمن لا أغلال على أعناقهم ويرفضون الوصاية والتعبيد؟!
هل كان يتعين أن يرتدي الثوار أربطة عنق أنيقة لكي يثبتوا يمنيتهم وعروبتهم، ولا يوصموا بالمجوس والفرس والصفويين والروافض؟!
هل كان ينبغي أن تتعمد شعاراتنا الثورية بحنجرة (مارسيل خليفة وماريام فارس وأحمد فتحي وعطروش وطارش والحداد وكعدل وبلقيس والجسمي)، لتصغي جوارح المذعورين من هدير حناجر البسطاء والغلابى وكائنات حضيض التفقير والقهر والاستعلاء الطبقي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والطائفي والمناطقي؟!
إن الأوتار التي عزفت ألحان الوصاية والكرنفاليات الوطنية الممجدة للوهم والمفارقة لواقع الشعب وحقائق التاريخ والصراع، لن تنتج معزوفة الاستقلال الذي ننشده، مهما كان قدر أصحابها ومكانتهم، فالثورة التي تغري مشاهير المطربين بالغناء في موكبها هي وليمة عرس دسمة وحفلة ارستقراطية باذخة، لا ثورة مسحوقين تشق طريق الخلاص عبوراً على الأشواك والجمر وسكاكين وألغام المؤامرات والحرب النفسية.
لقد برهنت لنا سنوات العدوان الأمريكي الامبريالي الثلاث على شعبنا وبلدنا أن جيوش منصات الاستعراض النظامية لا يمكن الرهان عليها في حربنا الشعبية الثورية على طريق الحرية والاستقلال، وأن بنادقها الميري المحشوة بالولاء لمن يدفع الراتب، لا تصنع الانتصار المنشود، وأن مخزون ذخائرها الذي دفعنا فيه ثمن الكسرة والدواء لا يقتل الأعداء، حد أمل دنقل.
وكما أمكن للثورة أن تخوض الحرب في مواجهة تحالف عسكري كوني، بالمقاتل العقائدي وقلة من شرفاء وأحرار الجيش النظامي، وتنزل الهزائم بالعدو على تفوق عتاده وعديده، فإنها في مضامير المواجهة الأخرى السياسية والاقتصادية والفنية والإعلامية، لا تشكو ولن تشكو العوز إلى مقاتلين عقائديين يجترحون مسارات مغايرة خلاقة للبلد والشعب بمنأى عن الركون لعكاكيز زمن الرق المنخورة بالخواء وفقدان الذات..
إن لـ(أحمد العزي وأبو الحسن المداني وأبو حرب) نظائرهم في كل مضمار اشتباك، وكل أفضال زمن الوصاية ومخزونه ورموزه لا تزن مثقال ذرة في حساب الولادات الثورية الخلاقة التي يشهدها زمن الـ21 من أيلول العصامي الباذخ القامة وثباً فوق خذلان كائنات الكساح ورهانات الأحياء الموتى.

أترك تعليقاً

التعليقات