رئيس التحرير - صلاح الدكاك

عند دلتا تقاطع دمعتين مترعتين بالدم في عيون (حمدة) السيدة اليمنية المأربية الصرواحية؛ أرى مصرع خرافة العالم الحر المتحضر وإلياذات الحقوق والحريات العامة الطبيعية والمكتسبة وأسفار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي عكفنا على مدى عقدين نستمطرها بلسماً لأوجاع الآدمية المصنفة في حضيض (العالم الثالث)..
(حمدة) التي أفاقت صبيحة الأول من يناير على ذريتها المديدة وقد أحالتها (الإف 16) كومة رماد في إحدى قرى صرواح، لا تعرف شيئاً ـ البتة ـ عن نظام البوفيه المفتوح وأطباق البتيفور وشطائر الهمبرجر وقهوة الاسبريسو وعوينات سينما الثري دي المستخدمة في ورش التدريب الحقوقي وندوات مناصرة المرأة بفنادق الخمس نجوم...
كل ما تعرفه (حمدة) هو أنها سليلة صخر شاهق أنجب قبل آلاف السنين ملكة ذائعة الصيت اسمها بلقيس، وأن عليها هي الأخرى أن تنجب سواعد سمراء تحرث الصخر والرملة لتستولدها كرامة وكرماً وحريَّةً وجناناً وحياةً لا تركع عند أقدام شيوخ البترودولار متسولة فُتات المكرمات..
لم تتكرش (حمدة) ـ كحال غالبية مواليد أنابيب المنظمات المانحة ـ بعشم نجدة المواثيق والمعاهدات الدولية، لذا فهي تدرك أي باب تقرعه وأي سبيل تسلكه في طلب النجدة والتماس العون بوجه عدوان كوني افتتح العام الجديد بوليمة آدمية قوامها كل أحفادها وأقاربها... غير متوسلة وسيطاً بينها وبين السماء، رفعت (حمدة) كفيها المخددتين بالشقوق والدمع المترع بالدم ينز كثيفاً، وابتهلت: (اللهم انتقم من آل سعود..) و... صمتت مفسحة المجال لرجع الإجابة الحتمي.
قال لنا محاضرو منظمات المجتمع المدني: (هذه هي الحقوق..)، لكنهم لم يقولوا لنا (من هو الإنسان الجدير بها!).. ولا ما هو لونه وجنسه ومعتقده؟!، واكتشفنا لاحقاً أنه ما من إنسانية حريَّةٍ بالحقوق والحريات سوى (السوق)، وما من إنسان سوى أولئك المدونين على قوائم (وول ستريت) بوصفهم سوبرمانات المال والأعمال، في عالم يمسح بالعملة الصعبة سوأة شيخ النفط، عوضاً عن أن تمسح مواثيقه ومعاهداته دمع (حمدة)...
انظروا في عينيها ـ فحسب ـ لتدركوا ضآلة الأبجدية، أمام سعة حدقات (حمدة) ورحابة أجفانها وغور بؤبؤها دلالة وتعبيراً عن مأزق الإنسانية المهروسة بجنزير أكاذيب الحضارة الرأسمالية المعولمة وعصر ما بعد المعلوماتية...
انظروا في عينيها لتدركوا أن العالم ليس قرية صغيرة كما قيل، بل ماخور يتوضأ فيه طويل العمر بالخمر والخام، ومسلخ بشري مؤثث بأشلاء الشعوب المستضعفة..
لذا فإن المواخير والملاهي الليلية ـ رغم إدانتنا للإرهاب أياً كان المستهدف به ـ تستقطب تعاطفاً دولياً كلما ارتدت شظايا استثمار أربابها في سوق داعش إلى صدور المستثمرين، ولو أن اليمنيين قبلوا أن يتحول بلدهم إلى ملهى ليلي مفتوح لنزوات شيوخ القبح والصديد وأوغاد مشاة البحرية الأمريكية ومسوخ الموساد، لحصدوا تعاطف العالم إزاء قطرة دم تسفح ظلماً وعدواناً من وريد قطة متشردة في أزقة اليمن، إلا أنهم أرادوا الحياة أنداداً بكينونة وطنية كاملة، فاستحقوا ألا تثير بحار دمائهم المسفوكة حفيظة العالم المنافق، أو تسترعي انتباهه.
إن ما قبل العدوان الأمريكي السعودي على اليمن، لن يكون شبيهاً بما بعد انتصار الإرادة اليمنية واندحار العدوان والمعتدين، إذ لن يكون بوسع إنسان الحضارة الغربية الرأسمالية المعولمة أن يزاول إغواءه بوصفه الأنموذج الأرقى للكمال البشري، بعد أن مزقت أظافر أطفال اليمن المبتورة كل ماسكات وأقنعة دعاواه، وفقد وجهه جاذبيته مسفراً عن ذات بخسة قابلة للتداول في البورصات والمزادات كأحط السلع.
أجل، إن العالم مدين لليمنيين بجل الفضل في تداعي ديكورات الديمقراطية والحقوق والحريات والمواثيق والمعاهدات وقيم الحداثة وما بعد الحداثة الزائفة، وانحسار مد الخرافات الأمريكية التي جلدت بها واشنطن ظهور الشعوب والأمم على مدى أكثر من عقدين، كما والفضل في انكشاف طهرانية الأمم المتحدة المتوهمة عن سوق نخاسة وضيعة وبورديل رخيص يحكمه البنكنوت والاحتكارات الحربية.
و(دمعة حمدة) هي طوفان سيجرف ما تبقى من مساحيق حضارية في وجه العالم الحر.

أترك تعليقاً

التعليقات