الوثوب من غيابة الجُب
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

لكي يعرفوا قيمة اليمني " الوثوب من غيابة الجُب "


اقترنت النشأة الأولى للكانتونات الخليجية الطافرة من رحم النفط، بخواء حضاري عضال لدى مشيخاتها المستزرعة استعمارياً لغاية وظيفية محضة، ومن احتدام جدل الوفرة المالية مع الشعور المرير بخفة الوزن حد التلاشي تخلَّقت خلطة الغطرسة والفوقية واستهجان الآخر الأصيل والوازن، لتصبح ميكانيزماً رئيسياً ومحورياً متأصلاً في التكوين النفسي والاجتماعي والذهني لمجتمعات الطفرة النفطية حكاماً ومحكومين..
في مجتمع الصحراء البسيط السابق لظهور النفط وما ترتب عليه من نشوء كيانات سياسية وأسواق استهلاكية معقدة وباذخة، كان طول العمر بالنسبة للفرد عبئاً ثقيلاً وباهظاً ليس من الود أن يدعو به أحدهم للآخر بفعل شظف الحياة، ثم غدا طول العمر صفة حصرية ملازمة لأفراد العائلات المالكة، ملازمة اللقب، وبات لازمة لغوية من لوازم تأكيد الود في أحاديث عامة الناس اليومية بينهم البين، لمَّا شاع الرفاه الناجم عن الوفرة الريعية..
هكذا بات لدى الفرد حاضرٌ رغيد لا يسرُّه معه استذكار ماضٍ بائس، ولا يعوزه التفكير في مستقبل مضمون الرفاه، ما بقيت خراطيم آبار البترول تضخ أوراقاً مالية بلا منتهى منظور، وتأسيساً على ذلك حلت القدرة على الاقتناء محل القدرة على الفعل، وهيمن الاعتقاد بأنه ما من قوة تعلو قوة النفط، وما من ثمين أياً كان فوق طائلة الاقتناء والحيازة، بدءاً بالسلعة المادية وصولاً إلى الحضارة والتاريخ والفنون والآداب والإنسان ذاته رجلاً كان أو امرأة، وسياسياً أو عالماً ومفكراً ومبدعاً في أي مجال من مجالات الإبداع ومناشطه.
لقد ملأ مجتمع الخدر الريعي الخليجي خواءَه الحضاري بالمقتنيات، ودَهَنَ عقدة فقدان الوزن بمرهم استفراغ الآخر الأصيل (اليمني مثالاً) ضمن دائرة حيازاته نسباً وفناً وأدباً وتراثاً وتاريخاً وقراراً سياسياً، إذ لم يكن في مقدوره ولا في إرادة مهندسي كيانات الطفرة النفطية الغربيين، أن تقوم علاقاته كطارئ مع محيطه الأصيل على مبدأ التناسج والتثاقف وندية الأخذ والعطاء، بل على قاعدة التجريف لهذا المحيط الحيوي الحضاري، وتزوير وتغييب صكوكه الموضوعية العريقة، وتعميم ثقافة الاستهلاك السلبي واستهجان الذات الأصيلة كنهج ومسار رسمي وشعبي في ذهنية وأداء حاكمي هذا المحيط الحضاري ومحكوميه على السواء.. إن هذا ـ بالتحديد ـ هو القاع العميق للوصاية والهيمنة الذي أراد الغرب الاستعماري وخطط للزج بمجتمعات الشرق العربي والإسلامي الحضارية الوازنة فيه، عبر كيانات الطفرة النفطية كوسيط تنفيذي بلبوس عربية وإسلامية مستفرغة بالأساس لمشروعه منذ صفر النشأة.
لقد دفعت اليمن ـ في هذا السياق ـ أبهظ الأثمان، فعاشت طيلة عقود ما بعد الطفرة النفطية الخليجية التي انفجرت مطلع الستينيات، بلداً مجيَّراً في معظم طاقته البشرية للسوق السعودية والإماراتية الناهضة تجنيساً وعمالة وكوادر وأحلاماً وطموحات، ولم يتسنَّ لليمني بفعل الوصاية السياسية على قراره الوطني، أن يفكر في تقييم ممكناته وإمكاناته للنهوض كرقم وملامح مائزة بمعزل عن الانصهار في أفران التجيير الريعي والسعودة والخلجنة على شتى مستويات وجوده الحضاري..
في 1974م وقفت الإمارات العاثرة بالقصور الذاتي، متكئة على عمود انتساب (مؤسسها) الفقري إلى القبائل اليمنية المهاجرة بعد تهدم سد مأرب، وفي 1988م دشن (زايد بن سلطان) سداً كارتونياً عاثراً في مأرب بتمويل إماراتي وعمالة تركية، بغية تجريف وطمر قواعد ومداميك السد اليمني العظيم، بالتوازي مع استنبات السعودية لطفيليات الإرهاب التكفيري في وادي مأرب، على حساب الكنوز الفكرية الثمينة لإنسان (مدينة بلقيس ـ عاصمة حضارة سبأ)، وعلى حساب الإسلام المحمدي التحرري العصامي الفاعل؛ وكذلك فعل ملوك البترودولار في مختلف بقاع اليمن، فأفسدوا ترابها وحرثها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة ما أمكن لهم.
عاش اليمني في منظور ذهنية الاستهجان السعودي، محض (زيدي متشمِّم)، ولم تكن الزيدية كمذهب هي المقصودة بهذا التوصيف المبتذل البذيء، كما قد يُفهم من منطوقه، وإنما المقصود جنس اليمنيين بالعموم على تنوع روافدهم الفكرية والمذهبية، كما هو معلوم لدى غالبية مغتربي اليمن في المملكة منذ الستينيات.
أما كنوز اليمني المسروقة علانية ـ لا سيما الفنية ـ فيجري تعريفها لدى عموم الأوساط العربية، إلا قليلاً منها، بوصفها كنوزاً خليجية من قبيل ممالأة وتملّق الخواء الخليجي المتخم بالمال، في الغالب، ومن قبيل الجهل بأصول تلك الكنوز بالنسبة للناشئة العربية وشريحة الشباب.
من عمق المملكة، وانطلاقاً من هذا الوعي المتألم بالغبن والثائر عليه، لا اعتباطاً، أطلق أحد مقاتلينا الأبطال في الجيش واللجان مقولته المدوية الهادرة الشهيرة (سنلقنهم دروساً قاسية لكي يعرفوا قيمة اليمني).. وللأسباب ذاتها راجت وانتشرت في الشارع اليمني عبارة (سلِّم نفسك يا سعودي)، فقد بدٍأت قيمة اليمني تعود لما هي عليه، من حروف هذه العبارة، ناصعة وجلية وعُلْيا كما كانت قبل عقود السعودة والخلجنة والغبن الممنهج والتغييب، وبدأ اليمني يأخذ موقعه الجدير به كفاعل كامل الاعتبار والذات في معادلة الاشتباك مع الآخر الوصي وأدواته الطارئة على خارطة الوجود الأصيل.
أجزم أن ثورة أيلول 2014 في إحدى غاياتها الكبرى، اندلعت لتعيد إلى الذات اليمنية قيمتها التي اتَّجرَ بها الساسة الأقنان في مزادات الروث السعودي عقوداً، نظير تثبيت شيوخ النفط اللقائط لهم على كراسي القنانة الحاكمة.
إنها قيمة مغبونة حتى لدى الإخوة العرب في مجتمعات البلدان الأصيلة بفعل تفريط الأقنان والنخب من المنتسبين لليمن، وقد آن أوان عودة بهاء النبوة إلى وجه (يوسف اليمني) وصولجان الفعل لقبضته المقتدرة، والبصر لعيون شعب اليمن الكظيم بعد طول ابيضاض وبثٍّ وحزن..

أترك تعليقاً

التعليقات