رئيس التحرير - صلاح الدكاك

كانت أفغانستان تسبح في بحيرة من الدم المسفوك على شرف آلة الاحتلال الأمريكي، حين خرج نشطاء غربيون في تظاهرة احتجاجية منددة بوحشية دمية واشنطن (حامد كرازاي) الذي يعتمر قبعة مصنوعة من جلد حيوان بري على وشك الانقراض.
كان (كرازاي) يجري زيارته الخارجية الأولى عقب تنصيبه حينها. وقد أمكن لعدسات العين الأوروبية الرحيمة أن تستشرف روح حيوان مزهوقة خلف خام القبعة الأفغانية الشهيرة؛ لكن القبعة الأمريكية المصنوعة من لحم وجلد وعظام الشعب الأفغاني لم تثر حفيظة هذه العدسات المقعرة والمحدبة، ولم تستوقفها لتذرف دمعة حداد على أرواح عشرات الآلاف من البشر المذبوحين خلفها بجنازير (المارينز) وسواطير ومفخخات فقاسات أمريكا القاعدية التي استبدلت الدمية (الطالبانية) بـ(كرازاي) تدشيناً لمرحلة من القرصنة الكونية هي الأبشع من كل سابقاتها.
عدسات الرحمة الغربية لا ترى دمنا، فهي معصوبة ومغلفة جيداً بغشاوة سميكة من خام البترودولار الثقيل والخفيف، والعالم ليس قرية صغيرة إلا بمقدار انضباط الرحلات اليومية لبراميل النفط المبحرة شمالاً لتصب في كروش ومجارير الاحتكارات الصناعية الكبرى، وانضباط الرحلات اليومية لحاويات السلع الاستهلاكية العملاقة المبحرة جنوباً لتغرق شعوب الصفيح والطين في حضيض العوز والفقر والقهر والتبعية وانعدام الحيلة.
تلك هي المعادلة الغربية الامبريالية الكونية المقدسة التي فصلت المواثيق والمعاهدات والقوانين والاتفاقيات الدولية بناظم عدم المساس بها وتكريس حرمتها بوصفها حزمة نواميس دين العولمة وكتاباً أمريكياً للرأسمالية يعلو ولا يُعلى عليه.
عدَّاد البورصات المالية، لا عدَّاد دمنا وضحايانا من أطفال ونساء، هو ما يأبه له العالم المعولم. وإذا أمكن لدمنا وأشلائنا أن يخسف بأسهم القيم المالية الصاعدة فسيأبه هذا العالم ولا ريب مرغماً لا بوازع الرحمة.
إذا أمكن لدمنا أن يحوِّل مجرى دفق النفط ليستفرغ صديده في هباء الفراغ بين المنبع والمصب فسيأبه هذا العالم مرغماً.
إذا أمكن لأشلائنا أن تتحول إلى شظايا باليستية عابرة لحدود الاشتباك القُطري والإقليمي بحيث يتحطم زجاج نوافذ البيت الأبيض والأمم المتحدة وتتصدع جدران أبهاء مجلس الأمن، فسيأبه العالم لمجزرة أطفال ضحيان والحوك والمحوات ومستبأ والملاحيظ والمزرق ونقم وفج عطان...
ينبغي أن يخاف العالم ليأمن أطفالنا في مهودهم ومسارح مرحهم وتلاميذنا في فصولهم المدرسية وباصات رحلاتهم الترفيهية، ومزارعونا في حقولهم وصيادونا في عرض البحر...
ولا شيء يخيف العالم ويقذف بالرعب في روع جلاديه أكثر من تعثُّر شحنة نفط وحاوية (موبايلات حديثة) خارج مساربها، واضطراب جداول مواعيد المغادرة والوصول في المرافئ والمطارات، وانقطاع التيار الكهربائي عن الشاشات الالكترونية لـ(وول ستريت).
لتفرد نوارسنا أجنحتها البيضاء فوق زرقة البحر الأحمر والعربي، وعصافيرنا فوق جنان البن والبرتقال من صعدة إلى وادي بنا والدور وسردد، ينبغي أن تخلي البوارج الأمريكية الناشبة مخالبها في شرايين الماء سبيلها مرغمة، وتطوي طائرات الدرون و16 وتورنيدو أجنحتها مذمومة مدحورة عن سمائنا.
ليست نذر السلام الذي يلوِّح به العالم المنافق لنا إلا نذر خسارته حرباً انقلب السحر فيها على الساحر بفضل شكيمتنا لا دموعنا ولا رغبة العالم في إحلال السلام حناناً بها.
وليست نذر الحل السياسي إلا نذر معضلات تعصف بتحالف دول عدوان أخفقت في بلوغ غاياتها بعد أربعة أعوام من صمودنا في وجه آلتها العسكرية والحربية، فانفجرت بلاليع تناقضاتها البنيوية الداخلية العميقة على نحو يهدد بانمحاء كياناتها كلياً فضلاً عن أن تمحو وجودنا بعيد الغور والضارب في نواة المكان والزمان.
إن العالم المنافق لا يخشى على دمنا وإنما يخشى منه وتبعاً لمنسوب الدم الذي نبذله في خنادق الحرب دفاعاً عن الأرض والعرض تنفسح فرص السلام الحقيقي ويرتفع منسوب حاجة العالم إلى القبول به.
فليكن وجعنا ـ إذن ـ متراساً للثأر لا خيمة للعزاء.

صعدة لا تشحذ العزاء
في (مران صعدة الشموخ) شهدت ميلادي الثاني... ميلاداً زاهياً مكابراً طامحاً باسقاً متخففاً من معظم شوائب ورسوبيات زمن ما قبل بزوغ جبين (سيدي سيد الشهداء الحسين بن بدر الدين رضوان الله عليه).
زيارتي الأولى لـ(صعدة الثورة) عام 2011 لم تكن نقلةً في الجغرافيا بين مكانين، وإنما نقلةً بين زمنين: زمن الموات الذاتي والجمعي لشعب يرسف تحت غشاوة الوصاية السميكة متعايشاً مع هوانه، وزمن الفرسان والثوار الملحميين بالغي النبل والنقاء الذين أدركت لوهلة إمعان في قسماتهم النورانية أن اليمن والجزيرة العربية على وشك أن تشهد تحولاً جذرياً فوق حسبان العالم وانطلاقاً من كهف الفيوض الربانية المحمدية العلوية الحسينية اليمانية التي استعصى على ست وسبع وثماني حروب إطفاؤها وكبح دفقها وشبت على كل أطواق الحصار والقمع وكلاليب وأقبية التغييب ليتم نورها ولو كره عالم الاستكبار والنفاق.
هذه صعدة التي يرى المطعون تركي المالكي في قامات أطفالها شماريخ دون قدرة محاجره المطفأة والقميئة على استكناه ذراها، وهذه صعدة التي يمعن طوال العمر والأمريكان والصهاينة في محاجر أطفالها المكابرة بعيدة الرؤية والمدى فيرون مصارع ممالكهم وكياناتهم بينةً جلية فيتطببون من يقين نهايتهم الحتمية باستهداف المهود والمحاضن والمراكز الصيفية ومسارح الطفولة في صعدة كما فعل فرعون تلافياً لبشارة الحتف فأدركه الغرق في لجج وعيدها ولم تغن عنه المجازر والاستحياء وسواطير الذبح.
هذه صعدة التي تغزل أكفان ملوك الاستكبار وتوابيت حتوفهم بمغازل الأمهات الصابرات المجاهدات وفوهات رجال الرجال، ولا تتسول صدقات اليونيسيف وعزاء الأمم المتحدة لترفأ جراحها...
هذه صعدةٌ وهذي الجروحُ
كربلاءٌ من كل شبر تفوحُ
عبثاً نالت المحارق منها
لم يزل وجهها الوضيء الصبوحُ
خرجت من جحيم نيرون أزهى
وتردّى المبيحُ والمستبيحُ
وأطاح الدم الحسينيُّ بالسيف
وأودى بذابحيه الذبيحُ
هذه صعدةٌ وبين يديها
خافقي كل نبضه تسبيحُ


أترك تعليقاً

التعليقات