«بافر ستيت» جديد لحصار سورية
 

موفق محادين

موفق محادين / لا ميديا -
لقراءة وتتبّع خلفية ما يجري من أحداث في البادية السورية الشمالية - الشرقية، كما الجنوب السوري، نستحضر المشروع القديم - الجديد الذي يحكم هذه الخلفية، وهو مشروع الـ"بافر ستيت" بأهدافه المتعددة: أولاً: فصل سورية عن العراق وتفكيك أيّ شكل من الترابط بين أطراف محور المقاومة، وثانياً: تطويق سورية بكل حدودها بأشكال من المناطق العازلة.
الـ"بافر ستيت" حاجز وظيفي بشري - طبيعي معروف في الجيوبوليتيك وخرائطها الاجتماعية للعزل بين دولتين أو أكثر أو بين جماعات سياسية، سواء كانت متحاربة أو متناقضة أو متجانسة، لمنع اتحادها أو تنسيق سياساتها.
وقد شاع كسلوك سياسي بعد الحروب التي شهدتها أوروبا خلال تفسّخ النظام الإقطاعي البابوي لمصلحة ميلاد أمم وثورات قومية برجوازية، وكان من تداعياتها مثلاً تأسيس بلجيكا كدولة حاجزة، قبل تعميم هذا النموذج في مناطق الصراعات الأخرى للرأسماليات الصاعدة وحروب النهب التي أشعلتها في كل العالم، والتي نجم عنها تشكيل دول وظيفية حاجزة في آسيا وأفريقيا، مثل أفغانستان وبقية البانتوستانات السياسية التي أعلنت في الشرق الأوسط على شكل دول مستقلة.
يُشار في هذا الصعيد إلى أن الإمبريالية البريطانية بعد تجربة محمد علي في مصر ومحاولته توحيدها مع بلاد الشام وحصار إسطنبول نفسها بعد هزيمة الجيوش العثمانية على يد الجيش المصري، وبعد شق قناة السويس وأهميتها على طريق الهند الشرقية، قررت إقامة أول "بافر ستيت" في الشرق الأوسط يفصل مصر عن سورية، هو الـ"بافر ستيت" الصهيوني، وإلى جانبه خاصرات رخوة و"بافر ستيتات" أخرى تفصل الكيان عن الشرق العربي، وذلك وفق مذكرات باحثين وسياسيين إنكليز متخصصين في المنطقة، مثل ماري ولسون وكيركبرايد، المعتمد البريطاني الأسبق في شرق الأردن.
إلى ذلك، وبعدما توهم البعض أن المنطقة في طريقها إلى أجواء باردة، وأن الحصار الأمريكي الإجرامي حول سورية قد يرفع نسبياً، اعتماداً على تحسن في العلاقات السعودية - الإيرانية وانفتاح دول عربية على سورية، التي استعادت مقعدها في الجامعة العربية، فات هذا البعض أن تلك المؤشرات جزء من استراتيجية أمريكية مجرّبة، أولاً للاحتواء والقضم التدريجي لأطراف محور المقاومة وتفكيكها وعزلها عن بعضها البعض ما أمكن وتوسيع مساحة القوى الناعمة داخل هذا المحور، وثانياً تمهيداً لانسحاب أو إعادة انتشار قوات الاحتلال الأمريكي واستبدالها بقوى محلية وإقليمية وأشكال من الفوضى المبرمجة، وثالثاً بالتقاطع مع تصورات العدو الصهيوني التي تنطلق من تحديد محور المقاومة، وخصوصاً حزب الله، كمصدر قلق كبير لا بد من إضعافه أو استنزافه في استدراجات محلية معروفة.
وأياً كانت السيناريوهات المحتملة المذكورة، فثمة معطيات واضحة تدل على أن الاحتلال الأمريكي في سورية، بل في عموم المنطقة، ومعه العدو الصهيوني، وأدواتهما، في طريقهم لإنتاج طبعة جديدة من التدخل الوقح والعشرية السوداء، سواء بإعادة إنتاج أدوار سابقة معروفة أو إدخال لاعبين جدد أو إحداث تحولات عند لاعبين إقليميين من الكبار والصغار على حد سواء.
ومن ذلك، ليس من الصعب ملاحظة الاستعدادات العالية في أنقرة لتقليص مساحة المناورة مع موسكو في مقابل إضعاف "قسد" ومشاركة تركيا في احتضان قسم من العشائر العربية بغطاء الرعاية السنية، آخذين بعين الاعتبار التجربة السابقة لقبائل الصحراء السورية والعراقية وامتداداتها الإقليمية، السعودية والأردنية، وهو ما سنتناوله في هذا المقال.
تستعاد فكرة الـ"بافر ستيت" مجدداً كما انطلقت عام 2011 عبر حشد تجمع إقليمي ودولي كبير ضد سورية، وبمشاركة العدو الصهيوني ومال وإعلام النفط والغاز المسال والإسلام الأطلسي، كما عبر خليط من الثورات الملونة والجماعات التكفيرية المسلحة وما يعرف بالصحوات العشائرية وارتباطاتها المتناثرة بين أكثر من عاصمة.
وكان ملاحظاً في كل ذلك الإيقاع المشترك لما سبق مع النقاط الحساسة للجغرافيا السياسية السورية وجيرانها من كل الجهات، وأكثر من خاصرة ذات لون جهوي، ما يسمح بتحويلها إما إلى مناطق عازلة وجزر وبؤر توتر، وإما إلى "بافر ستيتات" حدودية عسكرية – جهوية، من عناوينها وترميزاتها الفاقعة بعض الحراكات العشائرية شرقاً وجنوباً، والرايات الطائفية ورسالتها التمزيقية التي قد لا تكون بعيدة عن مؤتمر عقد في عاصمة شرق أوسطية بحضور عضو من الكنيست من جماعة نتنياهو.
كانت الـ"بافر ستيت" هي الأكثر خطورة، بسبب وظيفتها المركبة، الطائفية والجهوية التمزيقية من جهة، ولوظيفتها العسكرية الأمنية في عزل أطراف محور المقاومة وعواصمه من جهة ثانية، وكانت البداية إقامة تنظيم "القاعدة" و"جبهة النصرة" في القصير، مقدمة لوصل القلمون مع الحرمون (جبل الشيخ) والجولان المحتل، أي لربط الجماعات التكفيرية مع "الجيش" الصهيوني، ولعزل حزب الله عن سورية وبقية محور المقاومة.
عندما تمكَّن مقاتلو حزب الله والجيش السوري من تصفية إمارة القصير، انتقلت واشنطن و"تل أبيب" وتحالفاتهما وأعوانهما في المنطقة إلى تشكيل "بافر ستيت" آخر على الحدود السورية - العراقية ممثلاً بإمارة "داعش"، التي سرعان ما ضمت الموصل بلا قتال، وفي سيناريو معروف خرج من رحم مؤتمر إقليمي آخر عقد في العاصمة العربية ذاتها، وكان يستهدف إعلان الموصل عاصمة لحكومة عراقية مؤقتة بديلة لبغداد، قبل أن تحولها أطراف دولية إقليمية متنافسة إلى إمارة تابعة لـ"داعش"، لأغراض الـ"بافر ستيت" في عزل سورية وحزب الله عن بقية أطراف محور المقاومة.
وقد لا يعرف كثيرون أن تركيز الحلف المضاد على البادية السورية - العراقية كشف أيضاً عن تنويعات اجتماعية - سياسية لعشائر وقبائل البادية المذكورة لم تظهر في صورها الواضحة كما ظهرت مؤخراً.
وهنا، قد يستغرب البعض أو يدهش إذا قلنا إن أوساطاً واسعة من قبائل البادية المذكورة وامتداداتها النجدية التي تشمل أودية وجبال الجوف والسكاكة وطبيق والسرحان انقسمت منذ القرن التاسع عشر بين تيارين: تيار جرفته الوهابية ووظفته بريطانيا ضد تركيا المترنحة آنذاك، وخصوصاً من قبائل وعشائر العنزة، وتيار من قبائل شمّر توزعت ولاءاته بين آل رشيد وعلاقتهم مع الأتراك، والجربا وما عرف لاحقاً بالصحوات التي جندها الأمريكيون وتحالفاتهم في المنطقة، سواء خلال العدوان على العراق أو العدوان على سورية.
انطلاقاً من المشهد السابق، وفي إطار احتمالات العودة الأمريكية إلى إشعال النار مجدداً في سورية، مقدمة لترتيبات جديدة من إعادة الانتشار في المنطقة وبناء "بافر ستيتات" مركبة عشائرية - كردية، يمكن رصد حركة العشائر واصطفافاتها، وكذلك بعض الجماعات التي تورطت سابقاً في مشروع أمريكي - صهيوني لتمزيق سورية والعراق وإقامة كونفدرالية واسعة، بحيث تشمل الأردن والأنبار وجبل العرب.
على صعيد العشائر:
- العشائر المتحالفة مع الدواعش في قلب البادية وحول قاعدة التنف.
- العشائر المتحالفة مع الأتراك.
- عشائر وطنية أقرب إلى محور المقاومة، وتحديداً سورية، وهي مرشحة لأداء دور أكبر وأكثر تأثيراً بالتوازي مع تأكيد دمشق وقوى المقاومة أولوية تطهير سورية من الاحتلال الأمريكي والتركي والصهيوني وأدواتهم.
- العشائر التي ألحقها الأمريكيون بـ"قسد"، والتي دخلت في توتر معها ريثما يتبين الخيط الأبيض من الأسود في مستوى العلاقة التركية الأمريكية واستعداد تركيا لاستدارة كاملة نحو الأطلسي.
- العشائر التي عرفت بالصحوات بعد العدوان على العراق، والتي كانت متعددة الولاءات: أمريكا والسعودية والأردن. وقد ظهرت بأسماء جديدة بعد العدوان على سورية، وكانت تمتد من أطراف درعا والسويداء إلى قلب البادية السورية، وارتبطت بعلاقات متعددة أيضاً مع بلدان الإقليم الأخرى، وتحولت في الفترة الأخيرة إلى تحالفات موضوعية مع حملة الرايات الطائفية في السويداء، وصارت موضوعاً لدعوة بعض الإعلاميين إلى إقامة منطقة حاجزة.
يُشار أخيراً إلى تعالقات مماثلة ذات صلة في لبنان (افتعال الاشتباكات مع مخيم عين الحلوة، وتصعيد لهجة القوى الانعزالية)، وفي كركوك كفسيفساء قومية وطائفية برسم التوظف الخارجي: عرب، وتركمان شيعة وسنة، وكرد يتوزعون بين جماعة البرزاني حليف تركيا وجماعة الطالباني المنفتح على إيران، وحزب العمال الكردستاني، وجميعهم ضمن الحيثيات المتحركة للأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة.

أترك تعليقاً

التعليقات