عبد الحافظ معجب

عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
رفعت الحضارة الغربية شعار «الحداثة»، معلنة تبني التطور العلمي والتقني، من خلال قيام المجتمعات الغربية بتشجيع الأفراد على الابتكار والإبداع والتعبير عن آرائهم بحرية، مما يؤدي إلى تطور الفنون وعلوم التقانة بشكل واضح، ومنحت لأفرادها بعض الامتيازات، مثل الحريات العلمية والفكرية والحريات السياسية والاقتصادية والفنية والثقافية، والاهتمام الكبير بالعلم والعلوم الحياتية، واحترام المواطنين، والحفاظ على كرامتهم، بتطبيق عادل للقانون المدني، وتبنت الحكومات الغربية نموذج المجتمع الاقتصادي الليبرالي والرأسمالي من خلال تعدد الأحزاب السياسية والنظام الرئاسي والبرلماني أو حتى نظام مجلس الشيوخ (في بعض الدول) والتي تعمل بنظام الانتخابات.
هذا ما تعلمناه جميعاً في المدارس والجامعات وقرأناه ونقرأه في الكتب ونشاهده من خلال الإعلام والسينما والسوشيال ميديا، وكل ما هو حولنا، يقول لنا إن الديمقراطية وحرية التعبير من مميزات الحضارة الغربية الحالية والتي تميزهم عن جيرانهم الشرقيين، حتى أصبحت الحضارة الغربية في عيون كثير من العرب والمسلمين جنة الأرض، ويتمنى كثيرون أن يصبحوا حتى ولو لاجئين في هذه الجنة الدنيوية، وعندما نقارن بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية نشعر أن الثقافة الغربية رفعت مرتبة الفرد واحترمت حقوقه، فيما نغرق نحن بحالة الفوضى والتخلف والجهل والأمية والفساد.
الحقيقة التي غفلنا عنها أن النظام الغربي استطاع من خلال الإعلام والدعاية، تضليل شعوبنا ومجتمعاتنا التي لم تر في الحضارة الأوروبية إلا جانبا واحدا، وهو الجانب المادي، ولا شك أنها حققت فيه تقدما غير مسبوق، ولكننا تغاضينا عن الجانب الأخلاقي المدمر في تلك الحضارة التي تكرس الفردية للإنسان وتحقق له اللذة دون قيد أو شرط، وأعمتنا مساحيق التجميل التي تستر الوجه القبيح لهذه الحضارة أن نكتشف القيمة الحضارية الحقيقية للإنسان، والتي أفقدها الغرب قيمتها، بعد أن دمر الأسرة والقيم والعادات والتقاليد، وجعل الإنسان مجرد عبد لرغباته الاستهلاكية، يعمل ويدفع الضرائب وينفق ما تبقى لديه من مال للرأسمالية المتوحشة التي تحيط به سلعها الإغرائية من كل الجوانب.
كما أن الغرب، باعتبارهم القوة الحاكمة للاقتصاد والإعلام والسياسة، اقتحموا كل مجالات حياتنا، وأصبحوا المتحكمين حتى بتفكيرنا وطرحنا وتوجهاتنا، بعد أن أوهمونا بالقانون الدولي والمنظمات الدولية، والشرعية الدولية، وحقوق الإنسان، وصدروا لنا عناوين الحرية والديمقراطية، والتغيير السياسي والثورات الملونة، وغيرها من الأفكار التي صدقناها وانقدنا وراءها شعوباً وأنظمة، وأمام امتحان بسيط لهذه العناوين العريضة والمطاطية، وجدنا ازدواجية المعايير وزيف حقوق الإنسان في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة حالياً، وبمقارنة بسيطة بين استخدام الغرب لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية في كل من أوكرانيا وغزة نكتشف حجم التضليل الذي تعرضنا له، حتى الشعوب والمجتمعات الغربية «المسلمة» المخدوعة اكتشفت حقيقة الحرية والحق في التعبير عن الرأي، عندما احتجت على إحراق نسخ من المصحف الكريم بالسويد، وتكرر الأمر عندما خرجت التظاهرات المنددة بالجرائم التي تُرتكب في غزة بدعم وتأييد ومشاركة من ذات الأنظمة الغربية التي كانت تنادي بحقوق الإنسان في أوكرانيا، وتقمع من يطالب بإعمال حقوق الإنسان في غزة.
التطور النوعي في انكشاف الزيف بالحضارة الغربية هو الوعي المجتمعي الذي أصبح يحاسب الأنظمة والحكومات في عدد من الدول الأوروبية من واقع الشعارات التي رفعتها، كيف لدول حديثها الدائم عن حقوق الكلاب والقطط، وتصادر الأطفال من أحضان الأمهات بتهمة عدم رعايتهم بشكل صحيح من قبل أهلهم، وفي الوقت نفسه تسهم في إبادة عائلات بأكملها في غزة.
الوعي الإنساني والأخلاقي خلال السنوات الأخيرة تفوق على كل الدعايات الغربية المظللة، وأفشل ما كانت تكرسه الحضارة الغربية من فردية ولامبالاة، وإغراق للمجتمعات بالتفاهة، وتدمير للأسرة، وبلا شك أن هذا الوعي سيلعب دوراً هاماً في انحسار الأكذوبة الغربية ويساعد في تسريع النهاية المتوقعة للحضارة الغربية التي قامت على التزييف والخداع.
الخبير الاقتصادي والسياسي الأمريكي من أصول يهوديّة، بنيامين فريدمان شبه المجتمع الغربي بالدراجة الثابتة التي يُسيّر عجلاتها النمو الاقتصادي، فإذا ما تباطأت هذه الحركة الدافعة إلى الأمام أو توقفت، ستهتز ركائز المجتمع، مثل الديمقراطية والحريات الفردية والتسامح وقبول الآخر، وغيرها، ويغدو العالم مكانا كئيبا، يتنازع فيه الناس على الموارد المحدودة ويرفضون كل من لا ينتمي إلى جماعتهم.. ولو لم نستطع إعادة الحركة إلى العجلات، سينهار المجتمع برمته.
ويرى الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر في كتابه «انحسار الغرب» أن الحضارات مثل الكائنات الحية تولد وتنضج وتزدهر ثم تموت، وفي عمله الموسوعي كان أول من ذكر أن الحضارة الغربية تموت وسوف تحل محلها حضارة آسيوية جديدة، هذه الرؤية طرحها أوزوالد في الفترة ما بين 1918 و1922، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الثانية، وكان طرحاً غريباً وقتها، لأن الكتلة الآسيوية كانت حينها في حالة تراجع غير مسبوقة ومنها الصين والهند وبقية المنطقة الواقع معظمها تحت الاحتلال الأوروبي.
تبدو اللحظة الراهنة مثيرة للتفكير، إذا أخذنا في الاعتبار الربط بين الادعاءات الغربية بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية من جهة، وبين مشاركتها الفعلية في انتهاك حقوق الإنسان العربي والمسلم من جهة ثانية، وهو الأمر الذي يدعو للتفكير كم ستصمد هذه الازدواجية حتى يدرك البشر جميعاً حقيقة هذه الحضارة المدعية؟! وكيف سيتعاملون مع هذه الحقيقة؟!

أترك تعليقاً

التعليقات